هل حقًا سيسقطُ نظامُ الأسد

الجواب بـ ( نعم ) على هذا السؤال غير مقنع لشريحة من متابعي الشأن السوري؛ فهم قد سمعوا منّا ذلك مرارًا، و تكرارًا، و منذ الأيام الأولى للثورة، و هاهو الأسد ـ كما يرَوْن ـ ما زال في قصور الرئاسة في دمشق.

لقد قالوها لنا مرارًا:

ـ إنّ الغرب ممثلاً بإسرائيل لن يتخلى عنه، فهو الحامي لمصالحهم، و الضامنُ لأمن إسرائيل؛ و قريبًا سيُعاد إنتاجُه، و لربما نرى ولده حافظ رئيسًا من بعده.

ـ سيُكمل فترته في الرئاسة، و سيمدد له سبع سنوات أخرى، و سيعقُبها مددٌ أخرى؛ و هاقد كان له ذلك.

ـ ستنتهي مدة مجلس الشعب، و ستُجرى انتخابات عُقبى انتخابات في ظلّ وجوده.

ـ لن يُطرد مندوبُه بشار الجعفري من الأمم المتحدة، و ستظل المحافلُ الدولية معترفة بشرعيته.

ـ سترون غدًا كيف ستُعيد الجامعة العربية المقعدَ له، و لن يتكرر مشهد جلوس معاذ الخطيب عليه في قمة الدوحة، و هاقد رأيتم ذلك عيانًا في قمتي: الكويت، و القاهرة التاليتين لها.

ـ ستتراجعُ الدول التي قلصت، أو طردت بعثاته الدبلوماسية عن قرارها، و سيستقبل دبلوماسيوه رسميًا في قاعات الشرف بدءًا من المطار، و ليس انتهاءً في وزارة الخارجية.

ـ لن تُكلل مساعي المعارضة بإصدار جوازات السفر؛ فالدول لن تتقبلها، و لربما يتعرض حاملها للملاحقة القانونية، فهم مازالوا يعترفون بشرعيته القانونية، و لن يسلبوه أيَّ مظهر من مظاهر السيادة.

ـ هذه طائراته ما تزال تحطّ في مطارات الدول، قادمة من دمشق، رغم قرارات المقاطعة لها.

ـ هذا وزيرُ خارجيته قد كان قبل أسبوعين في أروقة الأمم المتحدة، يُلقي كلمة الجمهورية العربية السورية في جمعيتها العامة.

و بعد: ماذا تريدون أن نسوق لكم مزيدًا من الأدلة، و الوقائع التي تدحض مقولة ( الأسدُ انتهى، و أصبح نظامُه من الماضي )؟.

إنّ خمسًا من السنين توشك أن تنقضي من عمر الثورة، و رأس الجليد في قاسيون ما يزال ظاهرًا، و حدّة التصريحات النازعة للشرعية عنه في تراجع ملحوظ، في مقابل تزايد حجم الدعم المقدم له من أصدقائه، و آخره استجابة روسيا لطلبه في التدخل و المؤازرة، في مقابل انفراط عقد أصدقاء الشعب السوري؛ الأمر الذي جعل هذه الشريحة في موقع أمكن من ذي قبل.

بيدَ أنّ ما فاتهم أنّ هذه السنوات الخمس قد أحدثت في المجتمع السوري نقلة نوعيّة؛ جعلتْ منه مجتمعًا آخر يختلف كليّة عمَّا كان عليه في سنة ( 2011م ) و لاسيما في المناطق الخارجة عن سيطرته.

 و حتى لا يطول الحديث في سرد الأدلة على ذلك، سنكتفي بتسليط الضوء على جوانب من ثقافة المجتمع المدني، التي استجدت على حياة السوريين؛ لدرجة يرى فيها المتابعون استحالة أن يعودوا إلى النمط الذي كانوا عليه من قبل، و أنّ الأسدَ نفسَه، لو قُدِّرَ له أن يعود إلى تلك المناطق، لكان حاله كحال أهل الكهف عند توفيق الحكيم.

