صدق قيس

د. محمد أبو زيد الفقي

في صحراء جزيرة العرب نشأت قصة حب هائلة ، ضربت جذورها في التاريخ الأدبي العربي ، قصة حب قيس بن الملوَّح لابنة عمه ليلي بنت المهدي ، بدأت قصة الحب بين طفلين يلعبان ، في ربوع بيوت القبيلة ، يذهبان مع غيرهما من الأطفال ، إلي خارج الديار ، يرسلان بصريهما إلي الأفق عند الشروق والغروب ، ثم يعودان إلي الديار ، ويذهب كل منهما إلي مسكنه  ، لكن ارتباطهما القلبي ، لا يتركهما  يبتعدان ، بل يظلان معا ، جسدين متجاورين ، أو متباعدين لكن بقلب واحد ، يخفق بالحب في هجير القبيلة أو في تبسم الأصيل والصبا .

انتهت فترة الطفولة الأولي والثانية ، وأطفال القبيلة ليس عليهم حرج في العدو والفرح والابتهاج معا بلا حرج ، وكان هذا هو عالم قيس وليلي المبكر.

وعندما أصبحت ليلي فتاة مكتملة الأنوثة ، وقيس شابا مبشرا برجل عظيم ، وُضعت القيود علي لقائهما معاً، لكن الليل كان يجمع الفتيان والفتيات في بيت المهدي بسبب ذكاء ورجاحة عقل ليلي ، وكان قيس في هذه السهرات يشتعل حبا  ويستعر شوقا ، إلي ليلي مطلقاً قصائده الشعرية التي رددها أهل القبيلة وظلت القوافل تسير بها ، وليس في تاريخ العرب أقوى من قصة حب قيس وليلي .

وبعد انتشار هذا الشعر واعتبار بيت المهدي والد ليلي قِبلة  المحبين في جزيرة العرب، وقدوم القوافل للسؤال عن قيس وليلي، هنا شعر والد ليلي بالفضيحة، ورفض كل طلبات ورغبات وتوسلات الناس في أن يوافق علي زواج قيس من ليلي ، وصعد قيس إلي الجبال المجاورة ، وبدأ يناجي النجوم والكواكب ويبثها حبه لليلي ، ويحدِّث السباع ، والضباع ، والطير ، والشجر ، والحجر ، وبات الكل يتعاطف معه ، حتى الجن كان يجتمع حوله ويواسيه  ويروى أنه كان يرفض الطعام إلا قليلا  ويناجي ربه قائلا :

" ملأت سماء البيد عشقا وأرضها           وحُمِّلت وحدي هذا العشق يا ربي "

ثم ينخرط في البكاء ، وكان يشكو للجان من آلام حبه ، فيقول له كبيرهم :

 " تفردت بالألم العبقري               وأنبغ ما في الحياة الألم "

وظلت قصة حرمان قيس من ليلي تتسع وتنتشر حتى وصلت إلي سمع أمير المؤمنين مروان بن الحكم.. نعم، قُصَّت عليه لتسليته لكنه انفعل بها، وكلف أحد أمرائه بالذهاب إلي المهدي والد ليلي في ديار قبيلته  والشفاعة عنده حتى يوافق علي زواج قيس من ليلي.

ذهب الأمير وسافر أياما حتى استقر به المقام علي فراش بجوار المهدي والد ليلي.. كانت فرحة أهل القبيلة عظيمة بوصول رسول أمير المؤمنين إلي قبيلتهم للشفاعة في هذا الموضوع، فهو تكريم للقبيلة التي أنجبت ليلي بعفافها وقيس بشعره ما وضع القبيلة علي خريطة دولة الخلافة، وبعد أخذ ورد بين الأمير فوَّاز الجبالي والمهدي والد ليلي ، وافق المهدي علي شفاعة الأمير لكنه اشترط موافقة ليلي، وطلب الأمير أن يسمع موافقة ليلي قبل أن يغادر ديار القبيلة لينقل ذلك إلي أمير المؤمنين مروان بن الحكم.

