غزة تنهي عصر الغطرسة الإسرائيلية

رأي القدس

لم يكن العدوان الاسرائيلي الاول على الشعب الفلسطيني في غزة، وربما لن يكون الاخير. الا انه الاول الذي تخرج منه اسرائيل مثخنة بكل هذه الجراح، بينما تجرجر اذيال هزيمة واضرار استراتيجية تكفي لاعادة رسم خريطة التوازنات الاقليمية، ووضع عقيدة التفوق و»الذراع الطويلة»، واستراتيجية التوسع الصهيوني اللانهائي (وهي احد الاسس التي قامت عليها الدولة العبرية) محل مساءلة. 

وان كان الثمن الذي دفعته غزة باهظا، بل «يفوق اي خيال» حسب تعبير الرئيس محمود عباس.

لقد نجحت المقاومة في افراغ نصف مستوطنات اسرائيل من سكانها، فيما لجأ الباقون الى الملاجئ، ما يقوض نظرية «فرض الامر الواقع» التي اعتمدتها تل ابيب طوال العقود الماضية. 

ومع كل المداد الذي يراق حاليا تحليلا لنتائج «الحرب»، وهي الكلمة التي تتفادى الحكومة الاسرائيلية استخدامها حتى لا تضطر لدفع التعويضات للمستوطنين، فان الجوهر الاكثر خطورة يبقى ان المقاومة الفلسطينية نجحت في تفكيك كثير من الاوهام، بل وتعرية هشاشة وجود الكيان الصهيوني ذاته، عندما اثبتت ان المستوطنات قابلة للاخلاء خلال ساعات من اولئك المحتلين الذين يدركون جيدا انهم يغتصبون الارض ولا يملكونها، فكان رد فعلهم الغريزي هو تركها خاوية على عروشها، والهروب امام ضربات المقاومة. وفي المقابل تشبث الفلسطينيون في غزة بارضهم، وتكدسوا في مدارس الاونروا بكثافة وصلت الى ثمانين شخصا في الفصل الواحد، بل ان بعضهم رفضوا مغادرة منازلهم حتى بعد ان تلقوا تحذيرات بقصفها. ولم نسمع عن محاولات نزوح جماعي من القطاع، كما يحدث في اماكن اخرى في الشرق الاوسط، رغم ان القانون الدولي الانساني كان ومازال يكفل لهم الحق في طلب اللجوء الى اي بلد حفاظا على حياتهم.

ولم تكن الماكينة السياسية الاسرائيلية افضل حالا من المستوطنين، اذ عصفت بها الانقسامات، وفشل الرقيب العسكري في التعتيم على ما شهدته اجتماعات «الكابينيت» او الحكومة المصغرة من مهازل تنم عن كراهية واحقاد عميقة متبادلة بين اعضائها. واضطر نتنياهو المهزوم الى قبول اتفاق وقف النار(هاتفيا) بدون عقد اجتماع حكومي، وبدون مؤتمر صحافي يعلن فيه الانتصار المزعوم كما حدث في نهاية عدوان الرصاص المسكوب، بعد ان حصل على استشارة قانونية تكفل له هذا(..). الاهم ان نتنياهو توصل الى اتفاق مع المقاومة التي كان شبه احد فصائلها الرئيسية وهي حركة حماس قبل ايام قليلة بانها «ارهابية مثل داعش» في محاولة يائسة لتجييش الرأي العام الدولي والامريكي خاصة ضدها، وايضا سعيا الى انقاذ شعبيته التي اصيبت بانهيار قد يطيح مستقبله السياسي. 

وفي المقابل احتفظ «وفد الجميع الفلسطيني» بوحدته في ظروف بالغة الصعوبة، وهو انجاز يحمل من القيمة السياسية والرمزية ما قد يفوق ما سواه، بالنظر الى ان اتفاق وقف النار الذي تم التوصل اليه امس الاول ليس سوى «معركة اولية» في حرب طويلة من المفاوضات الصعبة لانتزاع باقي الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. 

اما على المستوى الدولي، فان خسائر اسرائيل وصلت الى حد الفضيحة الكاملة، بدءا من التوتر بل والتلاسن العلني مع عدد من اهم حلفائها التقليديين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة وفرنسا، ومرورا بالمظاهرات الشعبية الضخمة المؤيدة لفلسطين في انحاء المعمورة، وانتهاء بقرارات تحمل قدرا كبيرا من القوة الرمزية، ومنها سحب دول امريكا اللاتينية لسفرائها من تل ابيب، وقرار الاتحاد الاوروبي بوقف استيراد البضائع من المستوطنات في تأكيد على عدم شرعيتها.

وماذا بعد؟ ان التحدي الفلسطيني الاكبر الذي لا يجب ان يغيب عن النظر وعن الضمير ايضا وسط الاحتفالات في شوارع غزة والضفة، هو اولئك الذين دفعوا الثمن الباهظ: نحو الفين ومئتين من الشهداء، اغلبهم من الاطفال والنساء والمسنين، ومعهم اكثر من عشرة الاف جريح، واكثر من نصف مليون مشرد فقدوا كل ما يملكون، وتحملوا معاناة تفوق الخيال، ليصنعوا فارقا حقيقيا لمستقبل شعبهم، وعدالة قضيته.

لايمكن ان يكون المقابل الذي نحصل عليه هو مجرد فتح معابر او ادخال مساعدات او تحويل رواتب او توسيع منطقة الصيد، ولا حتى بناء ميناء ومطار. 

لابد ان تدشن هذه التضحيات الهائلة عصرا جديدا من النضال، قوامه الوحدة الوطنية باي ثمن ومهما كانت الخلافات، وهدفه التحرر الوطني الكامل بانهاء الاحتلال لكافة الاراضي المحتلة، واقامة دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة عاصمتها القدس الشريف، وكل ما دون ذلك هو خيانة لدماء الشهداء، ولبارقة الحلم الاخيرة التي اغلقوا عليها عيونهم.

اما على المستوى القانوني فقد حان الوقت لفتح نيران الملاحقات القضائية على مجرمي الحرب الاسرائيليين في كل مكان، سواء عبر المحكمة الجنائية الدولية او حتى اي محاكم محلية في اي بلد في العالم تسمح قوانينه بذلك. 

لقد انهت غزة الصغيرة الفقيرة المحاصرة عصر الغطرسة الاسرائيلية الى غير رجعة، ولم يبق امام العرب الا ان يرفعوا رؤوسهم حتى لا يرونها كبيرة. فهل هم فاعلون؟