العلمانية

تقديم

الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فهذا تعريف موجز بحقيقة العلمانية ومفهومها ونشأتها في محضنها في الغرب المسيحي، ومدى ملاءمتها مع التعاليم المسيحية المقولة على سيدنا المسيح بن مريم عليه السلام. وموقف الكنائس المسيحية على مختلف أنواعها أو مذاهبها من بروتستانتية وكاثوليكية وأرثوذكسية في الغرب والشرق، ومدى ملاءمتها للإسلام وتعنادها معه، وعدم حاجة المجتمع الإسلامي لمثلها، لكفاية الإسلام لحاجات مجتمعه.

ولعل هذا الوجيز يعطي صورة معرفية أولية لحقيقة العلمانية وأنواعها في أوساط مجتمعنا الإسلامي الذي يجهل كثير من أبنائه المعرفة الحقيقية عن العلمانية. والله ولي التوفيق.

21 من تشرين الثاني 2013م

18 من المحرم 1435هـ

الكاتب

دندل جبر

تعريف العلمانية

" شاع لفترة طويلة وما زال شائعاً بين عدد كبير من مثقفينا أن الإسم الذي اشتهرت به العلمانية ينبغي أن يلفظ بكسر حرف العين، مما أوحى بنسبتها إلى العِلْمِ، وإن هذا خطأ ينبغي تصحيحه، إذ أن لفظة  "عَلَمانية" مشتقة من "عَالمَ" وليس من "عِلْم" والطريقة الصحيحة للنطق بها هي بفتح حرف العين واللام معاً...

والعِلْماني (بكسر حرف العين ) هو من يتخذ من المعرفة العِلْميَّة كما هي ممثلة في العلوم الطبيعية ... مما يعني عدم اعترافه بإمكان المعرفة الخلقية أو الدينية أو الميتافيزيقية (الغيبية) لأن القضايا المنسوبة لأي منها لا يمكن إخضاعها – حتى من حيث المبدأ – لمعايير العِلْم.

إن ما نحن معنيون به... هو العَلًمانية (بفتح حرفي العين واللام) وهذه لا تتضمن موقفاً من طبيعة المعرفة بعامة، ولا موقفاً من طبيعة المعرفة العِلْمية بخاصة، إنها في المقام الأول ... معنية بدور الإنسان في العَالَم وبتأكيد استقلالية العقل الإنساني في سيرورة توظيف الإنسان للعقل في أي من المجالات التي يوظفه فيها، والأهم من كل هذا أنها معنية بجعل دور الإنسان في العًالًمِ مشتملاً على اكتشافه باستقلال عن الدين.

الغايات التي يجدر بها تحقيقها في هذا العالم والوسائل القمينة بتحقيقها، إن العًلًمانية بهذا المعنى هي إذن : موقف أبستمولوجي (علم المعرفة) إلى الحد الذي تكون ضمنه موقفاً من طبيعة المعرفة العلمية (معرفة الغايات والوسائل) وعلاقتها بالمعرفة الدينية، غير أن العَلَماني (بفتح العين واللام) ليس بالضرورة عِلْمانياً (بكسر العين)... (1)

وقد " صدر القرار من مجمع اللغة العربية في بيان حقيقة هذه الكلمة (العَلَمانية) وقد نص فيه على أن العَالَمانية مصدر صناعي من العَالَم، أي الانتماء إلى العَالَم أو الأرض دون الانتماء إلى الدين أو العِلْم، والمقصود بها في لغتها الأصلية : فصل الدين الدولة، وإبعاد الكنيسة عن السلطة. نشرت جريدة الأهرام المصرية بتاريخ 28/8/1988م نص قرار المجمع اللغوي بشأن هذه الكلمة جاء فيه : تردد في العصر الحديث استعمال كلمة (عَلَماني) على أقلام بعض الكتاب والمفكرين بفتح العين غالباً وبكسرها في النادر (فمن فتح العين أراد النسب إلى العَلَم، بمعنى العَالَم) (ومن كسر العين أراد النسب إلى العِلْم). وقد انتهت اللجنة إلى أن ضبط الكلمة هو بفتح العين لأنها ترجمة لكلمتي :

(LAIQUE . SECULLIERR)

  وهما تدلان على الانتماء إلى العَالَم أو الى الأرض دون الانتماء إلى الدين أو العِلْم. وجاءت ترجمته على الأصل (عَالَماني) نسبة إلى العَالًم بزيادة الألف والنون، كما استخدم كلمة (عَلَماني) أيضاً بفتح العين، ثم جاء بالمصدر الصناعي منها فقال : (عَالَمانية) والمعنى المراد – في معظم بلاد أوربا الغربية وخاصة فرنسا- هو فصل الدين عن الدولة، وإبعاد الكنيسة عن السلطة، ومن ثم يرى المجمع أن الصواب هو (العَالَمانية) ولا يرى للمصطلح مفهوم (العِلْم) بكسر العين إطلاقاً".(2)

______________________________________________________________________________________________

(1) – (الأسس الفلسفية للعلمانية – عادل ضاهر – ط2 – 1998 – بيروت – ص37 -38 )

(2) – ( المواجهة بين الإسلام والعالمانية – إعداد الدكتور صلاح الصاوي – ط2 – 1413هـ - 1993م – الآفاق الدولية للإعلام – القاهرة – ص20 – 21 )

وقد استدرك أو تعريف أعم للعلمانية لبعض المفكرين حيث قال مستدركاً على التعريف السابق : "وهناك استدراك على تعريف العَلَمانية بأنها فصل الدين عن الدولة قاصر وساذج لأنه يحصر العلمنة في قطاع ما يسمى "بالحياة العامة" وفي المجالات السياسية والاقتصادية وحسب، وكأن حياة الإنسان الخاصة وأحلامه وأسلوب حياته تظل بمعزل عن عمليات العلمنة، لكن من المعروف لدى الجميع أن مؤسسات الدولة وصناعات الترفيه واللذة في المجتمعات الحديثة قد تغلغلت في حياة الإنسان الخاصة، ووصلت إلى أعماقه ولا وعيه وأصبحت تؤثر في رغباته وأحلامه وشهواته ورؤيته لذاته بشكل ليس له نظير في التاريخ.

ومن ثم فنحن في حاجة إلى نموذج (من التعريف) أكثر تفسيرية وتركيبية للعَلَمانية يتجنب تسطيح الأطروحات الشائعة – من أن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة فقط ...

والتعبير الفلسفي لذلك هو : أن العلمانية تعني أن العالم مكتف بذاته، وأنه يحوي داخله كل ما هو ضروري لإدراكه والإفادة منه، وأن عقل الانسان قادر على فهم كامل للطبيعة، وعلى تحقيق السيطرة التامة عليها، وهو قادر وحده (أي العقل) على إدارة العَالَم وتأسيس نظمه المعرفية والأخلاقية، وليس بحاجة إلى شيء آخر خارج النظام الطبيعي المادي، وفي هذه الحالة تصبح مرجعية الإنسان كامنة في ذاته.

وينتج عن ذلك اختزال الأنسان ورده إلى القوانين المادية الطبيعية، ففي إطار المرجعية الكامنة يصبح الإنسان جزءاً من الطبيعة والمادة لا يتجاوزهما، بحيث إن ما يسري على الطبيعة يسري عليه، مما يعني عملياً فقدانه لمركزيته وإنسانيته، ونزع القداسة عنه تماماً"(1)

______________________________________________________________________________________________

(1) – ( فهمي هويدي – المفترون – ط2 -1420 هـ - 1999م – دار الشروق – القاهرة – ص251)

نشوء العلمانية

" تمتد جذور النظرية. العَلَمانية في بنية الفكر الديني المسيحي الأول الذي قام على التمييز الصادم والدقيق بين مملكتين مختلفتين ومتعارضتين تمام الاختلاف والتعارض، مملكة الله والروح من جهة ومملكة الدنيا والجسد من جهة أخرى، وهو الذي عبرت عنه العبارة الشهيرة التي تنص على ترك ما لقيصر لقيصر ومالله لله... ولعل الجذور الحقيقية لنشوء الميول العَلَمانية كامنة في صيرورة تكوُّن الدولة نفسها في المجتمعات الغربية، ذلك أن سيطرة الكنيسة المطلقة في الميدانين الزمني والروحي (الدنيوي والآخروي) – رغم التمييز المطلق بينها – قد حرم الدولة من أي قاعدة مستقلة، وجعل ارتباط ولادتها بالصراع الحتمي ضد السلطة الكنسية الشاملة، وقد اتخذ هذا الصراع شكلين أساسيين، الأول : الكفاح في سبيل أن تنتزع لنفسها حيزاً خاصاً بها – أي أن تعين مجالاً سياسياً متميزاً عن مجال الدين، والثاني، : أن تخلق لنفسها قاعدة مستقلة للشرعية، تختلف عن شرعية السلطة التي تمارسها الهيئة الدينية المسيحية (الاكليروس ). وهكذا كان نشوء دولة مركزية، يعني في الواقع النجاح في احتكار الحق في ممارسة العنف (القوة)، ومن ثم انتزاع حق تكوين الميليشيات من الكنيسة، والتشكيلات الاقطاعية المرتبطة بها، كما كان يعني النجاح في تكوين سلطة قانونية وتشريعية مستقلة عن التشريعات الدينية، ومرتبطة مباشرة بالدولة، وهو ما بدأ بالتحقيق منذ القرن الثالث عشر في صراع الملك لويس التاسع لتثبيت السيادة الملكية ضد السلطات الاقطاعية، وما أكده عمل القانوننيين الفرنسيين وعلى رأسهم "بومنوار".

وكانت الكنيسة – التي احتلت منذ الغزو البربري الجرماني الذي دمر الامبراطورية في الغرب الأوربي – مركز السيادة في التنظيم الاجتماعي وكانت المقر الأول للسلطة الاجتماعية حتى القرن السادس عشر، قد أخضعت المجتمع لنظام صارم من القيم التي تنكر نظرياً المصالح الدنيوية والأرضية، وتنكر الجسد، وتبجل الروح التي تقيم عليها سلطتها المطلقة والحصرية.

وظهرت هذه السيادة التي مارستها الكنيسة باسم الآخرة والفداء، وكأنها عقبة قوية أمام تفتح الحياة وازدهارها وتعبيرها عن نفسها. ومع انحلال الإقطاعية الغربية وتزايد الاتجاه نحو رسوخ الإمارات والممالك الأوروبية، وبالتالي زوال الأثر التدميري للغزو البربري، أو امتصاص صدمته التاريخية بدأت النظرية السياسية تطل برأسها من جديد، كمنارة للمارسة وللدولة الجديدة الناهضة من ركام المجتمع القديم المفتت إلى عصبيات دينية وإقطاعية لا تحصى". (1)

____________________________________________________________________________________________

(1) – (الدكتور برهان غليون – نقد السياسة – الدولة والدين - - ط1 -1991م – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – ص283 – 284)

" وقد نمت هذه الدولة والنظرية السياسية الحديثة "القومية" التي رافقت نشوءها وتطورها باستمرار وخلال قرون طويلة، في مواجهة ادعاءات البابوية بالسيادة والحكم، أي الإدعاءات المسيحية (دين ودولة) وضدها، واحتفظت من هذه التجربة بموقف حاسم وعنيف ضد الطموحات السياسية للهيئة الدينية. هو ذات الموقف العَلَماني الذي لا يزال يعبر عن نفسه في التنافس بل الصراع الدائم بين قيم الفكر السياسي المدني أو العرفي، وقيم الفكر السياسي الديني، قيم التأكيد على أولوية وأهمية استخدام العقل والاعتناء بالبدن، أي بالدنيا، وقيم التأكيد على أسبقية الروح والتعلق بالسماء ونفي الجسد وحرمان النفس، القيم المستمدة من التعلق بعالم وملكوت السماء، والسعي نحوه، وتلك المتعلقة بملكوت الأرض والحياة الدنيا.

