دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة 34

دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

فتح دمشق ( 34)

د. فوّاز القاسم / سوريا

قال زكريا بن محمد القزويني عن دمشق : قصبة بلاد الشام ، وجنّة الأرض ، لما فيها من النضارة ، وحسن العمارة ، ونزاهة الرقعة ، وسعة البقعة ، وكثرة المياه والأشجار ، ورخص الفواكه والثمار ..

( آثار البلاد وأخبار العباد 179)

وقال أبو بكر الخوارزمي : جنان الدنيا أربع ، وذكر في أولها غوطة دمشق ، وقال : هي بلد قد خرقته الأنهار ، وأحدقت به الأشجار ، وكثرت به الثمار ، وهي أجلّ مدينة في الشام كلّها ، في أرض واسعة بين جبال ، تحيط بها مياه كثيرة ، وأشجار وزروع متّصلة ، وتسمّى تلك البقعة ، الغوطة ، ليس بالمغرب مكان أنزه منه .

( أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم 157).

كانت دمشق تتربع الغوطة ، أسفل جبل قاسيون الذي يقع إلى الشمال منها ، وكانت محصّنة بأسوار سميكة عالية ، تحيط بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم ، في حيّز طوله من الشرق إلى الغرب ، حوالي (1600 متر ) ، وعرضه من الشمال إلى الجنوب ، حوالي ( 1000 متر ) ، وكان يحيط بالسور خندق مملوء بالماء ، يقترب منه حتى يكاد يلامسه في بعض الأماكن ، ويبتعد في مواضع أخرى إلى حوالي عشرين متراً .

عاد أبو عبيدة بجيوش المسلمين بعد معركة فحل بيسان من الأردن إلى دمشق فحاصرها من جديد ، ونزل هو في باب الجابية غربي دمشق ، بينما نزل خالد قبالة الباب الشرقي الذي تعوّد أن ينزل به دوماً ، ونزل يزيد على باب كيسان جنوبي المدينة ، بينما نزل عمرو بن العاص على باب توما ، ونزل شرحبيل بن حسنة على باب الفراديس شمالها ، وأقام أبو الدرداء في قوة على مسافة خمسة كيلومترات شمال دمشق في سفح جبل قاسيون عند قرية برزة  ، وتقدّم ذو الكلاع الحميري بقوة أخرى ونزل على مسافة ليلة (45 كم ) في الشمال باتجاه حمص ، وذلك لمنع أي دعم عنها من الشمال ...

واستمر الحصار قرابة أربعة أشهر ، من أواخر ذي القعدة / 13 هجري إلى منتصف رجب / 14 هجري .

وحين يعتصم المُحاصرون بالأسوار يكون هدفهم انتظار مدد جديد لهم من هرقل ، وكسر حدّة اندفاع المسلمين ، ويعمد المسلمون إلى تضييق الحصار عليهم ، وقطع أي إمداد يصل إليهم ...

ولكنه خالد عبقريّ الحروب ، وسيّد القادة ، فلقد أدرك بأن فصل الشتاء قادم ، وأن جنود المسلمين لا طاقة لهم بالبقاء في العراء في شتاء دمشق القارس ، بينما أعداؤه ينعمون بالدفء في منازلهم ، فقرر أن يفعل أي شيء لحسم المعركة .

ودسّ عيونه من النصارى العرب داخل دمشق ليعرفوا له خبر الروم فجاؤوه بالخبر الذي ينتظر : ولد لبطريق الروم ، نسطاس بن نسطورس ، غلام جديد في يوم الأحد ، فاحتفل بذلك وأولم وليمة لحامية المدينة الرومية ، فأكلوا وشربوا وغفلوا عن أماكنهم من الحراسة والدفاع ...

والتقطها خالد ، نهّاز الفرص ، الذي كان ينتظرها وينتظر مثلها بفارغ الصبر ، فأعلن حالة الاستنفار القصوى في جنوده ، وأعدّ الحبال والسلالم ذات الكلاليب ، وجمع جنوده وقال : ( إذا سمعتم تكبيرنا على السور ، فارقوا إلينا ، وانهدوا إلى الباب ) .

وبعد منتصف الليل ، وبينما كانت الخمرة تعمل عملها في عقول الروم ، عبر خالد مع مجموعة من أبطاله الأشداء الخندق المملوء بالماء حول أسوار دمشق من الجهة الشرقية سباحة ، وقذف بحباله وسلالمه على السور فعلق بعضها ، ثم تسلّقوا السور حتى علوه ، فكبّر هو وأصحابه من فوق السور ، وانحدروا إلى داخل دمشق فقتلوا حرّاس الباب ، وتدفّق المجاهدون عبر الباب ، وراحوا يعملون سيوفهم في رقاب الروم ، وثار أهل المدينة ، وفزع الناس ، وتسارع كلّ منهم إلى مواقفه ، وهم لا يدرون ما الخبر ...

وأدرك بطريق المدينة بأن الأمر قد انتهى ، فأسرع إلى أبي عبيدة على الباب الغربي للمدينة ، باب الجابية ، والذي لم يكن يدري بفعل خالد ، فطلب منهم الصلح ، ونزل على شروطه ، فقبل أبو عبيدة بذلك ، وأجرى ما فتحه خالد عنوة مجرى الصلح خروجاً من الشبهة ، ورحمة بالناس ، لأنهم إنما جاءوا دعاة فاتحين ، ورحمة للعالمين ، ولم يأتوا لقتل الناس وسلب أموالهم كما يصوّر المغرضون  ... !!!

تم فتح دمشق في منتصف رجب / 14 هجري ، وصادف ذلك في بداية أيلول / سبتمبر ، وهو بداية فصل الشتاء في تلك البلاد ، فأمر أبو عبيدة جنوده بقضاء الشتاء في دمشق ، وهو ما أراده خالد رضوان الله عليهم جميعاً ، وذلك رحمة بالمجاهدين ورأفة بهم .