العقل السياسي الايراني المعاصر(20)

د.عبد الستار الراوي

الخلاصات  والنتائج

ثمة إشكاليتان  تتبديان في قراءة  العقل السياسي الإيراني  

الأولى  أن الفكر الثيوقراطي  ينتظم داخل منظومة قيمية من المطلقات الميتافيزيائية وهي  مقررة سلفا يمليها منطق ذاتي محض، طبقا لــ(إلهامات) المرشد الاعلى التي يستمدها من قداسة موقعه بوصفه نائب الإمام الغائب ؛ لذلك تبدو التجاوزية العابرة للزمان والمكان في الكثير من المواقف المفارقة للواقع  ؛   

أما الإشكالية الثانية ؛ صعوبة التنبؤ بخطط ومرامي العقل (المتعالي) ؛ بسبب  تغير آليات عمله من أسلوب لاسلوب ، ومن وسيلة لاخرى ،  وبصرف النظر عن كون هذه الفكرات أو النداءات أحادية، ذاتية، ماورائية، فإن ولاية الفقيه في ترتيباتها الفكرية ونظامها الهرمي وسلطتها المطلقة ، تحرص على تأكيد إتساق نظريتها في إدارة الدولة وعلى تماسك بنيتها  في الفكر والعمل ، ومن الثورة إلى الدولة، ومن التجربة المحلية إلى الولاية الأممية  .وطوال أكثر من خمس وثلاثين سنة ، حظيت التجربة الايرانية منذ قيامها وحتى اليوم  بكم هائل من الدراسات والأبحاث ، تنظيرا وتأييدا لها ؛ أو نقضا  لأصولها ومسيرتها؛ وإذا كانت التجربة الايرانية لدى المؤمنين بها والموالين لعقيدتها بأنها من أحذق التجارب وأكثرها نجاحا    في تاريخ الاسلام السياسي ؛  فإن النتائج المتحققة على المستوى السياسي ، تبرزها، “بأنها ظاهرة فوقية تتعلق بالبنية التحتية. وترفع شعارات الجماهير، دون أن تمس واقع  ما هو كائن بالفعل، مكتفية بنداءاتها الحركية. واضعة وزنها كله في دائرة اللاهوت المسلح، مفارقة لجدليات التاريخ والمجتمع والإنسان. ولم يعد بإمكان الشعب الإيراني طبقا لمعارضيها  إلا أن يبحث عن أحلامه في الحرية والعدالة خارج عالم الفقيه المقدس، بعد أن جرى اعتماد الولاية منذ 1979 فلسفة للنظر وبرنامجًا للعمل . [1]

فالولاية في رأي منظرها حقيقة مطلقة، بوصفها في البدء والمنتهى بلاغًا إلهيًّا وعلمًا لدنيًّا جامعًا لكمالات البيت النبوي، تفصح عنها قداسة سجايا المرشد بوصفه نائبا ووكيلا  للمعصوم ، ولذلك يرى منظروا الولاية الإيرانيون ؛ ومن بينهم الشيخ  مصباح يزدي أن الولاية تمثل روح الإسلام، وجوهر العدل الإلهي، وهي طريق الخلاص الأممي للمسلمين وغير المسلمين، وهي المنقذ الإلهي المنتظر الذي سيحرر المعذبين والمقهورين والمستضعفين في العالم بأسره، وبعزم الولاية وقوة جيشها ذي العشرين مليون مقاتل ستندحر جبهة الطغاة والمستكبرين، وسيولي الأعداء الدبر. وبهذا الانتصار العظيم، تتحقق مهدوية الولاية في إزالة الظلم عن ظهر البسيطة، وإعادة بناء الحياة العادلة لعموم البشرية، تحت راية المرشد الاعلى ؛ في دولة  القسطاط الالهي التي لا يجوع إنسان فيها ولا يعرى.

وحسب هذه الرؤية التأويلية، فإن الحكومة الدينية  التي أقامها الإمام  الخميني، هي الحكومة الشرعية الوحيدة في هذا العصر، وهي الحكومة الثالثة في التاريخ بعد حكومتي الرسول (ص) في المدينة والإمام علي بن أبي طالب في الكوفة، وما عداهما فإن الحكومات والدول كلها دون استثناء  تعد منحرفة واستكبارية، يتعين إزالتها واقتلاعها من جذورها بصرف النظر عن هوياتها وأيديولوجياتها، وتراثها وحضارتها؛ لأنها في رأي الإمام الخميني مبتدعة، وكافرة، فرضها الطاغوت المتجبر ولم ينتج عنها سوى الظلم والضلالة . [2]