وهكذا أنشأت القطيعة التاريخية بين الوعي الديني والوعي الدنيوي كانعكاس للقطيعة الأصلية بين الروح والجسد، وكما أقامت الكنيسة – خلال القرون الوسطى من خلال التأكيد على أسبقية القيم الدينية والروحية – سلطتها المطلقة على الإنسان والمجتمع، أقامت الدولة الحديثة – كنمط جديد لتنظيم المجتمع – سلطتها السياسية على أسبقية العلم والجسد، وكان برنامجها التاريخي للقضاء النهائي على تسلط الكنيسة الاجتماعي السياسي هو تحرير العقل والجسد معاً، والرفع من شأنهما وقيمتهما، هذا هو العمق التاريخي والتجريبي لنشأة العَلَمانية كنظرية وكقيمة إيجابيتين".(1)

"ومن الواضح أن الأصل في هذا التناقض أو الصراع الذي أدى إلى نشوء العَلَمانية كنظرية قائدة لتكوين الدولة الحديثة لم يكن وجود الدين أو وجود الكنيسة أو حتى الهيئة الدينية، ولا القيم الفكرية المستمدة من الدين، ولكنه بسبب تسلط الكنيسة والسلطة البابوية على شؤون الدولة أو السياسة وحرمانهما المجتمع من تأسيس نفسه سياسياً، أي من بناء الدولة التي هي الأداة الرئيسية للتراكم العام الحضاري والتاريخي".(2)

" وبالنظر في هذه العلاقة المتوترة والعنيفة بين الدين والدولة نجد أنه لم تعرفها كل المجتمعات البشرية، ولم تظهر بهذه الحدة إلا في هذه الحقبة المحدودة من تاريخ أوربا وفي هذه القارة وحدها.

فقد كانت العلاقة علاقة انسجام وتفاهم عام ودائم بين البوذية والكونفوشيوسية والدولة في آسيا. وبين الإسلام والدولة العربية، وهي كذلك اليوم بين المسيحية والدولة في أوربا وأمريكا".(3)

إذن " لقد نشأ هذا الفصل (بين الدنيا والدين) في أوربا في أعقاب صراع طويل بين الكنيسة والسلطة الزمنية حيث انتهى بأطرافه إلى هذه المثنوية التي تمثلها هذه العبارة الكنيسة الشهيرة : "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله".

___________________________________________________________________

(1) – (المصدر السابق – ص284)

(2) – (المصدر السابق – ص284 – 285)

(3) – (المصدر السابق – ص285)

وقد يكون لهذا الفصل ما يبرره في المجتمعات الأوروبية الصليبية، فالمسيحية لا تملك تشريعاً مفصلاً لشؤون الحياة يضبط معاملاتها وينظم علاقاتها ويضع الموازين القسط لتصرفاتها، وإنما هي مواعظ وإرشادات روحية بحتة، بالإضافة إلى ما مارسته الكنيسة من صنوف الطغيان والقهر والتسلط ضد العلماء والمفكريين، بل في حياة الناس قاطبة حتى أغرقت أوربا في بحر من الدماء! فقد وقفت مع الجهل ضد العلم، ومع الخرافة ضد الفكر، ومع الاستبداد ضد الحرية، ومع الملوك والاقطاعيين ضد الشعب، حتى ثارت الجماهير عليها واعتبرت عزل الكنيسة ورجالها عن الدولة كسباً لها ضد هؤلاء الطواغيت".(1)

" نستنتج مما سبق أن العَلَمانية ليست بالظاهرة التي يمكن توصيفها ببساطة ويسر، بل هي جملة من التحولات التاريخية السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية والإيديولوجية، وأنها تندرج في أطر أوسع من تضاد الدين والدنيا، بل إنها تابعة لتحولات سابقة عليها في مجالات الحياة المختلفة.

ونستنتج أيضاً أن العَلَمانية ليست بالوصفة الجاهزة التي تطبَّق أو ترفض، فإن لها وجوهاً، وجهاً معرفياً يتمثل في نفي الأسباب الخارجة على الظواهر الطبيعية أو التاريخية، وفي تأكيد تحول التاريخ دون كلل، ووجهاً مؤسَسياً يتمثل في اعتبار المؤوسسة الدينية، مؤسسة خاصة كالأندية والمحافل، ووجهاً سياسياً يتمثل في عزل الدين عن السياسة، ووجهاً أخلاقياً وقيمياً يربط الأخلاق بالتاريخ والوازع بالضمير بدل الإلزام والترهيب. بعقاب الآخرة، ولكل من هذه أشكال ومناسبات مع وقائع التاريخ المحيطة بها".(2)

___________________________________________________________________

(1) – (الدكتور صلاح الصاوي – المواجهة بين الإسلام والعالمانية – الآفاق الدولية للإعلام – القاهرة ط2 -1413هـ - 1993م – ص46)

(2) – (الدكتور عزيز العظمة – العلمانية من منظور مختلف – مركز دراسات الوحدة العربية – ص37)

نشوء الفكرة العلمانية في الوطن العربي

نشأت الفكرة العَلَمانية في ربوع القارة الأوربية في عصر النهضة وكانت نتاج الصراع ضد تسلط الكنيسة على شؤون الحياة الروحية والزمنية، ثم تسربت هذه الفكرة إلى العالم الإسلامي بما فيه الوطن العربي، حيث تلقفها المصلحون من العرب والمسلمين وتناولوها بالبحث والتحليل، وعند ذلك استندت الخطة  الإصلاحية لهؤلاء المصلحين من الناحية النظرية على فلسفة العلمانية، كما استندت من الناحية العملية على نموذج الفصل بين الدين والدولة – وهذا النموذج هو المعلم الرئيسي للفكرة العلمانية – وهو النموذج الذي طورته المجتمعات الأوربية، وبشكل خاص المجتمع الفرنس الذي أثر بعد ثورته في القرن الثامن عشر أكبر التأثير في فكرالنخبة الإسلامية وبشكل خاص التركية – التي تمثل السلطة الإسلامية آنذاك – وقد أصبح الحديث عن العلمانية والفصل بين الدين والسياسة موضوعاً شائعاً، وفكرة مقبولة لدى المصلحين المسلمين الكبار الذين رأوا فيها تأكيداً لمبادئ الإسلام وتعاليمه، حتى اعتبر محمد عبده أن الإسلام هو الذي قضى قضاءً مبرماً – لم يسبق إليه أي دين – على السلطة الدينية من جذورها، وأنه يمثل بالتالي الدين العقلي دون منازع، ولم يخف الأفغاني في رده على رينان مثل هذا الموقف ودخول الفكرة العلمانية في الوعي العربي الحديث لم يكن نتيجة دوافع خارجية أو أسباب خارجة عن إرادته أو نابعة من الضغط الاستعماري والتغريب الثقافي، ولكنها نشأت في البداية على أيدي مفكرين وسياسيين وطنيين أدركوا بحسهم العميق انحلال الروابط الاجتماعية العامة في مجتمعاتهم، وعجز المفاهيم التقليدية السياسية المشتقة من الرؤية التي كانت سائدة للدين عن تكوين العصبية الضرورية لإعادة لحم وترسيخ علاقات التضامن والأخوة والوطنية التي لا بد منها لتسيير أي مجتمع مدني، وقد نظر هؤلاء إلى الفكرة العلمانية، أو إلى ما يمكن أن نسميه نوعاً من التأويل العلماني للإسلام، على أنها الوسيلة الوحيدة لتجديد الأسس الأخلاقية والروحية للاجتماع المدني الإسلامي والعربي، ولإعادة بناء السياسة وإطلاقها كنشاط متميز وإيجابي في مجتمعات خمدت فيها روح الوطنية والعصبية الجامعة من أي نوع، وكاونوا يعتقدون أن في هذا التأويل الجديد يكمن السبب الوحيد لتجديد هذا الإجتماع المدني العربي الإسلامي نفسه، وهو الوسيلة لتجنيب الوعي العربي خطر السقوط في الفصام الداخلي بين تيار إسلامي محافظ منكفئ على نفسه، وتيار تحديثي جذري مستلب للخارج ومرتهن له، وكان هذا التفكير الجديد المحرك الأول والعميق لحركات الإصلاح الإسلامي الحديثة، منذ القرن الماضي (المقصود القرن التاسع عشر)... فقد جاءت العلمانية بالمعنى الفكري للكلمة – وقبل أن تصبح شعاراً سجالياً – كمحاولة لتجديد الدين الاجتماعي، أو كما قلنا لتجديد المبادئ والمثل الملهمة للجماعة والمنظمة لوعيها... ولم تكن العلمانية بهذا المعنى غريبة بالفعل على الفكر السياسي الإسلامي التقليدي.

وقد التقت هذه الفكرة الحديثة في ذهن المفكرين المسلمين المحدثين مع العقيدة الإسلامية التقليدية في رفض الكهونتية، وارتبطت بتأكيد حرية العقل وحقه في الإجتهاد، وما كان لها أن تثير لديهم إذن مشكلة ضميرية أو دينية. واعتبروها بالعكس من الأمور التي سبق بها الإسلام المجتمعات الغربية الحديثة، ولم يشعروا بأن من الممكن أن يكون هناك أي تناقض بين الإسلام وبين مبدأ الفصل بين السلطة الروحية والزمنية.

- أما بالنسبة للإسلاميين المحدثين المعاصرين، فإنهم يعتقدون بأن دخول الفكرة العلمانية في الوعي العربي الحديث يرتبط بدوافع خارجية أو بأسباب خارجة عن إرادته أو نابعة من الضغط الاستعماري والتغريب الثقافي، وهذا بعكس ما يعتقده المصلحون الإسلاميون السابقون، هذه مبنية على أن العلمانية التي ولدت نتيجة الصراع ضد الكنيسة هي رمز للمسيحية وقدرتها على التمييز بين ميدان العقل وميدان الوحي، وما هو من اختصاص السلطة الدينية، وما هو من اختصاص السلطة السياسية.

