حرب غزة.. مفاجأة تلد أخرى

معين الطاهر

لم تكن الحرب في غزة مجرد 51 يوماً من القتال المصحوب بالصمود والإصرار والدمار وآلاف الضحايا، ففي كل يوم من المعركة، كانت تتكشف مفاجآت جديدة، وما تزال مفاجأة تلد أخرى، مثل الدائرة التي يحدثها إلقاء حجر في بحيرة ماء راكد، تتوالد الدوائر فيها، تتسع وتكبر لتشمل كل الضفاف. المفاجآت تتالت خلال الحرب، لتكشف بعضاً من زمنٍ سابقٍ عليها، وتذكّرنا بما نعرف، وتباغتنا بما لا نعرف، وتكشف لنا أشياء مستجدة من تحت نيران المعركة، ومفاوضاتها وتحالفاتها العلنية والمستترة، وتفاجئنا، بعد انتهاء القتال، بواقعٍ جديدٍ، يؤكد أن ما بعد غزة ليس كما قبلها.

حجم الاستعداد لدى المقاومة كان المفاجأة الأولى، بل سلسلة من المفاجآت المتتالية. سنوات من العمل الصامت والدؤوب فوق الأرض وتحتها، حفر مئات الأنفاق، تهريب السلاح وتصنيع الصواريخ، التدريب وإعداد الكادر المقاوم، قدرات كبيرة ظهرت وسط حصار خانق. ومما يشبه العدم خرج المقاوم الفلسطيني، ليفاجئ العدو ويبهج الصديق. بإيجاز، كشف حجم الاستعداد الفارق بين منهجي المقاومة والركون إلى تسويةٍ تلوح ولا تأتي. بين من كان يرسل أبناءه إلى مخيمات بذور السلام ومن كان يرسلهم إلى معسكرات الفتوة. بين من صمدوا تحت الحصار الاقتصادي ومن رسموا سياسات التطبيع الاقتصادي والأمني.

توالت المفاجآت متوالية هندسية خلال القتال. ثمة أنفاق هجومية، تصل إلى خلف الحدود، الانتقال تحت القصف من الدفاع إلى الهجوم، قصف صاروخي لم تخف وتيرته حتى اللحظة الأخيرة، هجمات من البحر ومحاولات من الجو، حظر جوي على مطار بن غوريون، وصول الصواريخ إلى أماكن لم تصل إليها من قبل، أسلحة جديدة يكشف عنها، قدرات متقدمة في تطوير الصواريخ وتصنيعها محلياً، أسر للجنود، استمرار القيادة والسيطرة طوال أيام الحرب، نجاح أمني كبير، وقائمة أخرى تطول.

أما العدو فقد فشل فشلاً ذريعاً في تقدير الموقف، أو تحديد الهدف الاستراتيجي من العدوان. بدايةً، كان الهدف ردع حماس، في إشارةٍ إلى تورطها بخطف المستوطنين الثلاثة، وضرب قدرتها العسكرية. تفكيك المقاومة وإنهاء سلطتها، ونزع سلاح القطاع، ثم تحدث عن عملية برية واسعة، قدر خبراؤه أنها ستستغرق من ستة أشهر إلى سنة، لكنه لجأ، بدلاً منها، إلى الاستخدام المجنون والأعمى للقوة الفائضة، في سياسة تدمير ممنهج ضد أهداف مدنية، لعله يجبر المقاومة على قبول مبدأ هدوء مقابل هدوء، إلى أن تراجعت طموحاته، في النهاية، إلى هدف منع المقاومة من تحقيق إنجاز. وفشلت استخباراته في تحديد المستوى الذي وصلت إليه المقاومة، في تسليحها أو في معرفة الأنفاق وأماكنها، أو حتى أماكن وجود قيادتها. ولم يتمكن من قنص صيد ثمين في أيام الحرب الأولى، ولم يتمكن سلاح الجو من ضرب مخزون المقاومة من الأسلحة والصواريخ، أو قصف منصاتها. وكان قائد سلاح الجو قد صرح بقدرته على حسم معركة غزة في سبع ساعات. لم يجرؤ العدو على التوغل البري إلا لمسافة لا تزيد على كيلومترين، وانسحب فوراً خلف الحدود، لحظة وقف إطلاق النار في المرة الأولى، ليسجل سابقةً، لم يفعلها خلال الصراع العربي الصهيوني. بإيجاز، فشل العدو في رسم استراتيجية دخول المعركة، وفي تحديد كيفية خروجه منها، ما يفسح المجال واسعاً في الأيام والأسابيع المقبلة لتشكيل لجان للتحقيق، بل وإلى انهيار الحكومة نفسها.

