غزة.. معشوقتي

نعمان فيصل

[email protected]

كان يمكن أن أكتب قصة حب طويلة عشتها هنا، لكنها أصبحت قديمة، حيث القصة الجديدة ألغت كل القصص، إنها حكاية مدينة عربية حتى الأرض السابعة، إسمها غزة، تروي شيئاً من سحرها وصمودها، وتحكي شيئاً من خبرة دهرها، التي كتبها التاريخ قبل أن يمضي بعداً إلى التاريخ. إنَّ بعض المدن مثل بعض النساء، تقوم بينك وبينها حالة من الهوى والهيام، فأنا مولع بمدينتي، مدينتي حضن، المدينة وطن. أنا عاشق غزة، وغزة مثل الذكريات لا تذوب.. غزة قدر.. غزة حكاية، مثل عنترة يحب عبلة؛ فيتحرر بالحب قبل ألفي عام، وغزة لم تتحرر بعد. فالمدن تكتب لنا التاريخ حجراً فحجر، وعصراً فعصر، وزمناً إلى زمن.

فعلى البحر المتوسط قامت مدن وحضارات لا مثيل لها في العصور، هذا البحر الأزرق المترامي وسع العين والجمال، كان أيضاً بحراً عربياً حتى الأعماق، فهو مهد الحضارة في الكون، كل حضارة نعرفها طلعت من هذا الحوض، كل شيء نما على هذه الضفاف، نصفنا، أو أكثر على المتوسط، ونصف تاريخنا أيضاً، أو أكثر، وحين يقيس الجغرافيون هذا البحر بالطول أو بالعرض، فهو يبدأ أو ينتهي ببلد عربي، فالطول الأقصى بين جبل طارق وسوريا هو 2200 ميل، والعرض الأقصى بين فرنسا والجزائر 488 ميلاً، وهو يتدافع بين ثلاث قارات هي: آسيا وإفريقيا وأوربا.

غزة الدرة الساحلية، هكذا تصنف في جغرافيا الوطن، والتاريخ هو الذي يعطي الحياة للجغرافيا، فغزة ليست إسم معلق في الذاكرة، وليست كلمة تقال، ولا مجرد تاريخ عابر في هذه الأرض، ففيها يبدو التاريخ أكثر عظمة من أي مكان آخر، لأن هذه المنطقة ارتقى الإنسان فوق الإنسان المتوحش. غزة تجدها في كتبي وروزنامتي ودفاتري..  فليس في الكون كله زخم وكثافة سياسية بقدر ما في هذه البقعة المؤلفة من ثلاثمائة وستين كيلو متر مربعاً، ابتداء من بيت حانون في الشمال إلى رفح في الجنوب، ولا أعتقد أن شعباً بضآلته قدم من التضحيات في سبيل قضيته مثل ما قدم شعبنا، وكانت مقاومته ليس لها مثال في التاريخ، فغزة بحد ذاتها انتصار، ولا ينطبق عليها قوانين الهزائم السياسية.

منذ العصور الغابرة، قُدر لهذه الأرض أن تكون ممراً لعابري السبيل من كل أمم الأرض، فعليها يتقاتل الأباطرة وفيها؛ فأهميتها الإستراتيجية وموقعها الحساس جعلها محط أنظار الغزاة في كل العصور، وكانت المقاومة العربية على أرضها ترد الغزاة على أعقابهم، فلم تبخل غزة بأرواح أبنائها (والجود بالنفس أقصى غاية الجود)، وفي كل مرة كانت تنتصر بالرجال الذين أنجبتهم أرضها، وسجلت علامة فارقة في حياتها وتاريخها؛ حتى نشأ بينها وبين التاريخ إعجاب هائل؛ فكان التاريخ يُكيل لها مديحاً يقارب الغزل غالباً.

وفي العصر الحديث شكلت رمزاً آخر من رموز ذلك الصراع، فكانت خط الدفاع الأول والثغر المتقدم للدفاع عن أمة العروبة والإسلام، عندما اجتمعت عليها اليهودية العالمية بما تملك من المال والمكانة والخبث. وكان السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: لماذا يُنظر إلى أهل غزة بوصفهم شعباً متميزاً يختلف عن بقية أهل فلسطين؟ إنني أفكر في الرجل الذي اخترع كلمة لماذا لأنه عرف أن لا جواب، لماذا هي السؤال هي الجواب، هذه عبقرية لماذا في جميع اللغات.

كانت غزة قبل سنة 1948 إحدى مُدن لواء الجنوب تتقاسم مع أخواتها زعامة الشعب الفلسطيني في فلسطين، ولكنها بعد سنة 1948 حملت قصب السبق في سبيل كفاح الطغيان الإسرائيلي، حتى استحقت عاصمة فلسطين المحتلة بجدارة، وعاصمة النضال العربي الفلسطيني؛ لتحقيق الذات العربية والهوية الفلسطينية؛ إذ حمل أهلها في بداية طريق النكبة جواز سفر (حكومة عموم فلسطين) ولم يحمله أحد غيرهم من أهل فلسطين. وكان ثبات أهل غزة على الحق مع الخذلان يكاد يساوي ما كان في الأماكن الأخرى في التجمعات الفلسطينية، حتى صار شعب غزة أمة واحدة، أمة متميزة لها خصائصها في استعذاب العذاب في سبيل البقاء على الأرض والتمسك بالهوية.

ومن أعظم صفات رجالها الشجاعة، والصبر على المكاره، والنفور من الذل، والتمسك بالأرض مهما اشتدت عواصف القهر اليهودي، وصارت صور بطولاتهم وقصص استشهادهم في سائر الانتفاضات ومراحل الجهاد التي مر بها الشعب الفلسطيني حديث العالم والصحافة والتلفاز. إن جهاد أهل غزة ليس له مثيل في الدنيا، وأنهم ضربوا المثل العالي الذي ليس له شبيه إلا جهاد الصحابة والتابعين، فالانتفاضة سنة 1987 التي دامت سبع سنوات متواصلة، وقد كلَّ وملَّ وتضعضع منها الكيان اليهودي، ولم يكل ولم يمل الشعب الفلسطيني حتى قال رابين أحد زعماء اليهود أنه تمنى أن يستيقظ صباح يوم فيرى البحر قد ابتلع قطاع غزة، والمبالغة في التمني دلالة على العجز، ففي غزة كُتب تاريخ من الدماء، وهذا التاريخ يروي حكاية معركة بعد الأخرى، حصار وقتل وهدم ومقابر جماعية، وعقاب جماعي، ومع هذا العذاب محبوسون في قعر بئر مظلم، ولا أحد استطاع أن يسد رياح الضيم عنها. وحال الغزيين يشبه حال يونس صاحب الحوت، التقمه الحوت؛ فلم يسمع نداءه إلا الله. ولست بسبيل إحصاء ضروب الصمود التي سطرها أهل غزة، وإنما ذكرت نماذج صبر أهل قطاع غزة في سبيل الحق الذي يعتقدونه، فغزة لم تتزعزع عقيدتها ولم يفت في عضدها نكوص العرب عن دعمها وإغاثتها، فليس بالغربب أن غزة صححت التاريخ الفلسطيني في عقول الناس، وفرضت على الأمة العربية أن تكتب تاريخاً صحيحاً، لقد قطعت غزة قول كل خطيب فاغراً فاه:

  بيض الصفائح لا سود الصحائف في         متونهنّ جلاء الشك والريب

هذه هي غزة التي علمت الأمم فن الحياة، ففي قصتها عبرة لأولي الأبصار.