- لا تزال الحجة الرئيسية التي يستخدمها الإسلاميون (المعاصرون) في رفض العلمانية اليوم هي الحجة ذاتها التي كان يستخدمها الإصلاحيون الإسلاميون السابقون لتجديد معاني العقيدة، وتكييفها مع العصر، أي التأكيد على عدم وجود السلطة الكنيسة في الإسلام. لكن بينما كان المصلحون السابقون يرون في ذلك تأكيداً للمبدأ العلماني، يرى الإسلاميون المحدثون (المعاصرون) اليوم فيه عدم الحاجة إلى إشكالية علمنة الحياة السياسية أو طرح مثل هذه الإشكالية في المجتمعات الإسلامية.

- والواقع أن العلمانية بما هي نموذج تاريخي ثابت لإعادة تنظيم العلاقات التاريخية المعقدة بين الكنيسة والدولة، لا يمكن أن تعني شيئاً كثيراً بالنسبة للمجتمعات التي لم تعرف نظام الكنيسة من الأساس كالمجتمعات الإسلامية.

- وينظر العلمانيون في الوطن العربي إلى أن الثيوقراطية (الدولة الدينية) والدفاع عن السلطة الدينية والسياسية بالمعنى الديني رمزاً للإسلام والعقيدة الإسلامية في العصر الحديث ... ويزداد الاعتقاد عندهم : بأن تغيير المفاهيم والقيم والعادات الدينية هو شرط أي تقدم على طريق ترسيخ الدولة الوطنية، وتحقيق الديمقراطية والتنمية الاجتماعية، وفي نظرهم أن وسيلة هذا التغيير كامن في العلمانية ذاتها بما تقدمه من نموذج جاهز للاعتقاد المادي والعقلاني والعلمي.

- أما الجماعات الأقلية المذهبية وغير الإسلامية التي أرادت أن تجعل منها ملجأ للدفاعات الذاتية في مواجهة ما يبدو لها كمد إسلامي ديني وسياسي ساحق.

- وفي الحقبة التي نعيشها أصبح شعار العلمانية يستخدم من قبل الأحزاب والتنظيمات والحكومات الأجنبية كسلاح لتشويه صورة المجتمعات العربية ووهمها بالتـأخر والتعصب والافتقارإلى القيم  العلمية والمعايير الكونية والإنسانية وبعدها عن متطلبات التعاون العالمي والتفاهم الدولي في إطار بناء الحضارة البشرية.

- وهكذا نرى أن العلمانية انتهت إلى أن تظهر في نظر الرأي العام المؤيد والمناهض لها ديناً جديداً، أو مؤشراً على دين بديل ينطوي على قيم ومفاهيم ورؤى اجتماعية وكونية متميزة، أو تعتقد أنها تخالف كلياً قيم الثقافة الدينية والتراث التقليدي. في مجتمعاتنا الإسلامية.(1)

___________________________________________________________________

(1) – (انظر : نقد السياسة – الدولة والدين – للدكتور برهان غليون – بتصرف يسير – ص301 -304 – ط1 – 1991م)

أنواع العلمانية

لم يكن للعلمانية موقف واحد من الدين والسياسة والاقتصاد، فقد تفرع عنها – حسب قول البعض – ثلاثة أنواع من العلمانية :

النوع الأول : العلمانية المؤمنة.

النوع الثاني : العلمانية الماركسية أو (الملحدة).

النوع الثالث : العلمانية الليبرالية. وعبر عنها البعض الآخر بالعلمانية الوضعية " فالنوعان الثاني والثالث لم يعطيا الأهمية المطلوبة للدين ولامتداداته على مساحة الوعي والروح ومجمل الممارسة الدنيوية للإنسان.

والنوع الأول : حرص على تجذير إيمانيته عن طريق عقلنتها، وانفتح وتفاعل مع الآخروتوافق وتجانس مع الجانب الروحي والديني للإنسان، هذا النوع لم يدر ظهره للفكر المسيحي أو الإسلامي أوغيره، بل سعى ويسعى لمساعدته من أجل إشراكه وإدماجه في العصر".(1)

أما النوع الثاني : وهو العلمانية الماركسية الإلحادية أو العلمانية المتطرفة " فقد تبلورت في القرن التاسع عشر بعد ظهور الفلسفة المادية أو الجناح اليساري من مدرسة هيغل، وكان فيورباخ أهم مؤسسي العلمانية الإلحادية التي تستهدف إلغاء الدين وليس مجرد الفصل بينه وبين الدولة، ثم أتى ماركس ودعا لهدم الدين وصولاً لسيادة الإنسان ومن ثم سيادة المجتمع والدولة، وقال : "إن الدين أفيون الشعوب" وأصبحت الماركسية اللينينية كدين جديد بديلاً عن المسيحية. ونص الدستور السوفييتي لعام 1936م في المادة /124/ على حرية ممارسة الشعائر الدينية، وعلى حرية الدعاية اللادينية. ويمكن القول بصورة عامة أن الدول الشيوعية والتي تبنت العقيدة الماركسية اللينينية في الشرق والغرب قد تبنت مضمون العلمانية الإلحادية، ويعتبر هذا أمراً طبيعياً لأن الارتباط عضوي بين الفلسفة المادية والإلحادية".(2)

فالشيوعية التي كانت حاكمة هي علمانية من حيث المبدأ، بل هي تقوم على العلمانية المذهبية، الأكثر تشدداً (تطرفاً)، لم تحل بعلمانيتها أي شيء مما كانت العلمانية تريد حله، ولكنها أنتجت – كما بين ذلك مصلحو النظم الشيوعية المعاصرون أنفسهم – أكثرالنظم استبداداً وتعصباً وضيقاً مذهبياً، فلم تكفل حرية الاعتقاد المذهبي والفكري (فعلياً) ولا ضمنت قيام الحريات الأساسية والمساواة الفعلية بين المواطنين".(3)

___________________________________________________________________

(1) _ (الدكتور سهيل فرح – العلمنة المعاصرة بين ديننا ودنيانا – ط1 – 1997م – ص69)

(2) – (العلمانية والدولة الدينية – شبلي العيسمي – ط1 – 1986م – بغداد – ص62 – 63)

(3) – (الدكتور برهان غليون – حوار السياسة – الدولة والدين – ط1 – 1991م – ص406)

وإذا عدنا إلى التعريف بالعلمانية المؤمنة (النوع الأول) "فإن مفهوم العلمانية الذي ظهر كنتيجة للصراع على السلطة بين الكنيسة ورجال الدين من جهة، وبين الملوك والحكام الزمنين من جهة ثانية هو الذي يعبر عن جوهر العلمانية وما ترمي إليه، ويمكن تلخيصه على الوجه التالي : فك الاشتباك والتداخل بين هاتين السلطتين المتنازعتين، ومن ثم منع رجال الدين من التدخل في شؤون الدولة والمجتمع لفرض آرائهم ووجهات نظر بحجة أنها تمثل الدين والتعاليم الإلهية المقدسة، على أن تكون الدولة محايدة اتجاه الأديان والمذاهب وان تضمن كذلك لكل مواطن حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية من دون تمييز بسبب الأصل أو الجنس أو الدين، أو العقيدة... وهكذا فالدولة عندما تكون علمانية محايدة فإن نظامها يفصل بين الدين والدولة ليكون لكل منها دوره وحريته من دون أن تكون الدولة معادية للدين أو منحازة لأي مذهب يسمح لقادته بأن يفرضوا سلطتهم بحجة أنهم يمثلون إرادة الله "وتصبح ممارسة الدين والإيمان عملاً حراً إرادياً طوعياً صافياً أصيلاً، لأنه نابع من وجدان الشخص وقناعته، وليس من مسايرة أو إكراه القوانين والضغوط الخارجية " فالعلمانية لا تلغي الدين والممارسة الدينية، بل تخرج السياسة والتنظيم الاجتماعي من حيز الممارسة الدينية، كما تخرج الممارسة الدينية من الحيز الاجتماعي والسياسي كما تعيدها إلى إطارها الوحيد في الحيز الشخصي".(1)

- أما الدكتور محمد عمارة فيتحدث عن نموذج آخر في أنواع العلمانية، يتضح من خلال ما تتبناه الجماعات العلمانية في بلادنا العربية والإسلامية من أفكار، أثناء الحديث عن الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين حول مشروع نهضة أمتنا وحضارتها المستقلة، فيقول: إننا يجب أن نميز في تيار العلمانيين ببلادنا الإسلامية بين شرائح وفصائل ثلاث :

أ- العلمانيون الثوريون :

الذين هم الامتداد للعلمانية الثورية الغربية، تلك التي لم تقف من الدين عند حدود طلب الفصل بينه وبين الدولة، وإنما أرادت (هذه الشريحة) – لفلسفتها المادية الخاصة ولنزعتها الإلحادية المعلنة لموقفها الثوري – وطمحت وعملت على اقتلاع الدين والتدين من المجتمع بأسره، لذلك يجب أن نميز هذه الشريحة من شرائح العلمانيين في بلادنا – وهي محدودة العدد والتأثير- والحمدلله – لأن الخلاف معها في " الأصول " وليس في "الفروع" ... وإن مثل هذه الشريحة هي في واقع الأمر جزء من الامتداد السرطاني الغربي.

ب – الداعون – بوعي – لتبعيتنا للغرب :

وهذه الشريحة من شرائح التيار العلماني في بلادنا، وإن رفع أصحابها شعارات الدعوة إلى الاستقلال الوطني، إلا أنهم يقفون به عند حدود الاستقلال السياسي وقد يَدعُون – أو يَدعُو بعضهم – إلى قدرٍ من الاستقلال الاقتصادي، لكنهم يعادون ما نسميه ب "الإستقلال الحضاري" استقلال الهوية المتميزة عن هوية الغرب، ولذلك فإن الاستقلال الذين يدعون إليه في أوطانهم هو في حقيقته – (وعلى الجبهة الحضارية.. التي هي جوهر أي استقلال) – استقلال "الوطن – الإقليم" عن ماضيه وتراثه ومكوناته الإسلامية – إلى تبني "الخيار الحضاري الغربي" فإنهم إنما يدعونه إلى الالتحاق والإلحاق الحضاري بالمركز الغربي فهي حقيقةً – والحال هذه – دعوةً للتبعية، وليست للاستقلال، ودعاتهم "عملاء" لحضارة الغرب، حتى وإن رفعوا اشعارات "الاستقلال" عن الاستعمار السياسي الغربي لأوطانهم!... وأن الرباط الجامع لأبناء هذه الشريحة من العلمانيين كان العداء للإسلام كدين ولرابطة الجامعة الإسلامية كرمز لوحدة أمة وديار الإسلام، وكانوا في الأساس من غير المسلمين... فكان تبشيرهم بالخيار الغربي ونموذج الحضارة الغربية السبيل لتحقيق هدفهم في إزاحة الإسلام عن أن يكون صبغة الدولة والنهضة والحضارة في ديار المسلمين!.

فهذه الشريحة من شرائح العلمانيين ببلادنا موجودة – وإن قل عددها، وافتُضِحَ أمرُها – وهي – لأنها شريحة "عملاء حضارة" ليست صالحة ولا مؤهلة لأن تكون طرفاً في الحوار حول مشروع نهضة أمتنا وحضارتها المستقلة.