لقد رتّب السوريون أمورهم في تلك المناطق بأنماط جديدة من التفكير، المتأقلمة مع أبجديات هذه الثقافة؛ فلم يعُد النظام السياسي السائد هو الممسك بمفاصل المجتمع، لقد تداولت فصائل شتّى السيطرة على تلك المناطق، و بقي المجتمع غير متأثر بتلك التجاذبات، متدبرًا أموره من خلال منظومة من القيم، و المبادئ التي ارتضاها لنفسه، لم يكن النظام الشمولي على مدى خمسين عامًا يسمح بمجرد التفكير فيها.

لقد أمسك النظام خلال تلك الحقبة بمفاصل الحياة جميعها، فهو الذي يُطعِم و يسقي، و يُطبب و يعالج، و يمنع و يُعطي، و يُنيم و يُوقظ، و يُعلِّم و يُجهِّل، و يُفرِحُ و يُحرِن، و يُوسِّع و يُضيِّق، و يقبِضُ و يبسُط، و يزوِّج من يشاء إن منحه موافقة التجنيد، و يُميت من يشاء إذا استدعاه لمدة خمس دقائق ليشرب فيها فنجان القهوة في أحد فروع الأمن الثماني عشرة.

لقد ساد نمطٌ جديد من التدين غلب عليه المنهج السلفي بدرجاته المتباينة، فلم يعد التيار الصوفي و المشيخي الموالي للسلطة مقبولاً بأية حال في المجتمع؛ الأمر الذي أفقد النظام ركيزة أساسية كان يتكئ عليها في ترويض نفوس السوريين.

و انكسر جدارُ الخوف الذي بناه على مدى تلك السنين، من خلال صنوف القهر و العذاب في المعتقلات و السجون، بمجازر قلّ مثيلها في أعتى الدول الأمنية سيطرة؛ فأصبح السوريون في بحبوحة من الحرية جعلتهم يخوضون في شتى المواضيع، دونما ترقّب مجيء سيارة البيجو في اليوم التالي، لتقلِّهم إلى حيثُ غيابة الجُبّ.

لقد أصبح حملُ السلاح و اقتنائه لدى السوري ضرورة، و رمزًا للعزة، و سادت ثقافة توازن الردع في المجتمع بطريقة غير مألوفة من قبل، لقد أصبحوا يتندرون في المجالس على رجال المخافر الذين كانوا بالكاد يغضون الطرف في الأعراس عن مسدسات الصوت التي كان يتمّ تهريبها من تركيا؛ فهاهم اليوم و في أيديهم حتى الثقيل منه، ولم يعودوا يحارون في تهريبه، فهو يباع علانية في القرى و البلدات، لا بل إنهم يصنِّعونه.

و إنّك لتعجب أن ترى نِسَب الجريمة في هكذا مجتمع ضمن المقبول جدًّا، و هو ما أفقد نظام الأسد ورقة كان يتاجر بها كثيرًا أمام الوفود التي كانت تزور دمشق، بأن سورية آمنُ بلد في المنطقة، لقد أدار السوريون ظهرهم لنظرية ( الأمن مقابل الخوف )، و أثبتوا أنهم مدنيون، و حضاريون بحُكم جِبِلَتهم، و ليس بالقمع و الإذلال الذي كان يُمارس عليهم من أجهزة الأمن.

لقد تدبَّر السوريون رغيف خبزهم؛ فأصبح المواطن يُمسي غير قلق عليه، فما عاد همّ الاستيقاظ من الثالثة فجرًا يؤرقه ليحظى بربطة الخبز تفضُل عن حاجة رجال المخابرات، فالأفران الخاصة و العامة عمت أرجاء المناطق المحررة، بعد أن كانت حكرًا على النظام.

لقد سعى النظام ليجعل من رغيف الخبز سلاحًا مُسلطًا عليهم عند الأزمات، من خلال قصفها بطائراته فيختلط الدم بالعجين أمام ناظري لجنة المراقبين العرب في: حلفايا، و غيرها من المناطق في عموم المحافظات.