إزاء ذلك ينصب المرشد الاعلى ولايته (السياسية)، جاعلا منها عقيدة “راسخة”، تتجاوز يقينياتها الظنون والشبهات، وتعلو مطلقاتها على اجتهاد الفقهاء وآراء العلماء، ولذلك لم تعد جمهورية 1979 حسب منظري الولاية تندرج في سلم التجارب السياسية الاخرى، كما هو حال الجمهوريات الأخرى، ولا هي مسألة فقهية خاضعة لاجتهاد العلماء، بل تمتنع عن الجرح والتعديل، ويحرم على أي فقيه مهما بلغ من مراتب العلم والفقاهة أن يبدي رأيًّا نقديا يتعلق بشأن من شؤون الولاية ؟ وإذا حاول أو غامر في ذلك فإن مصيره سيكون وبيلا، كما مصير الذين تجرؤوا من قبل ؛ أمثال (شريعتمداري  ومنتظري  وآغا حاجري ، و عشرات  غيرهم من الفقهاء والعلماء) الذين تناسوا قداسة الولاية وعصمة مرشدها وفاتهم أنها مطلقة في الدين والدنيا، وأن الموقف منها هو  معيار مطلق الحكم، يدخله الجنة أو يلقي به في الجحيم.

وهكذا استلب الإمام الخميني باسم الدين قيم الإسلام الحضارية وعهوده الإنسانية الزاهرة لينشئ مملكته اللاهوتية، المسماة بـ(ولاية الفقيه ) . [3] ذات البعد السياسي  الواحد التي اختزلت الكليات الإسلامية وصبتها في جزئية مذهبية، فقدمت الفرع على الأصل، [4] وترتب على ذلك أن عدّ الإيمان بولاية الفقيه ركنًا من الأركان العبادية. وتوج المرشد نفسه إمامًا للمسلمين، ومرشدًا أوحد للعالمين.

ومن أراد أن يقترب من حقيقة التجربة الدينية وما يجرى داخلها ومن حولها من صراعات طويلة مركبة عليه أن يتأمل وقائع صيف 2009 وما كشفت عنه انتفاضة جماهير الشعب الإيراني من نقائض وما عبرت عنه من أضداد بين الثنائيات المتصارعة: “الناسوت واللاهوت، الجامعة والحوزة، العقل والسلاح“.

(1)

 إن القراءة التحليلية المحايدة لنصوص ولاية الفقيه تكشف، من فورها، عن أن هذا الكتاب كان “مانفيستو” سياسيًا [5]  تعبيرًا عن ظاهرة ذاتية غاضبة، لا فلسفة دولة. وليس الغضب هنا محض حالة انفعالية عابرة أو محدودة التأثير، بل هو ترجمة لتراكم ثقافي تاريخي للعقل اللاهوتي الذي يعتقد أن رجل الدين (المقدس) هو المؤهل الأوحد لقيادة العالم، لكونه وارث العلم الإلهي، والمزود بالكمالات الربانية، وحامل الحقائق الكلية، الناطق باسم السماء، لذلك فإن التعبير السياسي عن حاكمية (السيدين الخميني والخامنئي) بموجب الدستور الذي نص على أنها (ولاية إلهية مطلقة)، وبهذه الصفة التوكيدية القاطعة  (Dogmatism)، القائمة على تصورات قبْلية  (Apriori)، وعلى أحكام إستباقية ، فإن حاكمية المرشد تلزم جميع مسلمي العالم أينما وجدوا وأقاموا بالتسليم للفقيه الحاكم والانقياد الكلي لأوامره، فالولاء للمرشد الفقيه ركن من أركان الدين، وطاعته من تمام الإيمان. وهو فرض واجب يأثم تاركه، كتارك الصلاة وتارك الزكاة وعاق الوالدين، وهذا الترك يستوجب الذم وإنزال العقاب.

هذه هي ولاية الفقيه التي أنشأها الإمام الخميني، وآلت بمطلقاتها اللاهوتية إلى تلميذه السيد علي خامنئي، وكلا المرشدين الأول والثاني ضغط الحياة والكون والإنسان ضغطًا لاهوتيًّا في نقطة ضيقة،  [6] وجعل من الشريعة الإسلامية حسب رأي الكثير من علماء الإمامية هدفًا غير قابل التحقيق، باستثناء التمجيد الإنشائي [7] الذي لم يبرز من الدين سوى قشرته الخارجية، بل تجاوزه في نزعة قد تبدو لبعضهم أنها عصرية [8] لكنها في رأي الكثيرين من الفقهاء جعلت من أمر تطبيق أحكام الشرع ضربًا من المستحيل .[9]

(2)

إذا كان الإيمان بولاية الفقيه بات شرطًا من شروط الدين ، وركنًا من أركان الإسلام، فإن المسلمين مطالبون بالعمل تحت راية المرشد الاعلى، ومستعدون أتم الاستعداد لتلبية ندائه في الحرب والسلم، فالولاء الكلي لـ(إيران) يسبق الولاء (الجزئي) للأوطان، بل يتفوق على كل ولاء وانتماء سواء كان عائليًّا قبليًّا أم وطنيًّا.