___________________________________________________________________

(1) – (شبلي العيسمي – العلمانية والدولة الدينية – ص53 – 54)

ج – دعاة فصل الدين عن الدولة من العلمانيين الوطنيين والقوميين :

وهذا الفصيل من فصائل العلمانيين – هو الأكثر عدداً والأقوى نفوذاً في مراكز التوجيه السياسي والثقافي والإعلامي في الأنظمة والمؤسسات الوطنية والقومية – وكشريحة من شرائح التيار العلماني هم في جملتهم مسلمون يتدينون بعقائد الإسلام، فالخلاف بينهم وبين الإسلاميين ليس خلافاً في "الأصول" الاعتقادية وإنما هو خلاف في "الدولة" هل تكون "إسلامية" بالمعنى الذي تعنيه هذه الإسلامية" لدى الإسلاميين؟... أم تكون مجرد دولة "مسلمة" تتبنى الإسلام "الدين" وتحافظ على قيمه وشعائره، دون أن تَتَبَنَّى "دولة" الإسلام، وموقفهم هذا من "دولة" الإسلام، ليس – كما يحب بعض الإسلاميين – "جحوداً – للشريعة، يرشحهم للدخول في إطار "الكافرين" وإنما مبعث هذا الموقف لهؤلاء العلمانيين من "دولة" الإسلام هو الاعتقاد الذي كوَّنه لديهم الفكر الغربي بأن الإسلام لا يرفض العلمانية لأنه – كالمسيحية – دين لا دولة، يدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، إذن فموقفهم الفكري هذا هو ثمرة من ثمرات هيمنة النَّسَقِ الفكري الغربي على مؤسساتنا الفكرية والعلمية والتعليمية والإعلامية، وهي المؤسسات التي تعلم وتثقف وتكون فيها هؤلاء العلمانيون.

فالخلاف مع هذه الشريحة من العلمانيين هو في إطار " الفروع " و " الدولة " – التي هي بإجماع تيارات الفكر السني الإسلامي من "الفروع".(1)

تعليق : اعتقادهم هذا وخلافهم مع الإسلاميين في الفروع لا في الأصول قد لا يخرجهم من الإسلام ويلحقهم بالكفار – حسبما أورده الدكتور محمد عمارة – لكن خلافهم في هذه الفروع يعطل جانباً مهماً في تطبيق الشريعة الإسلامية وفي حياة المسلمين التي يعتمد في تنفيذ أحكامها على وجود الحاكم المسلم والسلطة الحاكمة المسلمة وهذه لا تتوفرإلا بوجود الدولة الإسلامية ولذلك يشك أن ينطبق على هذه الشريحة قول الله تعالى : (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض).(2) وقوله : (ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً.أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً).(3) 

___________________________________________________________________

(1) – (الدكتور محمد عمارة – حوار الإسلامية والعلمانية – ط1 – 1433هـ - 2012م – القاهرة – ص10 -14 بتصرف من الكاتب)

(2) – (البقرة – 85)

(3) – (النساء – 150 – 151)

فهم حقيقة العلمانية

للعلمانية فهمان : فهم بالأغراض ، وفهم بالأسس التي تقوم عليها العلمانية.

" والفهم السائد للعلمانية – عندنا – هو الفهم (الأول) الذي يعرف العلمانية بأغراضها المعروفة والمعهودة ... التي قامت الحركات العلمانية في الغرب لتحقيقها.

ومن أهم هذه الأغراض، كما هو معروف لدى أي متتبع لنشأة الحركات العلمانية في الغرب، التخلص من هيمنة الكنيسة على شؤون السياسة وتحرير السلطة السياسية من أي تأثير مباشرأوغيرمباشر من قبل السلطة الدينية المتمثلة بسلطة الاكليروس...(1)

وأما الفهم بالأسس التي تقوم أو ينبغي أن تقوم عليها العلمانية، فهي ما يذهب إليه البعض إلى أبعد من الفهم الأول للعلمانية وهو الفهم بالأغراض ... حيث يرى هؤلاء الدولة الدينية بطابعها الكلياني.(2)               

(Totalitarian)

 حيث تتحول المؤسسة الدينية إلى مرجع أخير ومطلق فيما يختص بكل أمور الدين والدنيا على حد سواء... ومن يرى ذلك – وهم من يحارب الطابع الكلياني – إنما يركزون على الاعتبارات الأبستمولوجية (المعرفية) وما يتعلق منها بخاصة بالاستقلالية المعرفية للعقل البشري، إنهم يرون في تحكيم الدين في جميع الأمور الروحية والزمنية تهديداً خطيراً لاستقلالية الإنسان في المستوى الخلقي والسياسي، ولكنهم نادراً ما يشيرون إلى خطره على الإستقلالية المعرفية للعقل...

إن الأهمية القصوى للعلماني هي المبادئ التي تقوم عليها أو باسمها هذه السيطرة المطلقة، وليس نوع المؤسسة سواء كانت هذه المؤسسة دينية أو غير دينية، فإن مبدأ من هذه المبادئ التي تقوم عليها أو تطلب باسمها هذه السيطرة المطلقة هو المبدأ القاتل : إن التعاليم الدينية هي التي ينبغي أن تشكل المعيار الأخير أو المرجع الأخير بالنسبة لكل القضايا الروحية والزمنية على حد سواء، وإذا كان ما يرفضه العلماني هو مبدأ كهذا المبدأ، إذن فإنه سيقاوم محاولة أية جماعة السيطرة على مقدرات الدولة وتأسيسها على هذا المبدأ، بغض النظر عما إذا كان أعضاؤها من رجال الدين أو ليس بينهم رجل دين واحد... إن ما يمكن في الواقع وراء إصرار العلماني على عدم حسبان الدين الأساسي الأخير (المرجع الأخير) للإلزام السياسي هو اعتقاده باستقلالية العقل وأسبقيته على النقل (النصوص الدينية) إن المسألة التي لها أهميتها القصوى عند العلماني... هي جعل الدين المصدرالأخير للشرعية وللإلزام السياسي، إن هذه النتائج لا شك لها أهميتها للعلماني، إنما هناك مسألة أخرى تفوقها أهمية هي مسألة كون الطابع الكلياني للدولة الدينية يقوم على مبدأ تقديم النقل (النصوص الدينية) على العقل الذي يقضي بتعطيل استقلالية العقل ... وهذا يعني تقليص دور العقل إلى دور ثانوي وتجريده ... من وضيفته المعيارية، والنتيجة الأخيرة المترتبة على ذلك منطقياً على كل هذا هي القضاء على أسبقية العقل على النقل – وهذا الذي تدعو إليه العلمانية – وتعطيل أي دور مستقل له. (3)

___________________________________________________________________

(1) – (الاكليروس : هم رجال الدين المسيحي)

(2) – (الكلياني : نظام سياسي لحزب واحد لا يقبل أي معارضة سياسية)

(3) – (الأسس الفلسفية للعلمانية – عادل ضاهر – ط2 1989م – ص38 – 53 بتصرف يسير)

سمات الأيديولوجيا الكليانية :

تشتمل الأيديولوجيا الكليانية التي تمثل نظاماً سياسياً لحزب واحد لا يقبل أي معارضة سياسية – على سمتين أساسيتين هما :

أ – مطلقة : إن هذه الأيديولوجيا الكليانية مطلقة ... بمعنى مزدوج فهي من جهة مطلقة : أي أنها تشتمل على حقائق مطلقة مما يجعلها صالحة لكل زمان ومكان، وهي من جهة ثانية مطلقة : أي أنها المرجع النهائي، أي أن الحقائق التي تشتمل عليها هذه الأيديولوجيا هي الأساس الأخير (المرجع الأخير) لكل الحقائق الأخرى الدينية والدنيوية، مما يعني أنها نفسها لا تخضع لأية معايير مستقلة ... وينتج عن هذه السمة :

أن هذه الأيديولوجيا لا يمكن أن تكون سوى أيديولوجية الحزب الواحد... لأنها تمثل في نظر أصحابها رسالة الله إذن من الطبيعي أن ينظروا إلى الحزب الذي يأخذ بهذه الأيديولوجيا على أنه حزب الله، وإلى كل حزب لا يأخذ بها أو يأخذ بما هو مخالف لها على أنه حزب الشيطان..

ب – شاملة كاملة : بالفعل أو بالقوة لجميع شؤون الإنسان (المجتمع والدولة والتاريخ والأخلاق والاقتصاد والتربية والعلاقة بالطبيعة وما بعد الطبيعة) وتدعي لنفسها الحق والقدرة على تشكيل دنيا الإنسان وجوداً وسلوكاً تشكيلاً كاملاً"(1)

___________________________________________________________________

(1) – (المصدر السابق – ص385 – 387)

العلمانية والعقل الإنساني

إن لاستقلالية الإنسان في مفهوم العلمانية بعدين أساسيين يجب التمييز بينهما : فاستقلاليته من جهة هي : استقلالية العقل الإنساني.

ومن جهة ثانية : استقلالية الإنسان باعتباره كائناً أخلاقياً...

من الواضح أن ما تعنيه استقلالية العقل في ضوء الاعتبارات الأبستمولوجية (المعرفية)... هو أن لمعايير العقل أولوية مطلقة في الشؤون المعرفية... إن المعرفة باعتبارها شأناً بيذاتياً.(1) غير ممكنة إلا إذا قامت على أسس عقلية، فلا الوحي ولا الحدس ولا أية وسيلة أخرى.. كمصدر للمعرفة يمكن أن تتخذ على أنها ذات أولوية على العقل أو على أنها حتى مستقلة عن العقل (على كل ادعاء معرفي يقوم على حدس أو وحي مزعوم ينبغي أن يوضع على محك العقل وإلا فإنه يبقى مجرد إدعاء ويكون نصيبه من التحول إلى معرفة حقه هو لاشيء).

وهذا يعني على الأقل أن للعقل استقلالية تامة عن كل ما يقع خارجه، فلا يمكن اخضاعه لرقابة دينية أو غير دينية، ولايمكن لأية معاييرمن خارجه مهما كان نوعها ومضمونها أن تكون ذات أسبقية على معاييره...

إن استقلالية العقل بالمعنى الذي يعنينا هنا، ليست استقلاليته فقط باعتباره عقلاً نظرياً (مجرداً) بل واستقلاليته أيضا باعتباره عقلاً عملياً، فإن وظائف العقل لا تنحصر... في تزويدنا بمعرفة علمية للواقع، وبمعرفة رياضية ومنطقية وما شابه ذلك، فإن للعقل أيضاً وظيفة معيارية – جوهرية – أي أنه أيضاً مصدر معرفتنا لما ينبغي أن يكون، وللغايات التي ينبغي أن نختارها وللمثل العليا السياسية والاجتماعية التي ينبغي أن نتبناها، وللقيم المعايير التي ينبغي أن نجعلها الأساس لتقيين أفعالنا وقراراتنا، فليست المعرفة النظرية وحدها (المعرفة العلمية والرياضية والمنطقية) هي من اختصاص العقل، بل والمعرفة العلمية أيضاً ...