دخل المهدي إلي غرفة مجاورة لحظات ثم أحضر ليلي وسألها عن رأيها في الزواج من قيس، فقالت :       والله يا أمير لقد عانيت  ،، من حماقة قيس ومن جهله

                  والله يا أمير لن أكون له زوجة ،، حتى لو كان مروان من رسله

فقال الأمير : وما أنا إلا أن أُداوي القلوب           وأجمع خلا علي خله

ثم شعر الأمير بالحرج وانصرف بعد أن خاب مسعاه ، ودخلت ليلي إلي حجرتها وهي تسأل نفسها : لماذا ضيعت هذه الفرصة التي تجمعني بحبي وأملي ورجائي ، و إن حياتي هي قيس فأنا أسكن فيه، واستمد منه بقائي في الدنيا.

وقالت : 

         مالي غضبت فضاع أمري من يدي

        والأمر يخرج من يد الغضبان

        سألوني فتكلمت فهذيت     

        فقتلت اثنين بالهذان 

وبعد أن تقرر زفاف ليلي علي ورْد ابن عمها صعد قيس إلي الجبل، بعد أن فقد أمله وضعُف جسده ، وخاصم الدنيا ، ولم يكن يعيش معه في المغارة علي الجبل إلا ابن عمه " شديد " ، وعزفت نفسه عن الطعام ، ومات والده ، وعاشت أمه  في حزن عميق علي فقد الأحبة " الزوج والولد " .

وحدث أن مر بالقبيلة أو بالديار، عَرَّاف مشهور في علاج مس الجن والأمراض النفسية، وجلس عند شيخ القبيلة، وذهبت إليه " أنيسة " أم قيس ، وطلبت منه أن يبارك بيتها ، فذهب معها ومع " أحمد " ابن عم قيس، وحكوا له قصة قيس وليلي  وزواج ليلي من ورْد، وإضراب قيس عن الطعام، فقال العرَّاف : اذبحوا شاة وسوُّوها علي النار ، ولا تضيِّعوا شيئا  منها  ، وأحضروها لي حتى أقرأ عليها ، ففعلوا ما أراد ، وأُحضرت الشاة وقرأ عليها كثيرا، ثم أخذ قلبها  " قلب الشاة المشوي " وقرأ عليه كثيرا ، وقال للجارية التي ستذهب إلي قيس، حاولي أنت وابن عمه " شديد " الضغط عليه ليأكل من هذه الشاة الشهية فإذا رفض ، فأطعموه القلب  ولو برغمه ، وذهبت الجارية إلي الجبل وحكت  لشديد ما قاله العراف ، ودخل شديد إلي الغار ، وأخرج قيسا وحكوا له قصة الطعام وما فيه من شفاء ، فقال قيس أنا لا أستطيع تناول أي شيء من الطعام ، مهما كان فيه من شفاء ثم غطيَّ الشاة وطلب من الجارية الانصراف ، فقالت الجارية : إن العرَّاف المبارك كان يتوقع رفضك  فقال لي:

إذا لم يأكل من الشاة ، فأطعموه القلب فقط ، وهو قطعة صغيرة لن تكلفك عناء ، وبعد ضغط من الجارية وابن عمه شديد وافق قيس علي أكل القلب فقط وطلب من الجارية إخراج القلب من الشاة ، وبدأت الجارية البحث عن القلب في لحم الشاة ، ولسوء الحظ اكتشفت أنه ضاع منها ، وسقط في مكان ما بالطريق ، و أخبرت قيس وهي تبكي بفقد القلب.

فقال :

وشاة بلا قلب يداوونني بها          وكيف يداوي القلب من ليس له قلب.

لا أدري لماذا استعادت ذاكرتي هذه القصة و أنا استمع إلي رجاء الرئيس السيسي للعلماء بتجديد الخطاب الديني ، فشعرت بالإشفقاق عليه وعليهم ورأيت أن التجميد والتبريد أفضل للجميع، إذ لا شك أن اليأس أحد الراحتين كما يقولون ! وصدق قيس إذ قال: فكيف يداوي القلب من ليس له قلب ؟

وسوم: العدد 650