 هنا، وعند هذه النقطة بالذات، نشأت في المقابل ظاهرة “حزب ولاية الفقيه” في بعض البلدان العربية والإسلامية، فكان الحزب الولائي بمنزلة عين (إيران) التي تبصر بها، واليد التي تضرب بها، والصوت الناطق باسمها والمعبر عن مصالحها، ويقدم حزب الله في لبنان نفسه نموذجا إيرانيًّا خالصًا في الولاء المصيري والانتماء العقائدي، بإقرار أمينه العام السيد حسن نصر الله القائل: (.. مشروعنا الذي لا خيار لنا في غيره، كوننا عقائديين هو الدولة الإسلامية، وسيكون لبنان جزءًا من الجمهورية الإسلامية الكبرى في إيران، يحكمها صاحب الزمان ونائبه في الحق الإمام الخميني). وأكد مزهوًّا ومتفاخرًا في خطاب مباشر عام 2010 أنه وحزبه متمسكان بولاية الفقيه، بقيادة نائب الإمام ولي أمر الإسلام والمسلمين السيد علي الخامنئي. وصار حزب الله كما أحزاب الولاية الأخرى (منظمة العمل الإسلامية وحزب الدعوة ومجلس الحكيم)، أحدى أدوات إيران في حربها مع العراق، وقد تولى الحزب تنفيذ العديد من العمليات الإرهابية من بينها تفجير السفارة العراقية في بيروت على يد أحد كوادره المدعو عماد مغنية 1985، كما قامت عناصر الحزب بخطف طائرة مدنية عراقية وإسقاطها عام 1986، وفي أعقاب الاحتلال الأميركي واصل حزب الله دوره التخريبي لحساب الجمهورية الإسلامية، فأعلن تأييده لحكومات الاحتلال الخمس المتعاقبة، وبارك نظام المحاصصة الطائفية في العراق، وأسهم بإعداد وتدريب مليشيات الأحزاب الولائية وتدريبها في مقابل موقفه المضاد من المقاومة العراقية.

وسارعت قيادة حزب الله، إلى تأييد تدخل الولاية الإيرانية المشين في الشأن العربي الداخلي منذ بداية الحراك السياسي عام 2011، فتبنى الحزب موقف طهران على الرغم من تناقضاته الفاضحة، فانتدب الحزب نفسه للقتال في سوريا والعراق دفاعا عن حكومتي بشار الاسد ونوري الماكي ،  وسار على خط المرشد الذي قضى بتحريم التظاهرات في بغداد، في مقابل ذلك كرس الحزب برامج قناة المنار للنيل من مملكة البحرين، تنفيذًا وامتثالا لخطاب السيد خامنئي الذي كانت أحاديثه حول أحداث البحرين إعلانًا من إعلانات التحريض والتعبئة ضد الوحدة الوطنية، وضد السلام الاجتماعي للشعب العربي في البحرين.  واقحم الحزب الولائي نفسه في اليمن ؛ واتخذ موقفا مناهضا من دول الخليج العربي ، في محاولة للنيل من استقرارها

الهوامش و التعليقات

[1] عبدالستار الراوي: الأيديولوجيا والأساطير. وزارة الثقافة . بغداد 1989 ص14

[2] انظر الإمام الخميني. ولاية الفقيه 18 وما يليها.

[3] الراوي: مقدمة أولى في الأيديولوجية الإيرانية . مركز البحوث والمعلومات ـ  1982.

[4] ولاية الفقيه ـ مصدر سابق ص 7-8.

[5] محمد عمارة: الفكر القائد في الثورة الإيرانية، القاهرة 1982..

[6] راجع صليبا. المعجم الفلسفي. بيروت 1973 ج2 ص24، وكارل ما نهايم. الأيديولوجية واليوتوبيا (النسخة العربية) بغداد 1968 ص20 وما يليها.

[7] راجع الإمام الخميني. كشف الأسرار مركز البحوث والمعلومات ـ بغداد ـ ص45 -221

[8] التحديث (Moderisation) تنهض عملية التحديث على تطوير اتجاهات إيجابية داخل المجتمع، أي أنه من الضروري أن يتغير نسق الاعتقاد وأن يتبنى الأفراد اتجاهات جديدة، ومع ذلك فالناس غالبًا ما يميلون إلى الاحتفاظ بمعتقدات واتجاهات تقليدية، حتى وإن كانت لا تتسق مع الواقع المتغير، الأمر الذي يجعل التحديث عسيرا.. وإذا كان التحديث يشير إلى ثلاث ظواهر هي “الرشد. والعلم. والتكنيك (الأسلوب الفني)”، فإن “ولاية الفقيه” نموذج يقف بالضد تماما رغم (تحديث بعض المفاهيم الفقهية). فهي تستند إلى قيم مضادة لذلك تماما هي العفوية، والعادات القديمة، والمعتقدات الموروثة.

انظر وقارن. محمد علي محمد. دراسات في علم الاجتماع السياسي. دار الجامعات المصرية. الإسكندرية 1975 ص403

[9] انظر محمد سلام مدكور. مناهج الاجتهاد في الإسلام. ط ثانية – الكويت 1977 ص27 – 29.

د.عبد الستار الراوي                                   

مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية

وسوم: العدد 646