إن المعرفة المعيارية على افتراض أنها شيء ممكن ، هي مثل أي نوع آخر من المعرفة، من اختصاص العقل وحده ...

أما استقلالية الإنسان كفاعل أخلاقي، فهي مستمدة جزئياً من طبيعة التفكير المعياري أو العملي بالذات، فإن اتخاذي قراراً أو آخر على المستوى المعياري هو بالضرورة نتيجة لممارستي حريتي، وتنفيذي لهذا القرار هو خضوعي لما أمليه أنا بنفسي على نفسي، إنني سيد نفسي، ولا وصاية لأحد علي، والمسؤولية لهذا القرار لا تقع في نهاية الأمر على أي شخص سواي...

إن استقلالية العقل ... تنبع من كونه السلطة الأخيرة (أي المرجع الأخير) في شؤون المعرفة، فإذا تعارض ما يدعيه شخص أنه تلقاه عن طريق الوحي أو الحدس أو أي طريق آخر غير العقل مع ما يدعيه شخص آخر أنه تلقاه عن الطريق ذاته، فلا وسيلة للحسم بينهما إلا عن طريق اللجوء إلى العقل، هذا لا يعني أن اللجوء للعقل يشكل ضماناً مطلقاً في أن هذا الخلاف سيحسم، إنما يعني فقط أنه إذا كان بالإمكان الحسم في هذه الحالة، فإن اللجوء إلى العقل هو الطريق الوحيد للحسم، إن هذا تماماً ما يعطي للعقل استقلاليته، أي كونه السلطة الأخيرة والشرع الأعلى، والملجأ الأخير للمعرفة.(2)

___________________________________________________________________

(1) – (البيذاتية : أي خارجية عامة)

(2) – (انظر : الأسس الفلسفية للعلمانية – عادل ضاهر – ط2 – 1989م – ص361 – 377)

الرد على المفهوم العلماني للعقل : 

ويرد على المفهوم العلماني لدور العقل بأنه الأساس الأخير في الحكم على الأشياء، وتقديمه على النقل (النصوص الدينية من كتاب الله عز وجل ومن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم) : ينقل الأستاذ فهمي هويدي عن أحد علماء الرياضيات العرب قولاً يفند فيه عدم إمكانية اعتماد العقل كمرجع أخير – في إحدى الندوات التي شاركا فيها معاً – فيقول : "إنه من الناحية العلمية، فإن نهائية العقل الإنساني، تعد مقولة فاسدة، فطبقاً لما يعرف باسم برهان "جوديل" فإن العقل النهائي لا يستطيع أن يحل مشاكله بالكامل، وكل الفرضيات التي تتصور أنها نهائية غير كافية، فكلما تصور العقل الإنساني فرضية نهائية انفتح الباب لفرضيات جديدة لا نهائية، وثبت أن العقل الأول كان ناقصاً، لذلك فإن اللانهائي الذي هو الغيب في هذه الحالة يظل ضرورة رياضية وعلمية فضلاً عن كونه ضرورة إيمانية".(1)

ويقول الدكتور برهان غليون : "وأخطر ما يمكن أن يصيبنا هو أن نضع العقل في مواجهة مع الوحي والنقل، فيحصل لنا ما حصل للكنيسة تماماً في القرون الوسطى إن مقياس العلاقة الأساسية بين العقل والوحي هي تلك التي نستمدها من الحديث الشريف، وهو قاعدة ينبغي أن نطبقها في كل ما يتعلق بوجودنا على هذه الأرض، وموقفنا من العقل والدين : اعقلها وتوكل، فالعقل هو شرط التوكل على الله تماماً، كما أن المسؤولية في الأحكام الشرعية نفسها مرتبطة بالعقل والرشد".(2)

ونلاحظ في هذا الحديث أن العقل هو إجراء أولي يسبق التوكل، إلا أننا نرى أن التوكل هو الأساس الأخير والنهائي الناتج عن النصوص القرآنية الآمرة به بحيث تقرره هذه النصوص كصفة من صفات المؤمنين الذين على ربهم يتوكلون.

___________________________________________________________________

(1) – (فهمي هويدي – المفترون – ط2 – 1420هـ - 1999م – ص255)

(2) – (نقد السياسة – الدولة والدين – ط1 – 1991م – ص372)

العقل والنص الشرعي

مفهوم العقل عند علماء المسلمين :

يتبين مفهوم العقل الإنساني لدى علماء المسلمين من خلال مضمون القراءات التالية :

أولاً – الراجح في مفهوم العقل أنه كيفية راسخة (هيئة أو غريزة) في النفس الإنسانية تتأهل بها لإدراك المعاني والحقائق.

ثانياً – أن للنفس الإنسانية غرائز أخرى – غير العقل – منها : التفكّر والتذكّر والإرادة والتخيّل والتصوّر، وأن غريزة العقل لها مداخلات مع معظم هذه الغرائز.

ثالثاً – أن العقل بحسب الاستعمالات القرآنية لا يمكن أن يكون ذاتاً مستقلة – كما يرى فلاسفة الإغريق ومن اتبعهم من فلاسفة المسلمين وفلاسفة العلمانية المحدثين – لأن تلك الاستعمالات كلّها اجتمعت على أن العقل وظيفة يقوم بها الإنسان بوساطة جهاز فيه وهو القلب، وأن القلب الروحاني يقوم بوظائف أخرى غير وظيفة إدراك المعاني، وأن كل وظيفة لابد لها من غريزة أو هيئة راسخة في ذلك القلب، والقلب إما أن يكون هو الروح نفسها، أو جهازاً رئيساً من أجهزتها محملاً بكثير من الغرائز أو الهيئات الراسخة، وأن إطلاق القلب على العقل في بعض الآيات إطلاق مجازي أطلق فيه المحل وهو القلب وأريد به الحال وهو غريزة العقل.

علاقة العقل بالنص الشرعي :

يمكن تلخيص علاقة العقل بالنص الشرعي بما يلي :

أولاً – علاقة العقل بالنص الشرعي من حيث الماهيّة : هي علاقة المناسبة بينهما، بمعنى أن العقل غريزة خلقها الله تعالى لإدراك المعاني والحقائق، وأن النصّ في حقيقته وعاء للحقائق والمعاني القابلة لأن تدركها تلك الغريزة (أي غريزة العقل).

ثانياً – علاقة العقل بالنص الشرعي من حيث المقصد : هي التوافق التام بينهما، لأنهما يستهدفان تحقيق غاية واحدة هي الوصول إلى مقام العبودية لله عزّ وجلّ.

ثالثاً : علاقة العقل بالنص الشرعي من حيث المحتوى : هي علاقة المحتاج إلى مصدر نمائه واستقامته.

رابعاً -  علاقة العقل بالنص الشرعي من حيث الوظيفة : هي أن العقل يقوم بدور مترجم النفس للنصوص الشرعية، وفق قواعد وقيود قيد بها نفسه تبعد عنه الانحراف، وتوفر له الثقة والاعتبار.

خامساً – علاقة العقل بالنص الشرعي من حيث الحاكمية : أن الأول (أي العقل) محكوم والنص حاكم ومهيمن، وأنه لايسوغ لمسلم أن يعتقد بأن العقل هو الحاكم والمهيمن على النص الشرعي... وحقيقة حاكمية النص الشرعي ومحكومية العقل والنفس الذي هو فيها يؤيدها بوضوح ما سبق ذكره من وظيفة العقل، وأنها وظيفة إدراك للحقائق الموجودة المستقرة في النص الشرعي المقروء، وموجودات الكون المشهودة، وأن النص خطاب الشرع، والعقل يترجم للنفس المخاطبة بالتزام الشرع ، والإلزام الذي هو حقيقة الحاكمية إنما يكون لصاحب الشرع، وهو صاحب الخطاب أو النص، والإلزام هو حقيقة المحكومية، إنما يكون للمخاطَب، وهو النفس البشرية، وغريزة العقل ووظيفتها إدراك حقيقة المطلوب المضمّن في خطاب الشرع.

ولا تعني هذه العلاقة عدم وجود مداخلات للعقل في النصوص الشرعية من حيث فهمها، وإنما تعني أنه ليس للعقل الحكم على مضامين تلك النصوص.

سادساً – علاقة العقل بالنص الشرعي في مجال الإرادة والتنفيذ :

إن مقصود الشارع من نصوصه في المكلفين من العباد هو أن يقوموا بتنفيذ مضامينها، سواء أكان هذا التنفيذ متعلقاً بأعمال القلوب الباطنة أم كان سلوكاً يظهر في الخارج، والتنفيذ المقصود يكون في الأعمال الاختيارية، حيث تتمكن النفس من اختيار الإقدام أو الإحجام، فأول خطوات التنفيذ المباشر يبدأ من الإرادة النفسية والتساؤل الذي يرد هو عن موقع العقل (غريزة الرؤية القلبية للمعاني) في مجال الإرادة والتنفيذ بعدها.

فالعلاقة في هذا الإطار تكون قبل اتخاذ القرار علاقة المحرّض للنفس على استعمال ارادتها في تنفيذ النص، وبعد اتخاذ النفس قراراتها يقف العقل موقف المستشار لها في اختيار الخطة المناسبة للتنفيذ.

سابعاً – علاقة العقل بالنص الشرعي من حيث الاختلاف والائتلاف :

هي الائتلاف التام، ولا تنافي بينهما، وذلك ثابت بأدلة كثيرة فصلها الشاطبي في الموافقات، وابن القيم في مفتاح دار السعادة وغيرهما.

ثامناً – العلاقات السوية للعقل الإنساني من النص الشرعي : إنما تكون للعقل الموضوعي المجرد كما خلقه الله عز وجل قبل أن تتلوث التفس التي تحمله بطائفة من المؤثرات السلبية التي تحرفه عن تلك المقامات، وأهمها : الجهل ونقص المخزون العلمي، وتضخم مخزون الهوى، وبطلان الاعتقادات الأساسية، ووساوس الشيطان أما العقول الشخصية التي انطوت عليها نفوس خضعت لتلك المؤثرات السلبيةلا تصلح للتعامل مع النصوص الشرعية وتفسيرها وبيان حقائقها.

تاسعاً – علاقة العقل بالنص الشرعي من حيث التكليف : التكليف هو طلب الشارع من العقلاء البالغين مافيه كلفة من فعل أو ترك ...

