أبو همام.. تلميذ العقاد النجيب!

صلاح حسن رشيد /مصر

[email protected]

مصر

هو أشبه الناس طريقةً وكلاماً بأستاذه العقّاد؛ فلِمَ لا؟! وهو من رُوّاد صالون العقاد، ومن أنصار مدرسته الأدبية والفكرية! فعندما تراه، ترى أنّفَةَ العقاد وكبرياءه! فالعصا التي يتوكّأ عليها هي عصا العقاد، والكوفيّةُ التي يتلفَّح بها هي نفس كوفية أستاذه، والآراء التي يعتنقها هي آراء شيخه العقاد! بل، إنَّ أشعاره، ومؤلفاته لا تستطيع أنْ تفصلها عن مدرسة الديوان! باختصار؛ فإنَّ عبد اللطيف عبد الحليم (أبو همام) يحمل جينات عقّادية؛ فلو عصرناه، لأعطانا عقّاداً صغيراً؛ كله ألمعيَّةً ونبوغاً!

فأبو همام .. قاموسٌ لغويٌّ متنقلٌ؛ فيه موسوعية المعري، وطلاقة المتنبي، وجزالة، وموسيقية شوقي، وطزاجة محمود حسن إسماعيل، وذهنية أستاذه/ العقاد! وهو وجه متألق من وجوه دار العلوم المتلألئة، وهو من عناقيد مدرسة الدار الشعرية الخلاّبة!

  يقول عبد اللطيف عبد الحليم في قصيدته "الحذاء الضيق":

غائرُ العين، تائهُ الظعنِ          تتقاضاه لفحةُ الوهنِ

والطريقُ الممتد يجذبه            حيث يسعى للجانب الخشنِ

لَهَبُ الشمسِ ظِلُّه فإذا           نَشدَ الظلَّ، باءَ بالغبن

مالت الهامُ منه في سقمٍ        وتمشَّى الجفافُ في الغصن

فغدا أظلعَ المُنى، هرم الشوقِ    يفنى في قبره العفن

كلما رام نسمة، خنقته          كهوفٌ مشبوبةُ الإحن!

أجل، لقد آمن أبو همام بالوزن والقافية؛ كقضيةٍ مفروغ منها؛ لا يمكن النكوص عنها؛ لذلك خاض مناظراتٍ نقدية، وفكرية مع أنصار شعر التفعيلة؛ فمن ذلك معركته الشهيرة التي احتضنتها كلية دار العلوم منذ عقد ونصف من الزمان؛ فلقد هزم دعاة الشعر الهزيل، من أمثال: أحمد درويش، وحماسة عبد اللطيف، وفاروق شوشة، وعبد المعطي حجازي، ومحمد عبد المطلب، وصلاح فضل، وجابر عصفور، وغيرهم!

  وصفه  أستاذه العلاَّمة/ الطاهر أحمد مكي؛ فقال: "عبد اللطيف عبد الحليم من أذكى الشعراء، وأوسعهم ثقافةً، واطِّلاعاً على القديم والجديد؛ فلا تخلو دقيقة من حياته؛ إلاَّ وهو يقرأ في كتاب، أو يحفظ دواوين الشعر"!

وأقول عنه: أبو همّام سِراج دار العلوم اليوم، وهو أشعر شعرائها في هذه اللحظة التي ينزف فيها الشعر، ويئن من قِلَّة الولد، وضياع اسمه، وزوال عرشه!

 وهو لغويُّ الدار الضخم؛ فهلاّ انساح بفكره؛ فأخرج لنا دراسات نقدية، وبلاغية تطاول عبد القاهر، وتزيد على ابن الأثير، والقاضي الجرجاني، وتنحو نحو المعاصرة؛ فتأخذ طلاوة أسلوب طه حسين، وسحره، وتعشق موسوعية شوقي ضيف، وألمعيته، وتنأى بنفسها عن ألفاظ(أبي فهر) المتحذلقة؛ التي ليس فيها إلاّ الاستعراض، والجهامة!

دخل في مساجلاتٍ، ومناظراتٍ حول القديم والجديد مع الدكتور أحمد درويش؛ فانتصر عليه انتصاراً باهراً؛ فأثبت ضعف دعاواه حول الحداثة، والشعر الحر!

