إسلاميون ... وعلمانيون

الإسلام الذي أنزله الله تعالى، دينٌ شامل ، يبدأ من الاعتقاد ، ويمرّ بالشعائر التعبدية والأخلاق والآداب الفردية والاجتماعية ، وينتهي بالسياسة والاقتصاد ... على مستوى الدولة ، بل العالم .

وإنّ وصْف الإسلام بأنه " دين " يعطي دلالتين مختلفتين : دلالة لدى المسلم الواعي ، تتفق مع المعنى الذي يتجلى في كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ودلالة أخرى محرّفة ، نتيجة الجهل ، أو نتيجة الانبهار بالفكر الغربي ، وتعني أنه مجموعة من العقائد والمشاعر والشعائر ، تبقى في ضمير الإنسان ، أو تمارس داخل المسجد ، أو داخل البيت .

وهنا نأتي إلى دلالة كلٍّ من المصطلحين : إسلامي ، وعلماني .

ظهر مصطلح " إسلامي " منذ عقود من السنين ، ليعني المسلم الذي يغار على دينه ( بمفهومه الشامل ) ، ويلتزم به في سلوكه ، ويسعى إلى نشره ونصرته وتحكيمه في شؤون المجتمع ...

وهذا التعريف لا يمنع وجود اختلافات بين إسلاميّ وآخر ، سواء في فهم الإسلام ذاته ، أو في النظر إلى المجتمع وشرائحه ، أو في الطرائق التي يراها هي الأمثل لتحكيمه في المجتمع ، وفي مدى التزامه بأحكام الإسلام في سلوكه الشخصي .

وإذا كان التعريف المذكور ينطبق على السواد الأكبر من الإسلاميين ، مع وجود الاختلافات المشار إليها ، فإن هناك ظاهرتين خطيرتين توجد لدى بعض الإسلاميين ، وتحتاج إلى تشخيص وعلاج .

الظاهرة الأولى : هي الانفصام بين جانبين من الالتزام السلوكي :

الجانب الأول : هو جانب الشعائر والمظاهر ، ويتمثل في أداء الصلاة والصيام ... وإطلاق اللحية ... وارتداء الحجاب ... ونحو ذلك .

والجانب الثاني : هو الجانب الاجتماعي الذي يشمل صدق القول ، والأمانة المالية ، وإتقان العمل ، والتزام الوعد والعهد ، وحسن استثمار الوقت ، والاهتمام بالعلم والبحث والصحة والنظافة ... ونحو ذلك من تجليات الإسلام الحضارية .

وصحيح أن الجانب الأول ليس من فضول الأمر ، بل يتضمن أركان الإسلام وبعض أحكامه التي تصل إلى مستوى الفرائض ... لكن الجانب الآخر كذلك عظيم الأهمية ، فهو يمثل الاستقامة في التعامل مع النفس ومع الآخرين . فالسمة العامة للجانب الأول أنه يمثل " حق الله " بينما السمة العامة للجانب الثاني أنه يمثل " حق العباد " .

المشكلة التي نشير إليها لدى هؤلاء " الإسلاميين " هي التزامهم بالجانب الأول ، وتقصيرهم في الجانب الثاني . فالواحد منهم يغار على الإسلام ونصرته ، ويحافظ على الصلاة ، وربما يحرص على أدائها جماعةً في المسجد ، ويصوم رمضان وبعض النفل ، ويطلق لحيته ، ويلتزم بالزي الإسلامي والآداب الإسلامية في كثير من تصرفاته القولية والفعلية ... لكنه يتهاون في أداء الذمة المالية ، إذا اقترض ، أو استثمر ، أو شارك ... أو يتهاون في حق الجيران والزملاء ، أو في النظافة العامة ، أو في التزام المواعيد ، أو في إتقان العمل ... وبذلك يؤدي شهادة زور ضد الإسلام . فهو " إسلامي " متديّن - كما يظهر في الجانب الأول من سلوكه - وهو متخلّف ، أو متسيِّب ، أو سارق ، أو مُهْمِل .. في الجانب الثاني .

وكان يمكن تسمية هذا الإنسان عاصياً ، وكفى ! لكن كلمة " عاصٍ " - في الاستعمال - يتبادر منها إلى العقل أن صاحبها مقصِّر في الجانب الأول ( كأن يتهاون في صلاته ، أو يشرب الخمر ) ، وليس الأمر كذلك ، بل إن عصيان هذا " الإسلامي " في هذا الجانب نادر ، أو ، في الأقل ، ليس ظاهراً ، إنما عصيانه المشار إليه إنما يقع في بعض مسائل من الجانب الثاني .

إنه إسلاميٌ منفِّر يعطي ذريعة لأعداء الإسلام لأن ينالوا من الإسلام ، ويتخذوا مسوّغاً لرفض تدخّله في شؤون الحياة العامة !.