وترجع علاقة العقل بالنص إلى ما اتفق عليه الفقهاء والأصوليين من اعتباره شرطاً في التكليف، فلا يكلف إلا العاقل، لأنه هو الذي يفهم الخطاب وهو الذي يجعل النفس قادرة على تنفيذه، والحقيقة أنه أهم شروط التكليف وقد سماه الشاطبي (مورد التكليف) ومن هذا التحليل تظهر علاقة العقل بالنص الشرعي في مجال التكليف، وذلك أن المكلف في حقيقته هو النفس الإنسانية، وخطاب التكليف إنما يكون لهذه النفس من جهة مافيها من غريزة قادرة على إدراك معنى النص والمطلوب الذي يتضمنه وإدراك الخطة المناسبة لتنفيذه في الواقع.(1)

___________________________________________________________________

(1) – (انظر : مباحث في العقل – الأستاذ الدكتور محمد نعيم ياسين – ط1 – 1432هـ - 2011م – دار النفائس – عمان – الأردن – ص227 – 241 بتصرف)

المؤثرات السلبية في عمل العقل وعلاقته بالنص :

إن التعامل مع النصوص الشرعية إنما يكون من العقول الشخصية : المعني عقل الشخص فلان وعقل فلان ... الخ، فهل يكون تعامل الأشخاص بغرائزهم العقلية الخاصة بهم – التي يمكن أن يكون قد لحق بها شيء من التأثيرات السلبية - على المستوى نفسه من تلك المقامات التي يتصف بها العقل الموضوعي المجرد – الذي لم تلحق به المؤثرات السلبية وبقي صافياً نقياً لا تشوبه شائبة من المؤثرات السلبية - . الجواب : هو النفي قطعاً وذلك أن عمل العقل يتأثر بجملة من المؤثرات بعضها يقربه من خصائص العقل الموضوعي.. وبعضها يبعده عن تلك الخصائص بدرجات متفاوتة، أشدها ذلك النوع من المؤثرات التي تجعل مسار العقل في عمله معاكساً ومناقضاً لما ذكرنا من العلاقات التي يجب أن تكون بينه وبين النصوص الشرعية... ومن أهم المؤثرات السلبية في العمل والعقل وعلاقاته بالنص ما يلي :

أولاً – عدم كفاية المخزون العلمي في النفس الذي يلزم في التعامل السليم مع النص الشرعي فإن كان ناقصاً وغير كاف كانت رؤية النفس بغيرغريزة العقل مشوشة ويتناسب التشويش على تلك الرؤية طرداً مع نقص كمية المخزون العلمي المناسب للموضوع الذي تريد النفس إعطاء حكم فيه، ومن الواضح أن نقص ذلك المخزون إلى درجة الجهل الكامل يوّرث عمى في النفس لعدم قدرة عقلها على إدراك المعاني مع غياب العلوم المناسبة...

ثانياً – نوعية القناعات الأصلية والاعتقادات الأساسية المختزنة في النفس، ونعني بها القواعد والبرامج المتجذرة فيها، والتي تستدعيها عند إرادتها القيام بأي نشاط تقويماً كان أو تفسيراً أو تخطيطاً، وتستعملها في إدارة غرائزها كلها من تفكير وحفظ أو تذكر أو تخيل أو تصور أو تعقل، ومعظم هذه الأصول يكتسب بالتعلم والتربية بروافدها الكثيرة، وتختلف عند الأشخاص رسوخاً في النفس وثباتاً واستقراراً باختلاف تلك الروافد وكثرة استدعائها وتكرره، واعتبارها في عمليات النفس الكثيرة ...

ثالثاً – مخزون الهوى الذي استقر في النفس، من حيث كمه ونوعه وشدته، وشعب الهوى كثيرة جداً، منها : الكبر والغرور والحسد والحقد وشهوة الرياسة والسلطان، وشهوات الفرج والبطن واللسان، وحب المال، ومحبة الأهل والأقارب والعشيرة إلى حد المبالغة، وغير ذلك.

والناس إزاء تأثير الهوى على عقولهم درجات أشدها من استحكم الهوى في نفسه إلى درجة أنها مُحَكّمة في غريزة الرؤية العقلية، حتى يغدو العقل خادماً لتلك النفس في تحصيل شهواتها، إذ للنفس غرائز كثيرة... غير غريزة العقل، ومنها : غريزة الإرادة. والنفس تتحكم في غرائزها بإرادتها ، فتغدو غرائز العقل والتفكير والحفظ والتخيل والتصور وغيرها موجهة بتوجيه النفس لها، فإن كانت ممتلئة بالهوى إلى تلك الدرجة التي ذكرناها، وظفت غرائزها كلها في خدمة أهوائها وشهواتها ...

والقصد من هذا الكلام يتلخص في تأكيد أمرين :

الأول – أن العلاقات السوية بين العقل والنص الشرعي... لا تكون لكل عقل شخصي، وإنما تكون لعقل في نفس تطهرت- ولوعلى سبيل المقاربة – من تلك المؤثرات السلبية والأمراض التي ترد على النفوس.

الثاني – أن العقول التي انطوت عليها نفوس خضعت لتلك المؤثرات من نقص علم أو زيادة هوى ... لا ينبغي الركون إليها في تفسير النصوص وبيان حقائق الشريعة"(1) وبناء عليه فإن العقل الإنساني لا يمكن اعتماده المرجع الأخير والمعيار الوحيد في تقييم الأشياء لكونه قابل للتعرض من المؤثرات السلبية التي تؤثر في معيارته واعتباره الأساس الأخير في المعرفة.

___________________________________________________________________

(1) – (المصدر السابق – ص247 – 251 – بتصرف يسر )

المسيحية والعلمنة

مجمع نيقية :

"اعتمدت الكنيسة بعد مجمع نيقية (المنعقد بتاريخ 20 أيار عام 325م ) الفصل بين العقيدة والشريعة، بين الدين والدولة، وقسمت الحياة البشرية دائرتين مغلقتين :

الأولى – دينية من اختصاص الله ويقتصر محتواها على نظام الأكليروس.(1) والرهبنة والمواعظ وتشريعات طفيفة لا تتعدى الأحوال الشخصية.

الثانية – دنيوية من اختصاص قيصر وقانونه، ويحوي محيطها التنظيمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلاقات الدولية ونظم الحياة العامة"(2)

النصوص الإنجيلية :

" للكنيسة مستندات نقلية من نصوص الأناجيل لا بد من عرض نموذج لها ... وأهمها نصان :

1- القول المنسوب للمسيح : "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله ".(3) هذا القول هو أقوى وأصرح حجج الكنيسة، ولقد ظل شعاراً ترفعه أوربا كلما أملى عليها الهوى أن تخالف منهج الله وتتمرد على شرعه، وبفضل هذا الشعار أخذ الدين ينكمش وينحسر على مر القرون...

2- القول المنسوب للمسيح : "مملكتي ليست من هذا العالم"(4) فهمت الكنيسة من قول المسيح : "مملكتي ليست من هذا العالم"... أن الدنيا والآخرة ضرّتان متناحرتان، وضدان لا يجتمعان : الدنيا مملكة الشيطان ومحط الشرور والآثام وعمل الإنسان فيها لتحسين أوضاعه المعيشية، ومحاولة تحقيق القسط الملائم من السعادة والرفاهية والتمتع بطيبات وخيرات الكون، كلها أعمال دنسة يمليها الشيطان ليصرف الإنسان عن مملكة المسيح الخالدة ... والآخرة والفقر وشغف العيش – حسب المفهوم الكنسي – هما مفتاح الملكوت الضامن، وتنسب الأناجيل إلى المسيح قوله : "إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله"(5) وبمقتضى ذلك لا يسأل الإنسان الله شيئاً من متاع الدنيا أو خيراتها العاجلة، بل يقتصر على ما طلبه المسيح حسب رواية الأناجيل : "خبزنا كفافنا"(6)

إن ما نسب للمسيح من هذه الأقوال تعتبر رؤية خاصة للمسيحية في شؤون الدين والدنيا ... " فالمسيحية مؤهلة أكثر من غيرها لحمل البذور الفلسفية العلمانية من خلال تأكيدها على خصوصيات العالم الدنيوي واستقلاليته وهو مأوى الإنسان ومشاريعه الخاصة"(7)

___________________________________________________________________

(1) – (رجال الدين المسيحي)

(2) – (العلمانية – سفر بن عبد الرحمن الحوالي – ط1 – 1418هـ - 1989م – ص64)

(3) – (متى – 12 – 17)

(4) – (يوحنا – 18 – 26)

(5) – (متى – 19 – 25)

(6) – (متى – 6 – 12) (المصدر السابق – ص65 – 69)

(7) – (د. سهيل فرح – العلمنة المعاصرة بين ديننا ودنياننا – ط1 – 1997م – ص61 – 62)

المسيحية الغربية :

لأن هناك إصرار على الاستقلالية المتبادلة للعالم الدنيوي عن العقيدة المسيحية السائدة التي كانت تبشر بولادة طفلة هي العلمانية، إلا أن هذه المولودة أثبتت على المستوى التاريخي كم كانت نافعة للثقافة الغربية وللدين المسيحي بصرف النظر عن الحقنات العنيفة التي شهدتها في الفترة الأولى.

فولادة العلمانية كما هو معلوم لم تكن طبيعية تماماً بل جاءت بعد مخاض عسير وعنيف في بيئتها المسيحية – والكاثوليكية بالذات – بل جاءت في جانب بارز منها كثورة عليها، وإن لم تكن المسيحية كدين بل على من نصب نفسه ممثلاً لها على الأرض – أي النفوذ الأدبي للبابوية في روما – ذلك أن البابوية وصلت آنذاك إلى مرحلة ابتعدت في مجمل سلوكياتها عن نقاوة المسيحية وتواضعها وتسامحها، وتميزت بظهور فاضح للبذخ في المفرط للممثلي الكنيسة الكبار وأضحى التعصب الديني واسع الانتشار ، الأمر الذي أدى إلى دورات عبثية من العنق قام بالتحريض عليه القادة المتدينون أنفسهم، من هنا كانت العلمنة بمثابة خشبة الخلاص لثقافة كانت تمزقها الحروب على اختلافها وقام الفكر العلمي بتوحيد البشر وساهم في نشر المسالمة بينهم.(1)

بدأ العقل الأوربي آنذاك يتحرر بالتدريج من الخلط المؤذي بين الديني والدنيوي فظهرت في إيطاليا "الدراسات الإنسانية" ونشأ في مقابلها حقل معرفي مستقل عرف ب "الدراسات الإلهية " هنا بدأ الفصل المنهجي واضحاً بين هذين الحقلين : (الديني والدنيوي) حيث اهتمت الدراسات الإنسانية بتسليط الأضواء على معظم جوانب الحياة الإنسانية الدنيوية من أجل فهمها وضبطها ومحاولة التنبؤ بحركتها المستقبلية. في حين بدأ النوع الثاني من الدراسات يحدد لنفسه المجال الموضوعي لاهتمامه (الديني) فلم يعد يتدخل في كل الجوانب الدنيوية للإنسان، بل ركز اهتمامه على علاقة الإنسان بالله، وهذا النوع من الفصل المنهجي خلق لوناً من التخصص وتالياً الانسجام بين الحقلين (الديني والدنيوي معاً)... ولا ننسى في هذا المقام دور المجمع الملكي في تطوير المعرفة الطبيعية الذي عقد في لندن عام 1667م حيث ينبئ بولادة عقلية جديدة تم التعبير عنها بالبيان التاريخي الذي ورد فيه أن "ليس أقل شيء يجعل المجمع الملكي يستحق التمجيد كونه المنشئ الموحد لمهارات البشر وعقولهم، وقد تعدى ذلك فوحد مشاعرهم ...إن العنصر الأهم الذي أتت به العلمنة على مستوى الفكر هو إعطاؤها الأهمية القصوى لدور العقل، حيث أضحت المسائل الدنيوية مسائل تجريبية يجب على العقل العلمي أن يحلها بحسب إمكاناته الخاصة المرتكزة على المنطق والمنهجية والنظر العلمية للمعرفة...