يقول أبو همام مخاطباً ابنته في لمسةٍ حانيةٍ، كلها الحب، والحدب عليها، ناصحاً لها؛ خوفاً عليها من شدائد الدهر، وتقلباته، وعنفوانه، وما يُخَبِّئه للناس:
تبسّمي, تورقُ النجومُ بأعماقي, وتَندى أشعةُ القمرِ
ووقِّعي نغْمةَ الصباح بأعراقي وصُبّــــي الربيعَ في الوتـــــر
عصفورتي زهوةَ الحقولِ, ويا شوقَ الندى, في تنفُّسِ البُكَر
تَأَلَّفي صُحبةَ الهجير, ولا تَمَلْمَلي للسقام, واصطبري
ليت الذي تطلبينَ, أرديةُ الحسن, أو الحَلْيُ شائقَ الصّور
أو مهجةُ الشاعر الأسيف, وإن أخشى عليكِ المخزونَ من فِكَري!

والقارئ لشعر أبي همام يلحظ جمعه بين الهم الفردي، والهم الجمعي؛ بين الذاتية، والقومية، بين آلام النفس، وآلام الأمة؛ فنراه يقول في قصيدته(من المعتمد بن عبّاد إلى ملوك الطوائف):

جرحي دامٍ، وما بنا أملُ!

والرومُ من حولنا همُ الأملُ!

نرعى خنازيرهم! وليس لنا ..

من رعيها ناقةٌ ولا جملُ!

قصورنا تاجها صقالبةٌ

وشعبنا في عيوننا هملُ!

 وكلنا قادرٌ ومعتمدٌ

أسودنا لا يهابها الحَمَلُ!

إلى اعتمادِ تكون قِبلتنا!

يمثل فيها الخفيفُ والرَّملُ!

فأبو همام حزينٌ على أوضاعنا الحزينة! مهمومٌ أشد الهم، وأقساه؛ لِما حلَّ بأرضنا من الخراب، والفوضى، والدمار! فلا أملَ لنا، ولا رجاءَ إلاَّ في الأعداء، ومعهم! ولكنَّ وحدتنا لا تكون، ولا تتحقق؛ إلاَّ ضد أنفسنا، وأراضينا، ومصالحنا!

في كتابه(الشعر العربي روائعه ومدخل لقراءاته) أورد له الدكتور/ الطاهر مكي ثلاث قصائد ماتعة. ففي قصيدته(سنيور خوستو والبواب الآلي) يقول أبو همّام عن هيام صاحبه بالأندلس أرضاً وحضارة:

أندلسٌ عشقه، ومنبتُهُ

"والفلامنكو: هواهُ، مِلَّتُهُ!

مُصارِعاً للثيرانِ، تحسبه

وقد زهتْ في الآحادِ خُطوته!

مولده كان، والنبيذُ معاً

وشوقه للنساءِ قِصَّتُه!

تحمل ريحَ الحقولِ لهجته

وتنتمي"للكيخوت" سِحنته!

تخاله فارساً، ولا فرسٌ!

وذا حسامٍ، خانته حِدَّته!

قريتُه، و"الموريسكُ" والشجرُ

المُرُّ، وطعمُ الأشواكِ قريته!

 زيتونةٌ لا تجفُّ، تحملها

عُروقه؛ إنْ دهته غُربته!

فهو أندلسيٌّ حتى النخاع! وتنتمي ملامحه إلى أرض أجداده؛ فمأكله، ومشربه، وهواه، وشكله .. كله أندلسي الأرومة!

فمن قبل، ومن بعد؛ ننتظر من أبي همام المزيد من الإبداع الجميل، والغوص الأمين عن جواهر الفن الصعب؛ الذي عرفناه مع شوقي، وحافظ، ومَن اتخذ النبوغ شعاراً، وراية يستظل بها!

وما أريده من أبي همام؛ هو أن يعيش مع إبداعه غربلةً، وتنقيحاً، وتجويداً، وانتخالاً؛ فقد جاءنا ديوان المتنبي بعد تنقيحاتٍ، وتنقيحات! فهلاّ سار عبد اللطيف عبد الحليم على درب شاعر العربية الفذ؟!