الماغوط بين الصوت والصمت

الماغوط بين الصوت والصمت

عمر جلاب

[email protected]

قال الرجل يوما :" لو كانت الحرية ثلجا لنمت في العراء"

بهذه الكلمات المثقلة بكل أوزار القيود،  الحبلى بأنين الاستعباد، أتلمس معكم في صمت خجول دفء النوم  تحت سقف حرية، لما يزل بردها سعيرا يلفح وجه كل ثائر.

كان ذلكم أحبتي، الأديب السوري الراحل، محمد الماغوط .

في أسرة مسربلة بإزار الفاقة والعوز، ولد الأديب ذات 1934م وتحديدا في مدينة السلمية، التابعة لحماة السورية. وكأغلب الأدباء العرب، مر الأديب في طفولته على الكتاب ليتلقى رصيده، ويعب من زاده الأول القرآن الكريم. انتقل بعدها إلى المدرسة الإعدادية، ثم الثانوية في دمشق.

ولعله من الجدير إيراد تلك الحادثة التي دفعت بالشاب إلى العودة إلى بلدته، بعد أن أرسل والده بكلمات إلى الثانوية يوصي فيها بالاعتناء برطب كبده. بيد أن سخرية الحياة كانت قاسية، لما علقت الرسالة على جدران الثانوية تندرا بطلب الوالد، وضربا موجعا لكرامة الشاب الذي لم يحتمل الإهانة  فانكفأ عائدا إلى أبيه وأمه.

كان الشاب يبحث عن دفء الذات، أو كان يبحث عن ذات مزقها سوط برد العبودية، فاختار أول حزب يجد فيه ذلك المطلب، فكان أكثر ما وجده هو المدفأة التي كان لصيقها. ذلكم الحزب، هو الحزب القومي الاجتماعي السوري.

 بيد أن لفح البرد كان أقسى، وإعصار الحياة كان أعتى من حلم الذات لما طورد أعضاء الحزب إثر حادث اغتيال أحد نشطائه. هذه العملية كانت نقطة تحول عميق في حياة الرجل، خاصة  حينما مزق الحزب وأعضاؤه ، وطالهم الاعتقال.

ولرب ضارة نافعة، فحياة السجن كانت بقسوتها هبة من طراز آخر، أتاحت للماغوط بما يسمى التأصيل الأدبي، لما كان ذات السجن يعتصر قريحة أدباء من عيار أحمد سعيد إسبر، المعروف بأدونيس، والذي كان جارا له في السجن.

غادر الأديب وطنه قسرا، سرا، مشيا على الأقدام ميمما شطر بيروت لما أتت قسوة الجلاد على آخر أسلاب الحرية، فكانت الجيرة أدبية وعاطفية. ففي أواخر الخمسينيات، انظم الأديب هناك إلى مجلة الشعر بعد أن قدمه أدونيس إلى الصفوة الأدبية. وهناك أيضا تآكلت أرصفة بيروت تحت أقدام الصديقين الماغوط والسياب. لكن الأجمل من ذلكم هو تعرف الكاتب والشاعر على الشاعرة سنية صالح التي تزوجها فيما بعد.

انقدح أول شرر لشهرة الرجل بعد صدور مجموعته الأولى حزن في ضوء القمر التي أتبعها بغرفة بملايين الجدران، وكانت بعدها العودة إلى بلده.

كان الماغوط لصيق الأرض حبيبها، حيث فتقت قريحته على أبهى ما في الأدب: الشعر. فكانت بداية غادة يافا، أما مولوده الشعري الثاني فكان أثناء التحاقه بالجيش عندما نشر عمله المعروف بلاجئة بين الرمال.

عمل الماغوط في السبعينات رئيسا لتحرير مجلة الشرطة، وكان لسانه فيها شديد اللهجة، نقديا، مما جلب له متاعب جمة. فقرر - بذكاء الأديب الأريب - أن يمارس ألوانا أدبية أخرى طالت المسرح، والسينما، والتلفزيون.

يعتبر الأديب أحد أهم الذين أسسوا جريدة تشرين السورية، وكذا جريدة المستقبل الأسبوعية.

كانت فترة الثمانينات نعمة ونقمة على حياة الرجل:

- نعمة، لما انتقل ليعمل محررا في إحدى الجرائد الخليجية.

- ونقمة، لما أخذ الموت يقطف أحب ما لديه: أخته ليلى، أباه أحمد زوجته، ثم والدته. إذ لم يمهل الموت الأديب لحظة التقاط نفس يصالح فيها الأديب نفسه على هشاشة الحياة والأحياء. بل إن العاصفة كانت قوية، ضربت فأوجعت. سنام أزيز المرجل رحيل البنتين مع زوجيهما إلى ما وراء الضفاف.