الظاهرة الثانية : هي الانفصام بين الالتزام الفردي للإسلام ، والغفلة عن أهمية تطبيقه على مستوى المجتمع والأمة .

نجد بعض المسلمين يحرصون على المرجعية الإسلامية في شؤون الشعائر التعبدية أو العبادات الظاهرة ، وفي شؤون العادات الفردية والألبسة والأطعمة ... سواء التزموا مذهباً من المذاهب الأربعة المعروفة، أو تحرروا كلياً أو جزئياً من المذهبية، بينما لا يعيرون أي اهتمام لشؤون السياسة والاقتصاد والاجتماع ... أو أي شان مما تريد السلطات أن تبسط نفوذها عليه .

إن هؤلاء – وإن لم يشعروا – يقرُّون بمبدأ " ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله " ، ولو كان "قيصر" يبيح الفجور والربا ، ويفرِّط في حقوق الوطن وحدوده كذلك .

إنهم يحبّون الدين ، ويعطونه ولاءهم ، لكنهم يقفون موقفاً انسحابياً تجاه كل ما ينازعهم عليه السلطان !. وهم بذلك يتقاربون عملياً من أصحاب الطروحات العلمانية " المعتدلة " وإن كانوا يخالفونهم في النيّة والقصد .

الفرق بين أصحاب الظاهرة الأولى والظاهرة الثانية أن الأولين يؤمنون بشمول الإسلام ويطالبون به ، ويسعون إليه ... لكنهم في سلوكهم يهملون بعض جوانبه ، فيسيئون إليه من حيث لا يشعرون    [ خطؤهم سلوكي في الدرجة الأولى ] ، وأن الآخرين يحرصون على الالتزام الكامل فيما يخص سلوكهم الشخصي بينما لا يكترثون بما تستحوذ عليه السلطات الرسمية [ عندهم قصورٌ في فهم الدين].

*         *      *

ولننظر إلى الطرف المقابل ، طرف العلمانيين . وهنا نستطيع أن نميز فئتين منهم :

الفئة الأولى : فئة تقر بحق الإنسان في التزام أحكام الدين في حياته الشخصية . فله – إن شاء – أن يصلي ويصوم ، ويطلق لحيته ، ويتلو القرآن ... ولكن ليس له أن يدعو إلى تطبيق شريعة الله في شؤون السياسة والاقتصاد والاجتماع ...فالدينُ - عند هؤلاء – أمر شخصي صرف . وهم يعبِّرون عن فهمهم هذا بأمثال هذه العبارات : " الدين لله ، والوطن للجميع " و " دع ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله " .. ويقولون : إنهم ليسوا ضد الدين ، ولكنهم ضد تسييس الدين ، إذ " لا دين في السياسة ، ولا سياسة في الدين ! " .

وهذا المذهب يجسِّد الفهم السائد تجاه الدين عامةً في معظم بلاد الغرب ، وإن كان قد طرأ عليه انحسار تدريجي ، في السنوات الأخيرة ، باتجاه الفئة الثانية من العلمانيين .

الفئة الثانية : وهي فئة ترفض الدين جملة وتفصيلاً . وإذا كانت لا تملك أن تدخل إلى القلب والضمير ، أو تحاسب الناس على ما يفعلونه في خلواتهم ... فإنها تدأب في محاربة ظهور أي أثر للدين في المجتمع ، من مثل حجاب المرأة المسلمة ، أو الاحتكام إلى الشرع ولو في أمور ما يسمى بالأحوال الشخصية ، أو مراعاة تطبيق الشعائر التعبدية في نظام العمل داخل المؤسسات الرسمية كالدوام في أيام رمضان أو إتاحة فرصة لأداء صلاة الجمعة ... بل يبلغ الأمر ببعضهم أن يعترض على وجود كلية للشريعة في جامعة حكومية !.

وهذه الفئة تنطلق من الفكر " الليبرالي " الذي لا يعتدُّ بأي قيد شرعي . فالحلال عندهم ما توافقت عليه الآراء ( أو الأهواء ) ، والحرام ما رفضته أكثرية الناس ، بعيداً عن أي معيار شرعي . فالزنا والربا والخمر والقمار ... من الحلال عندهم ، والاغتصاب والمخدرات والتدخين ... ممنوعات . بل قد يدخل في الممنوعات حجاب المرأة وتعدد الزوجات وأداء الصلاة في أثناء ساعات العمل ... وهكذا يكون التوافق مع أحكام الشريعة أمراً عارضاً ، لأن منطلق التفكير الليبرالي غير منطلق التفكير الديني.