إن فصل العلمانية شؤون الدين عن شؤون الدنيا لا يحمل في طياته بحسب ما أكدته وتؤكده المسيحية دائماً – أي موقف مناهض للدين (المسيحي) حتى إن المسيحية نفسها لم تقف موقفاً مناهضاً للتصور الأيديولوجي لفكرة التقدم التاريخية التي أقرت بضرورة إعطاء العقل العلمي سلطة أكبر للتحكم بالقوانين العلمية المسيرة للطبيعة. والدليل على ذلك هو مشاركة عدد هائل من نفسهم في رسم تلك الصورة الأيديولوجية، ومن جهة أخرى من يتتبع تاريخ اللاهوت الغربي كم جرت عليه من تعديلات وتجديدات جعلته يقترب تدريجاً ومع الزمن من حقائق الحضور العلمي والروحي في الشخصية الإنسانية...

___________________________________________________________________

(1) _( المصدر السابق – ص64 – 65)

وفي حين أن الواقع يثبت أنه في أكثر البلدان عراقة في علمانيتها خصوصاً في فرنسا والولايات المتحدة، وحتى في روسيا نجد أن جذوة الإيمان متوقدة في النفوس وفي المقابل فإن الكنيسة والعلمانيين المعاصرين عملوا معاً على خلق جسور من التعاون والثقة، فقد قامت المسيحية الغربية بإصلاحات واديكالية على كل الأصعدة، ولم تكن الكنيسة الكاثوليكية بعيدة عنها وإن جاءت مواقفها اللينة من العلمنة متأخرة بالمقارنة مع غيرها، فقد تظافرت ظروف وأسباب عدة أدت إلى أن تعيد الكنيسة الكاثوليكية النظر بمواقفها الصلبة ضد العلمنة، ولعل أهمها الانقسام الحاد في فترة ماضية بين الكاثوليك والبروتستانت، حيث ساهم الأخيرون بنشاط ظاهر في إنجاح التجربة الليبرالية وفي تمثل قيم الديمقراطية على المستويين الديني والسياسي معاً، والتركيز على القول إن حرارة الإيمان بالله يتوجب أن يقابلها حرارة الالتزام بالحرية والمساواة والعدالة بين البشر الأمر الذي جعل العالقة قريبة جداً بين البروتستانت وطروحات العلمانيين.

والسبب الآخر هو الضغوط المتوالية على هرم الكنيسة الكاثوليكية من داخلها وخارجها، لكي تتحرر من إرثها القروسطي (القرون الوسطى) الثقيل، وحدت الضغوط أسفرت عن الموقف الذي أصدره البابا لاوون الثالث عشر (هو رأس الكنيسة الكاثوليكية) في أواخر القرن التاسع عشر، الذي عرف ببيان "الإله الأزلي" ويثير فيه بوضوح تام التمييز بين السلطتين الدينية والمدنية...

بعد ذلك توالت الرسائل البابوية التي حملت توجهين : الأول يحرص على تكرار مواقف البابوات السابقين الرافضين علمنة الأحوال الشخصية والتعليم، والثاني يقر بفوائد العلمنة ... ولاحقاً وصل التسليم الكاثوليكي بالدولة العلمانية إلى درجة مطابقته التامة مع المسيحية الأولى عند البيان الشهير الذي أصدره كرادلة وأساقفة فرنسا عام 1945م، حيث دعوا أبناء رعيتهم إلى الإقرار ب "علمانية الدولة المتفقة كل الاتفاق مع عقيدة الكنيسة... وتبلور الموقف الرسمي للكنيسة الكاثوليكية على أعلى المستويات على لسان الحبر الأعظم بيوس الثاني عشر في خطابه الذي ألقاه في آذار 1958م والذي حسم الموقف قائلاً : "إن علمانية الدولة السليمة والشرعية هي من مبادئ الكنيسة الكاثوليكية"

" وجاءت وثيقة المجمع الفاتيكاني تؤكد مرة أخرى على ضرورة الفصل بوضوح بين نظامين من المعرفة على ضرورة الإيمان ونظام للعقل، وتدعو من جهة أخرى إلى ضرورة الإلمام بالعلوم الحديثة : "يجب ألا نعرف معرفة كافية مبادئ اللاهوت فحسب، بل يجب الإلمام بالاكتشافات العلمية الدنيوية، وبهذه الطريقة يتوصل المؤمنون بدورهم الى حياة إيمان أكثر نقاوة أشد نضجاً" قابل هذا الموقف الجريء، تعديل في الخطاب العلماني المكافح وبدأ يطرح لغة حوارية تواصلية انسجامية مع خط الكنيسة، تؤكد على المحافظة على الحريات العامة ولا سيما حرية المعتقد الديني وتدعم المؤسسات الدينية المسيحية في نشاطاتها الروحية... وها هي المسيحية بأفضل ممثليها والعلمانيون بمفكريهم الكبار يسعون إلى إعطاء نفس جديد للحضارة الغربية يرتكز على التوازن بل الانسجام التام بين الأخلاق المسيحية والقيم العلمانية.(1)

___________________________________________________________________

(1) – (انظر – الدكتور سهيل فرح – العلمنة المعاصرة بين ديننا ودنيانا – ط1 – 1997 – ص61 – 62 بتصرف)

الإسلام والعلمنة

إن جهل الكثير من أبناء الأمة العربية والإسلامية بحقيقة الإسلام وإمكان قدرته على معالجة جميع جوانبي الحياة الإنسانية وإيجاد الحلول لمشاكلها بما يحقق السعادة والطمأنينة للبشرية ويقيم العدل والمساواة بين أبنائها، وكذلك تأثر البعض منهم بالثقافة الغربية، جعلهم ينكرون على الإسلام هذه الحقيقة وينحون منحنى آخر غيره.

ومن الإنصاف أن بعض الدارسين والباحثين من الغربيين وغيرهم يتحدثون عن حقيقة الإسلام بإعجاب وعن دوره التاريخي في الحضارة الإنسانية، ومن هؤلاء الأمير تشارلز ولي عهد انكلترا.

الأمير تشارلز والإسلام :

يقول الأستاذ فهمي هويدي : "منذ شهر نوفمبر 1993م، راودتني رغبة ملحة في عقد مقارنة بين ما قاله الأمير تشارلز ولي عهد انكلترا عن الإسلام والمسلمين في محاضرته الشهيرة بجامعة اكسفورد، وبين ما يقوله بعض المثقفين العرب والمسلمين عن دين أمتهم وتاريخها، وهي مقارنة كفيلة بتبيان مدى الفساد الذي بلغه مستوى الحوار الثقافي في بلادنا فضلاً عن أنها تثير ألف سؤال وسؤال حول حقيقة الدوافع التي حدت بأولئك المثقفين لكي يعمدوا في كل مناسبة إلى الازدراء بكل ما نملك من رصيد، ومحاولة إقناعنا بأننا كنا حقاً ضمن الأجناس السفلى، التي ألقى إليها الغرب طوق النجاة – بالاحتلال والحداثة – فكتب لها أن تظهر على سطح الدنيا! والنص الذي... هو نموذج لخطاب التحقير والتبكيت الذي يبثه بعض مثقفينا بين الحين والآخر، وهو مناسبة لإجراء جانب من تلك المقابلة التي تلح علي منذ ثلاثة أشهر.

ماهي الصورة التي رسمها الأمير تشارلز؟ :

قال : "لا يزال الغرب يعاني من الجهل الكبير بشأن ما تدين به حضارتنا وثقافتنا للعالم الإسلامي، إنه نقص نعانيه من دروس التاريخ ضيق الأفق الذي ورثناه، فالعالم الإسلامي في القرون الوسطى من آسيا الوسطى إلى شاطئ الأطلسي كان يعج بالعلماء ورجال العلم، ولكن بما أننا رأينا في الإسلام عدواً للغرب وكثقافة غربية بنظام حياتها ومجتمعها، فقد تجاهلنا تأثيره الكبير على تاريخنا...

ثم تحدث الأمير تشارلز بعد ذلك عن عطاء الإسلام للغرب في العلوم والفلك والرياضيات والقانون والتاريخ والطب والزراعة والهندسة المعمارية والدين والموسيقى.

ثم أضاف قائلاً : كثيرة هي السمات واللمسات التي تعتز بها أوربا الحالية التي هي فعلاً مقتبسة من اسبانيا المسلمة : الدبلوماسية، والتجارة الحرة، والحدود المفتوحة وأساليب البحوث الأكاديمية في علم أصل الإنسان والأتكيت والأزياء، والأدوية البديلة، والمستشفيات، هذه الإضافات وصلت إلينا من هذه المدينة العظيمة.

لقد أسهم الإسلام في حضارتنا التي كثيراً ما نعتقد خطأ أنها حضارة غربية كلياً...وبعد ما قرر تشارلز ذلك قال : "إن الإسلام جزء من ماضينا ومن حاضرنا في جميع ميادين الجهد البشري، لقد ساعد الإسلام على تكوين أوربا المعاصرة، فهو جزء من تراثنا وليس شيئاً مستقلاً بعيداً عنا...