لم تشأ الأقدار للأديب أن ينام في العراء، فكان أديم الأرض أجمل صوت للحرية لبى نداءه الرجل لما أسلم روحه لبارئها، بعد أن توقف قلبه عن الكلام.

 فهذا الرجل الغاضب من كل شيء على حد قول درويش :"[...] لم يغضب إلا لأن زنزانة هذا العالم ما زالت تتسع لسجين رأي مختلف ولأن أرصفة هذا العالم ما زالت تزدحم بالفقراء والمشردين، ولم يغضب إلا لأن لفظة الحرية بمعناها الشخصي والعام ما زالت مستعصية  على العرب والعاربة والمستعربة والأعراب".

أرجوحة الماغوط بين يدي الجلاد.

كالأرجوحة هي الحياة. إذا صعدت بك،  نلت منها مباهج الدنيا. وإذا نزلت بك، فإنها تعيدك إلى مقامك الذي انطلقت منه. ولكن احذر أن تتمزق الحبال وأنت على متنها، فتنكب على وجهك.

هذا هو العنوان - الأرجوحة - المشبع بالدلالات والذي اختاره الماغوط واجهة لآلامه وآلام أبناء جيله من السوريين خاصة، والعرب عامة.

الأرجوحة التي قد تكون مورد سعادة وحبور - إذا أمسكتها أياد حانية رؤوفة تؤرجح أحلامك وأفكارك وتعانق معها الحرية كطير طليق الجناحين -. ذاتها، قد تصير مصدر ألم، ودوار، وعذاب، بل وترقب لحظة كسر لا ترممه الأيام، إذا أمسكتها أياد دنستها القسوة.

أنها الحركة المصممة بهندستها البديعة حينما تتناغم مع نواميس الكون، بل هي الفوضى بعينها حينما تشذ عن مدارها فتصطدم بكل عارض.

عنوان يجعل الأفكار معلقة بين السماء والأرض،ويجعل النفس تهفو للتحليق في كل رواح وغدو بحثا عن الحرية. تلك هي الحرية التي يدور حولها النص، في مرحلة مفصلية من تاريخ سوريا أي في الخمسينات من القرن العشرين.

بطلاها فهد وغيمة . مكانها سجن ووطن. زمانها رمن الخنى والاستعباد. شخصياتها دمى تحركها الغرائز البدائية حينما تهبط الأرجوحة بأصحابها إلى الحظيظ، وأشخاص نبيلة لما ترتفع بأرواحهم إلى نبل الأرواح. أما النهاية فهي ذلك التعاطي الحاد للحرية.

ففهد الابن، الذي جلده الأمير بسوط الاستعباد لم يكن إلا ابنا لبسيط من بسطاء سورية. عرف القهر صغيرا، وعاشه كبيرا. عاشه تحت خباء نظام بوليسي إبان الخمسينيات من القرن العشرين. فذا الفهد عرف السجون، أو قل هي التي فتحت أبوابها له.

  من المدينة النكرة - التي ولد بها- ساقته أقداره إلى مدينة ضاربة في عمق الحب. هي دمشق.

 أحب فهد غيمة التي تعرف عليها. مارس طقوس الاحتراق في هياكل الحب، وعلى أراجيحه راح يتحدى. لم تكن علاقته بغيمة التي دامت أربعين يوما غيثا؟، بل كانت هي الأخرى وابلا اقتلع أرجوحة حبه من جذورها، حيث طاردته الآلة القمعية التي أبت عليه هتك الأعراض الزائفة والكذب الاجتماعي الملفق عن الحياء والاحتشام، بعد أن وشت به تلك الشقراء. كان السجن موعد الفهد، نزلا من جلاد قاس، مارس كل ألوان العذاب على النزيل رقيق الحال.

 كان العذاب فوق كل وصف أدبي. جعل من الفهد يتمنى الموت قبل الموت، ليحرر جسده وجعل منه يتمنى أن يفر من وطنه. بيد أن كل هذا لم يحدث حينما خرج الفهد من السجن، فطعم الحرية مذاقه حلو والثمن هو مضاء العزيمة ، والبقاء غصة في حلق الجلاد.

تلكم كانت إشكالية القمع بكل أبعادها، صدرها لنا الشاعر المسرحي في ثوب رواية مشبعة بقليل أفراحها وكثير أتراحها.

على حزن وطن أترككم قرائي  الأعزاء...

بل على أمل أوطان، ألقاكم في حديث آخر من أحاديث الأدب.