بعد أسبوع من القتال، جاءت مفاجأة المبادرة المصرية، لم يتم استشارة المقاومة، أو حتى إعلامها عنها، رفضتها المقاومة في حين سارع نتنياهو إلى قبولها. كان الهدف أن توقع المقاومة على وثيقة استسلامها، لكنها نحتت بذلك شهادة صمودها. وفاجأت الجميع بوحدة في الموقف الفلسطيني في ورقة فلسطينية موحدة، ووفد فلسطيني موحد، بعد أن كان الوضع الفلسطيني قد شهد خلافات كبيرة بشأن مفاهيم المقاومة، وموازين القوى والصواريخ العبثية والتنسيق الأمني. الضفة الغربية كانت لها مفاجأتها أيضاً، حين تحرك الآلاف في ليلة القدر باتجاه حاجز قلنديا في طريقهم إلى القدس، لتثبت الضفة أن فصلها عن غزة لن يتم، وأن معركتهما واحدة على كل أرض فلسطين.

التضامن العربي والدولي الواسع وحملات المقاطعة التي عمت العالم بأسره كانت علامة مهمة في مسيرة الحرب، وأعادت إسرائيل لتواجه مصيرها دولةً معزولةً في نظر الشعوب على الأقل. لم يخفف من وقع ذلك ما أعلنه نتنياهو من الإنجاز الأكبر الذي حققه في هذه الحرب، هو في بناء علاقة تحالف استراتيجي مع دول إقليمية، في محاولة منه لإيجاد دور إسرائيلي عبر محور إقليمي، وهو غير مدرك أن هزيمته هذه ستشكل، أيضاً، هزيمة لحلفائه، إن لم تدفعهم إلى سرعة التخلي عنه.

آخر المفاجآت لم يعد مفاجأة، وهو حديث الرئيس محمود عباس عن مفاجأة ما في جعبته، لكن تفاصيلها ما لبثت أن خرجت إلى العلن. تتضمن المبادرة تقديم مبادرة سلام جديدة باسمه، أو باسم جامعة الدول العربية إلى مجلس الأمن، لإصدار قرارٍ يحدد حدود الدولة الفلسطينية، ويلزم إسرائيل بالانسحاب منها في فترة زمنية محدودة. المزعج، هنا، ما قاله الدكتور نبيل شعث، إنه في حالة عدم استجابة إسرائيل لهذا القرار، أو عدم صدوره نتيجة فيتو أميركي متوقع، فإن الرئيس سيتقدم حينها بطلبات العضوية إلى مؤسسات الأمم المتحدة، وإلى محكمة الجنايات الدولية لمحاكمة نتنياهو. أي، وبعبارة أخرى، سيتم تأجيل طلبات الانضمام إلى عضوية المنظمات الدولية ومحكمة الجنايات إلى فترة لاحقة، ستحددها مبادرة الرئيس. هنا تكمن المفاجأة الفاجعة، إعطاء مزيد من الوقت للاحتلال والاستيطان، ليبتلع ما تبقى من أرضنا.

قبل سنتين، قيل لنا ما يشبه هذا الكلام عن مفاوضات تسعة أشهر، وبعدها يكون من حقنا أن نتخذ كل الإجراءات لحماية شعبنا. انتهى حمل الأشهر التسعة، بعد أن تبين أنه حمل كاذب. في أثناء الحرب، قيل لنا إن الانضمام إلى محكمة الجنايات ينقصه توقيع حماس التي عادت ووقعت الوثيقة المطلوبة. لكن، يبدو واضحاً أنه ما زال أمامنا وقت كثير، سيضيع في دهاليز ضاع فيها مراراً المفاوض الفلسطيني الدائم الذي لا يكل ولا يمل.

هل ثمة مفاجآت أخرى. أكاد أجزم بنعم صارخة، فمنطقتنا تعيش فوق رماد ساخن، وجمرات الحرب لم تنطفئ بعد.