وإذا كانت هذه الفئة واضحة في موقفها الرافض للدين ، فإن الفئة الأولى ( المعتدلة !) تحتاج إلى مزيد بيان ونقاش :

أرسى الإسلام قيماً عليا في حياة الناس ، جعل علماءُ أصول الفقه خمساً منها في مرتبة الضروريات ، وهي : الدين والنفس والعقل والنسل والمال ، أي إن حفظ هذه الأمور ورعايتها وحياطتها تمثل الأولويات في هذا الدين .

وينبني على هذه القيم ، ويتساوق معها ، مجموعة من القيم ، كالإيمان والتقوى والعلم والعدل والحرية والكرامة الإنسانية والفضيلة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومقاومة الظلم ...

وقد علم الله سبحانه أن من هذه القيم ما هو ثابت في شكله وتجلياته على مرِّ الزمان ، فشرع له أحكاماً ثابتة ، وأن منها ما تختلف تطبيقاته ومظاهره ، فشرع له قواعد عامة ليشتقَّ منها المختصون في كل عصر ومصر ، ما يناسب من أحكام وإجراءات .

والمسلم الواعي يعلم أن تمسكه بالقيم الإسلامية العليا ، لا ينفصل عن تمسكه بالأحكام الثابتة التي تؤدي إلى رعاية هذه القيم .

ويجيء العلمانيون من هذه الفئة ( الأولى – المعتدلة ) ليقولوا : نحن لا نجادل في أهمية (معظم) هذه القيم ، إنما نقول : نحن غير ملزمين بالأحكام التي جاءت في القرآن والسنة لرعاية تلك القيم ، فهذه الأحكام – في زعمهم – كانت صالحة للمجتمع الذي نزلت فيه . أما المجتمع المعاصر ، فله أن يشرع من  الأحكام ما يراه مناسباً له . فإذا كان تحقيق تلك القيم  في المجتمع الأول أن يكون الربا محرماً ، وأن يكون للذكر من الأولاد مثل حظ الأنثيين في الميراث ، وأن تكون عقوبة السارق قطع اليد ، وأن تكون وقاية المرأة من نظرات الشريرين أن تتحجَّب ... فلنا – في هذا العصر – أن نكتفيَ بتحديد سعر " الفائدة " وأن نساوي بين الذكر والأنثى في الميراث وغيره ، وأن نختار للسارق عقوبة أخرى ، وأن نتجاوز الحجاب ... وهكذا .

وواضح أن في هذا نسفاً للإسلام ، وتعطيلاً لأحكامه ، مهما ادّعى أصحابه أنهم ملتزمون بقيمه.

 إن الفصل بين القيم والأحكام التي ترعاها ، أو الفصل بين ما هو تعبدي صرف ، أو شخصي ، وبين ما هو من الشأن العام ... هذا الفصل أو ذاك غريب كل الغرابة عن طبيعة الإسلام وحقيقته ، ولن تجد مسلماً واعياً يقبل به . بل سيظل المسلم يطالب بأن يَعُمَّ الإسلام كل شؤون المجتمع ، أو سيتطلَّع إلى ذلك .

وبعد ، فهل يمكن الالتقاء بين الإسلاميين والعلمانيين ؟!.

بداية ، يجب نشر ثقافة الوسطية والاعتدال . ولا نقصد بذلك أن نحرِّف المفاهيم الإسلامية ليرضى عنها الآخرون ، إنما نقصد نشر العلم الشرعي ، بعيداً عن غلو الغالين ، وتفريط المفرطين ، وبيانَ الموقف الصحيح – في ضوء ذلك – من مختلف القضايا التي يحدث التنازع وفقها . وبعدئذ   ]ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة [ .

ثم إن كثيراً من العلمانيين ، من أفراد الفئة الأولى أو الثانية ينسبون أنفسهم للإسلام ، ولا يرضون أن يكونوا خارجين منه ، فهؤلاء يجب استجاشة مشاعر الإيمان في قلوبهم ، وبيان خطورة موقفهم إن أصرُّوا عليه ، لا سيما بعد البيان الذي ورد آنفاً .

وعلى الإسلاميين، فوق ذلك، أن يُزيلوا التناقض في سلوكهم ، بين جانب يلتزمون به من الإسلام، وجانب يهملونه أو يتساهلون في تطبيقه، فيؤذُون أنفسهم ومن خالطهم ، ويُسيؤون إلى الإسلام الذي يؤمنون به، ويدعون إليه.

وأخيراً ، فإن من أخطر الأمور التي يجب الحذر منها أن تصبح مواضعات المجتمعات التي لا تقوم على الإسلام ، هي الأساس ، وأن نبحث عما يوافق هذه المواضعات في الإسلام لندعو إليه ، وما خالف هذه المواضعات في ديننا فنسكت عنه ونتغافل ، أو نبحث عن وسائل لتقريبه من المواضعات الغريبة عليه . وبذلك تصبح تلك المواضعات هي الأصل ، ويصبح ديننا هو التابع ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

وسوم: العدد 626