و قُلْ الأمرَ ذاتَه في الأمور المعيشية الأخرى؛ لدرجة أنّ من كان يتردد على مناطق سيطرة النظام يجِدُ في ربطة خبز، أو سلة خضروات أحسن هدية يأخذها معه لمَن سيضيفه هناك.

و بالطبع فإن الحديث عن الصناعة النفطية، تكريرًا و تسويقًا، أصبح حديث السُّمَّار، و يتندر به السوريون في مجالسهم؛ فلم يعُد ذلك من المحرمات عليهم، و لم يبقَ حكرًا على الأيادي  الأمينة، التي نال أحد أعضاء مجلس الشعب نصيبه من التوبيخ لمّا تجرّأ بالسؤال عنها، لقد تجاوز المواطن زمنًا كانت فيه الموافقة على إقامة محطة بترول أمرًا مرهونًا بالوزير، فكيف به و قد أضحى يقيم مصافي للتكرير تعمل على الكهرباء بطاقة إنتاجية تقدر بألف برميل يوميًا. 

نعم يدرك المتابعون أن الهمّ ما زال منحصرًا في رؤية اللحظة التي تنزع فيها الشرعية الرسمية عن نظام الأسد، بعد أن نُزِعت عنه الشرعية الثورية.

و لكن الأمر له حساباته بين الدول صاحبة النفوذ في هذا الملف، و لا سيما أن العاصمة دمشق ما تزال تحت قبضته، و هم يضعون دون دخولها العديد من الخطوط الحمراء أمام الفصائل الثورية المحيطة بها، و هو ما أُبلغ به الشيخ زهران علوش في أكثر من مناسبة.

و في رأيي هؤلاء المتابعين أن ما يجري على الساحة السورية من التغيير الذي أسلفنا الحديث عنه هو عينُ الثورة، فالثورة تغيير لثقافة المجتمع، و نمط حياته، و وجوهه، و أشخاصه، و ليس الجانب العسكري فيها سوى تسريع لذلك، و حماية للمكتسبات التي تتحقق في أثنائها.

و هذا ما كان لبني إسرائيل الذين كُتِب عليهم التيه أربعين سنة بعد خروجهم من مصر؛ من أجل أن يتهيؤوا لقيام دولتهم بعد قرون عاشوها في ظلّ فرعون، فمات جيلان منهم، و مات نبيا الله ( موسى، و هارون ) عليهما السلام فيه، و جاء بعدهما تليمذهما يوشع بن نون ليكمل المسيرة و يدخل بهم الأرض المقدسة.

و هذا ما كان من رسول الله محمد ( ص )، الذي شرع في الإعداد لإسقاط هيمنة قريش الرسمية على مكة مدة ثماني سنوات بعد هجرته إلى المدينة.

و قد كان على مدى ثلاث عشرة سنة عاشها في مكة، يطوف بالبيت و الأصنام تحيط به، و يسعى بين الصفا و المرة، و صنما إساف و نائلة على قمتيهما.

ألم يكن صلى الله عليه و سلم قد أسقط شرعية قريش الدينية، ( و الثورية: نقولها تجاوزًا ) لحظة نزول الوحي عليه في غار حراء، و بقي ينتظر من الوقت إحدى و عشرين سنة حتى تتهيّأ الظروف المناسبة لإسقاط شرعيتها الرسمية، آخذًا بالسُنن الكونية في تغيير المجتمعات.

إنّ إشغال النفوس بلحظة سقوط النظام، و ترك الأخذ بالسُنن الكونية في تغيير المجتمع السوري؛ تمهيدًا للانتقال به من نمط نظام الأسد إلى نمط الثورة الشعبية الراهنة، لهو حرفٌ لعجلة الثورة عن مسارها، و تكليفٌ للناس فيما لم يُكلَّفوا به.

 لقد أُمرنا بهزّ جذع النخلة؛ لتُساقِط علينا الرُّطبَ الجنيّ، بعد دبيب الحياة فيها؛ فهل أدركنا الحكمة في ذلك؟.

وسوم: 638