بوتين يمارس التشبيح الدولي في سوريا

عندما تحاول دولة مثل روسيا أن تعيد دورها التاريخي لا شك بأن ذلك يحتاج إلى البحث عن ساحة جغرافية والزمان والمكان المناسبين.

بعد ابتعاد الحكومة الأوكرانية عن روسيا قامت باحتلال شبه جزيرة القرم وفرض أمر واقع هناك أصبح المجال واسعاً أمام ورسيا كي تتمدد إلى أماكن أخرى ، كانت الجغرافية السورية المجال الحيوي لمثل هذا التوسع الإمبراطوري، ولكن بحلة ورداء جديد ،وجود شرعي من نظام بشار الأسد غير الشرعي ووفقًا لحق الدول في الدفاع عن نفسها الموثق في المادة«51» من ميثاق الأمم المتحدة تبرر موسكو تشبيحها الدولي وعدوانها على سوريا و أوكرانيا. لم يعد يحتاج بوتين اليوم مزيداً من الذرائع كي يزيد من حجم تواجد قواته العسكرية في سوريا .

منذ إعلان تركيا اسقاط طائراتها الحربية الطائرة الروسية من طراز سوخوي -24 التي اخترقت مجالها الجوي ، إذ بدأنا نسمع في هذه الأيام أحاديث من هنا وهناك ، مفادها أن روسيا تستغل حادث اسقاط الطائرة الروسية بهدف زيادة قدراتها العسكرية العاملة في سوريا دعماً لنظام الأسد ، فلم تكد تمضي ساعات قليلة حتى أعلن وزير الدفاع الروسي عن نشر وتشغيل منظومة صواريخ «اس 400» ومن ثم ارسال أكبر طراداتها البحرية والمعروف باسم «موسكو» تحت مبرر تقديم الحماية لطائراتها في سوريا ضد أي اعتداء.

لتكشف لنا صحيفة «التايمز» البريطانية، عن الخطط الروسية لبناء قاعدة عسكرية ثانية «الشعيرات» قرب مدينة حمص، وأكدت أنها جزء من الجهود التي تقوم بها روسيا لزيادة تورطها في سوريا، من خلال إرسال طائرات إضافية، وقوات عسكرية لحمايتهم ودعمهم.

ولا يخفى على متابع أن روسيا ومنذ انطلاق الثورة السورية في آذار/مارس 2011 وقفت ضدها بكل ما تمتلكه من إمكانيات سياسية «الفيتو» في مجلس الأمن الدولي حيث استخدمت حق النقض أربع مرات ضد صدور قرارات تدين جرائم بشار الأسد وعطلت صدور بيانات عن المجلس.

ومن الناحية العسكرية كانت روسيا قد زودت جيش النظام بالأسلحة وحمت دمشق دبلوماسيا من المحاولات الغربية لفرض عقوبات على الأسد في الأمم المتحدة.

لم يقف الأمر عند هذا الحد فقد لعب الروس دور العراب في صفقة إنقاذ بشار الأسد من العقوبات الأمريكية التي كادت تؤدي لقصف مواقع مليشيات الأسد نتيجة تخطيه خطوط أوباما الحمراء .

كما أن موسكو خالفت جميع دول العالم التي حضرت واتفقت على بيان «جنيف1» وفسرته تفسيراً مخالفاً لما تم التوافق عليه ومن ثم عقدت موسكو «واحد» وموسكو «اثنين « بهدف تشكيل معارضة مفصلة على مقاس نظام الأسد وتقبل بالإملاءات الروسية

ومازالت تلعب على وتر الطائفية وحقوق الأقليات وتمييع بيان جنيف واحد ، ومحاولة جعل بيان فيينا الموسع هو أساس لأي حل سياسي في سوريا.

بكل وضوح روسيا تريد التملص من تبعات بيان جنيف «واحد» وإعادة تأهيل الأسد واعتباره جزءاً من التسوية السياسية ، وهو أمر ينسف أي حل سياسي ، باختصار مكثف بشار الأسد وجنرالات حربة هم أصل المشكلة ولا يمكن أن يكون له دور في حاضر ومستقبل سوريا.

بعض خبراء معهد الاستشراق اعتبر أن توسع روسيا في نشر تواجدها العسكري في سوريا وفي مناطق أخرى رغم أزمتها الاقتصادية يهدف إلى فرض موسكو في معادلة التسوية مع الغرب.

في 30 سبتمبر/ أيلول، بدأت روسيا عدواناً مباشراً على الثورة السورية دعماً لحليفها الذي كان يسير بشكل متسارع إلى الهاوية محاولة تقديم ترياق الحياة له لعلها تتمكن من إعادة الحياة لنظام يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت وقع ضربات الثوار .

اليوم و بعد مرور شهرين على العدوان الروسي لم تتمكن من فعل أي شيء في هذا السياق وكل ما فعلته أن ارتكبت طائراتها الغازية عدداً من المجازر خلفت ما يزيد عن 1500 قتيل وتدمير 17 مرفقاً حيوياً من مستشفيات ومدارس وصوامع حبوب وافران ومراكز ضخ المياه» آخرها كان قصف مجموعة من الشاحنات التي كانت تنقل مواد إغاثية للأهالي من الحدود التركية إلى الداخل السوري اثنتان من تلك الشاحنات تعمل مع الأمم المتحدة.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، جرائم «حرب» بل تعداه إلى جرائم التطهير العرقي وذلك بأن تسببت طائراتها بتهجير أكثر من 150ألف مواطن سوري في ريف  اللاذقية ، وجرائم التطهير العرقي في هذا المقام تكمن في تهجير سكان ثلاثين قرية بالكامل من أصل ثلاث وثلاثين قرية في جبل التركمان في ريف اللاذقية معظمهم من الأقلية التركمانية ، بهدف تفريغ تلك المنطقة من سكانها الأصليين ، تمهيداً للمرحلة الثانية من خطتها إنشاء دويلة علوية في الساحل السوري تحفظ مصالحها.

هذا الاستهداف المتعمد من قبل الطائرات الروسية الغازية للمرافق الحيوية السورية التابعة للمعارضة والاستهداف الممنهج واسع النطاق لأفراد المكون التركماني في جبل «التركمان» وارتكابها لانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان تعتبر من أخطر الجرائم كونها ترتقي إلى:

1 ـ جرائم حرب بحسب المادة/8/ من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

2 ـ جريمة الإبادة الجماعية حسب نص المادة/6/ من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والمادة/2/ من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية.

3 ـ جرائم ضد الإنسانية بموجب المادة/7/ من نظام روما الأساسي .

ومع تصاعد الخلاف الروسي التركي على خلفية اسقاط الطائرة الروسية ، أتهم الرئيس الروسي بوتين ، تركيا بالتعاون مع تنظيم الدولة وشراء النفط منها ،الأمر الذي نفته تركيا حتى وصل الأمر بأن قال الرئيس التركي أردوغان أنه مستعد للاستقالة في حال أثبتت روسيا صحة مزاعمها ، ولكنه أضاف في سؤال هل سيستقيل بوتين في حال ثبت أنه يكذب.

ليأتي الجواب وزارة الخزانة الأمريكية فرض عقوبات جديدة على عشرة كيانات ورجال أعمال روس وسوريين -بينهم مسؤولون حكوميون- بسبب دعمهم لبشار الأسد، وتسهيل عمليات شراء النفط من تنظيم الدولة الإسلامية لصالح النظام السوري. وها هي ألمانيا وعلى لسان قالت سوسن شبلي، نائبة المتحدث باسم الخارجية الألمانية، إن لدى بلادها وثائق تثبت شراء النظام السوري الكمية الكبرى من نفط تنظيم «الدولة». جاء ذلك في مؤتمر صحافي عقدته شبلي، في العاصمة الألمانية برلين، الثلاثاء، تطرقت فيه إلى مزاعم روسيّة بشأن «شراء تركيا النفط من التنظيم»، موضحة أن بلادها «لا تمتلك معلومات أو وثائق بهذا الصدد».

من جانبه قال ستيفن سايبرت، المتحدث باسم الحكومة الألمانية، في المؤتمر ذاته: «يجب عدم اتهام أي طرف بشراء نفط تنظيم الدولة، دون وجود أدلة ووثائق».

من هنا يمكنننا القول إلى حد بعيد جداً أن أطماع روسيا في سوريا أكثر بكثير مما كان يعتقده البعض من تأمين مصالحها في المياه الدافئة على اعتبار أن سوريا آخر قواعد روسيا في البحر المتوسط.

رغم أن الكثيرين يتجاهلون حقيقة أن روسيا لها قاعدة ذات أهمية قصوى لإحتوائها قاعدة بحرية في المياه الدافئة، وهي مقر أسطول البحر الأسود الروسي في «شبه جزيرة القرم « بعد احتلالها يمكن أن تعوضها عن قاعدة طرطوس روسيا تريد تحسين مواقعها التفاوضية مع المجتمع الدولي على رأسها «الناتو».

ونعتقد في ما لا يدع مجالاً للشك إن نرجسية السيد «بوتين « الذي لا يريد أن يعترف بأخطائه ويكابر مستعد إلى الذهاب إلى أبعد حد في تطرفه وتعصبه لقراراته غير المبالية بإعداد القتلى والخسائر التي تتكبدها روسيا على كل صعيد من «اقتصاد وعداوات « ، أو المغامرة في انفجار الوضع الداخلي في روسيا خاصة في الجمهوريات الإسلامية ضمن الاتحاد الروسي.

كما يمكننا القول أن مشروع بوتين يهدف إلى إعادة روسيا إلى الواجهة الدولية وأن تكون قطباً في مقابل القطب الأمريكي وهو ما لا يتقاطع مع المشروع الإيراني الشعوبي «المذهبية».

وسوم: العدد 646