وفي ختام هذه النقطة قال : "وأكثر من ذلك فالإسلام يستطيع أن يعلمنا اليوم كيف نفهم وكيف نعيش في عالمنا المسيحي الذي يفتقر إلى المسيحية التي فقدها، فالإسلام في جوهره يحتفظ بنظرة كلية متوازنة للكون، فرفض الفصل بين الإنسان والطبيعة، أو بين الدين والعلم، أو بين العقل والمادة، كما حافظ على وجهة نظر غيبية موحدة للإنسان وللعالم الذي يحيط بنا".(1)

ثم يكمل فهمي هويدي قوله : والأمير تشارلز لا ينفرد وحده بذلك الموقف المنصف وإنما هناك غربيون آخرون أدركوا أن العرب لم يكونوا عالة على الغرب، وإنما كان لهم عطاؤهم المقدر والجليل، وربما كان كتاب المستشرقة الألمانية "زيكرد هونكه"  "فضل العرب على أوربا" من نماذج تلك الكتابات المتميزة خاصة في بابه الخامس، الذي تحدثت فيه عن سيوف العقل و "المعجزة العربية" وبابه الرابع الذي تناولت فيه تقدم العلوم الطبية عند العرب والمستشفيات والأطباء التي لم يعرف العالم لها مثيلاً...(2)

الباحثة التركية الدكتورة "نيفولرتمولة" قالت وهي تدافع عن الربط بين العلمانية والديمقراطية : إن ذلك لن يلغي الإسلام أو ينفيه، لأنه سيظل قائماً بحسبانه هوية يتمسك بها المجتمع ويدافع عنها، وقد علق الدكتور عبد الوهاب المسيري على ذلك قائلاً : إن حصر الإسلام في كونه مجرد هوية هو قراءة علمانية مبتسرة له، لأن الإسلام في حقيقته مشروع حضاري متكامل، يخاطب البشر أجمعين ويستهدف إقامة العدل في الأرض. ومن ثم فهو رسالة كونية لا يجوز ولا يقبل أن تختزل في نطاق الهوية لتصبح أحد العناصر المكونة للمجتمع...(3)

ثم يرد الاستاذ فهمي هويدي قائلاً : إننا يجب التعامل مع الإسلام باعتباره منظومة مختلفة تماماً ومغايرة للمنظومة العلمانية، وعلى المثقفين الغربيين الذين ينادون بالتعددية السياسية أن يعتمدوا أيضاً مبدأ التعددية الحضارية، فليس صحيحاً أن النموذج الحضاري الغربي هو وحيد هذا الزمان، وما حققه ذلك النموذج من انجازات تقدر وتحترم حقاً لكن ذلك لا ينبغي أن يعني أنها النموذج الأوحد للبشرية الذ لا يحتذى سواه، وهو لا يعني بذات القدر إلغاء النماذج الحضارية الأخرى، ولا يجب أن يقلل من شأن انجازات تلك الحضارات الأخرى...(4)

وهنا يمكن القول : "لا بد لنا أن نرجع قليلاً إلى التاريخ لنحفر في بعض طبقاته، فقبل أن تأخذ أوربا مبادرة رفع راية العقلنة والعلمانية في العصر الحديث فلإن المسيحيين الشرقيين والمسلمين كانوا قد أرسو البدايات الأولى لقيم العقلنة لا بل العلمنة وأغنو الحضارة العالمية بها، وها هو "وايتهيد" يشير إلى أن البيزنطيين والمحمديين (أي المسلمين) احتفظت ثقافتهم بطاقاتها الذاتية تغذيها المجازفة الطبيعية والروحية فتاجروا مع الشرق وتوسعوا مع الغرب وقننوا الشرع وأبدعوا اشكالأ جديدة في الفن وصاغوا اللاهوتيات وخلقوا الرياضيات خلقاً جديداً ووسعوا المعارف الطبية... التقت نظرة الفيلسوف والمؤرخ "وايتهيد" مع مؤرخ العلم الشهير "جورج سارتون" الذي لم يخف إعجابه الشديد بالمعجزة العقلية والعلمية للعرب فقال عنها : "ليس هناك ما يشبهها في التاريخ الإنساني كله، إلا استساغة اليابان للعلم الحديث والتكنولوجيا في عصر الميجي والمقارنة مفيدة، لأن الوضع كان من حيث الأساس واحداً في الحالتين، فالفعاليات الفكرية العربية أدركت حاجتها للعلم اليوناني بالسرعة التي أدرك بها اليابانيون حاجتهم للعلم الأوربي منذ قرنين، وكان للفريقين الإرادة والطاقة الروحية اللتان تستطيعان التغلب على أشد الصعوبات ولم تكن لدى العرب أو اليابانيين الخبرة أو الصبر الكافي للتفكير بالصعوبات والتخوف منها، لذلك انطلقوا غير آبهين بها، فكل شيء يصبح أيسر ما دمت لا ترى صعوبته.

___________________________________________________________________

(1) – (فهمي هويدي المفترون – ط2 – 1420هـ - 1999م – ص 27 – 28)

(2) – (المصدر السابق – ص28)

(3) – (المصدر السابق – ص256)

(4) – (المصدر السابق – ص257)

 على الرغم من سيادة الوعي الديني في الإسلام ومحاولة هيمنته على كل حقول المعارف، إلا أن الفكر الإسلامي أنتج معارف عقلية وعلمية كان لها الحضور الأهم على الساحة الثقافية العالمية في القرون الوسطى، ومن يريد التأكد من ذلك فما عليه إلا القراءة المتأنية لكتابات المعتزلة والجاحظ وتلميذه أبي حيان التوحيدي وابن المقفع والفارابي وابن رشد وابن خلدون وغيرهم، وما عليه إلا التمعن في الجهد الذي قام العلماء العرب والمسلمون في وضع اللبنات الأولى للتوفيق بين النزعة التجريبية والنزعة التجريدية الرياضية في فلسفة العلم، وفي تطوير العديد من العلوم على مستوى اكتشافات ميادين جديدة فيه أو على مستوى المنهج، وليست اسهامات ابن الموصل والخوارزمي وابن ادريس وغيرهم هي الوحيدة في هذا الإطار بل إن الدائرة اتسعت لتشمل آلاف العلماء في كل الحقول ومن فكر كل هؤلاء المفكرين والأدباء والعلماء  كانت تشع مواقف عقلانية علمية نقدية حيال كافة المسائل المتعلقة بشؤون ديننا ودنيانا".(1)

خلو الإسلام من السلطة الدينية المعصومة :

إذا كانت إشكالية العلمانية لم تطرح من قبل الفكر العربي والإسلامي فذلك لأن الإسلام الديني كان هو الذي أسس بنفسه للحيز المدني وأكد عليه وشرع له منذ أن جعل الرسالة المحمدية خاتمة النبوة وكل وحي في العالم وأعطى للعقل بدءاً من ذلك الوقت الدور الوحيد في تسيير المجتمع والتاريخ حتى قيام الساعة، والأصل ان اختتام الرسالة يعني أنه لم يعد هناك اتصال للجماعة المؤمنة مباشر مع الله وحتى فيما يتعلق بتفسير القرآن لم يعد هناك ملاذ للإنسان إلا العقل، وهو ما يعنيه الاجتهاد، وهذا ما فهمه المسلمون الذين سنوا مبدأ التعامل العقلي والتفكير البشري في معاني القرآن، ولم يدع أحد منهم الوحي أو الإلهام الرباني، ولم يقبل لأفكاره أن تكون أكثر من اجتهادات فردية وإنسانية والمتأخرون هم الذين بالغوا أحياناً في إضفاء القداسة على هذا المذهب أو ذاك.ولعل هذا الطابع المدني أو العلماني بالفطرة للفكر الإسلامي هو الذي ساعد على تجذره في المجتمع وجعله شديد الارتباط والتماهي مع ما نطلق عليه اليوم المجتمع المدني.

ومن بين الأسباب التي ساهمت في ذلك خلوه من الكنيسة – أي غياب فكرة الهيئة أو السلطة المعصومة فيه – وانفتاح إمكانية الاجتهاد بحرية أمام كل فرد ينتمي إليه، وانعدام هذه السلطة الدينية الرسمية في الإسلام... هي التي جعلت من غير الممكن للسلطة الزمنية أن تنتقص من مصداقيته وشرعيته التاريخية... والتعدد المذهبي كان يضمن للإسلام في الوقت نفسه، قوة أكبر على التكيف مع الأوضاع المتغيرة، ويكسبه مرونة لا حدود لها في التعامل مع التغيرات الاجتماعية والسياسية على اختلاف أنواعها، وعلى امتصاص أو احتواء هذه الانقسامات نفسها وحصر نتائجها، وتحويلها إلى تعددية مثرية وأرضيّة مقبولة للنقاش كما هو الحال في تعدد المدارس والمذاهب الفقهية والكلامية...

___________________________________________________________________

(1) – (دز سهير فرح – العلمنة المعاصرة بين ديننا ودنياننا – ط1 – 1997م – ص95 – 99)

ففي هذا البنيان يحق شرعياً لجميع المؤمنين دون تمييز النفاذ إلى المعرفة الدينية التي هي من طبيعة ظاهرية نقلية وعقلية مفتوحة المناهج ومعروفة المصادر من قرآن وسنة وإجماع وقياس، كما أن المساواة الفكرية ورفض الهرمية الدينية قد عمق الشعور بوحدة جميع المسلمين واشتراكهم جميعاً في قيمة واحدة متساوية هي العقل، ومن هنا تبدو أهمية التأكيد الدائم على هذا العقل كأداة للتوحيد بين المسلمين أنفسهم، وبوصفه مركز التفاهم ومبدأ التبحر في الدين والمساواة بين المسلمين حتى أصبح من المستحيل لأحد أن يدعي تميزاً في القيمة الأنطولوجية(1) لمعرفته مقارنة بمعرفة الآخرين، فالكل يعيش بالاجتهاد وعلى الاجتهاد الذي يستطيع كل فرد مسلم أن يصل إلى مرتبته بالجهد البشري المحض وبالعمل الصالح، وفي هذه الحالة لم يكن ممكناً التمييز الحقيقي خارج إطار القرآن والسنة بين المدني والديني، أو خلق التناقض بينهما، فالاجتهاد في الدين نفسه هو عمل مدني، أي قائم على العقل لا على الاتصال المدني بأي سلطة أو هيئة عليا ربانية، وكل عمل المؤمنين هو سعي مشترك واحد لفهم وترجمة وتحقيق النص الديني الأول، وكل المسلمين مدنيون دون استثناء، وإن تعاملوا أو لم يتعاملوا بالعلوم الدينية، وهذا هو السبب أيضاً في غياب إمكانية الفصل بين فضاء تكوين المعرفة الدينية وفضاء تكوين المعرفة المدنية، أي العلوم العامة العقلية، فلم تكن هناك كنائس وأديرة ورهبنات تنقل المعرفة الخاصة الباطنية وتقدم التربية الدينية من جهة ومدارس أو مكاتب لتعليم العلوم المدنية من جهة ثانية، لقد كانت المساجد والمدارس ذات وظيفة مشتركة وبرامج موحدة وواحدة هي التعليم بكل أشكاله، وكانت التربية الدينية جزءاً من التربية المدنية مثلما كان العلم المدني عبادة دينية، فلأن المعرفة كانت واحدة ولم يكن هناك احتكار لمعرفة دينية خاصة أصبح التكوين واحداً للأفراد جميعاً دينياً ومدنياً معاً دون تناقض أو تعارض، وأصبح من الممكن – وهذا هو الأمر المهم – تكوين نخبة واحدة وموحدة دينية مدنية تتعاون الأطراف المتنوعة فيها، كل حسب علمه واختصاصه في تحقيق سلطة عامة موحدة، وهذا هو الأصل العقيدي أو الدعامة الفكرية والروحية لنشوء السلطان الواحد والدولة المركزية في المجتمع الإسلامي ومن ثم غياب المنافسة والصراع الفعلي بين سلطان ديني وسلطان مدني، وهذا التلاحم والتوافق بين المدني والديني، بين الخيالي الرمزي والعقلي هو القاعدة الحقيقية للسيطرة الذاتية وتفتح العقلانية التي لاغنى عنها لكل مدنية، أما الصراعات الجزئية والظرفية التي كانت تحصل في هذا الإطار فقد كانت تجري دون شك داخل إطار طبقة قائدة واحدة وكان مصدرها ترتيب المواقع وتحسين المكتسبات الخاصة بكل فريق فيها، العلماء والإداريين البرقراطيين والعسكريين.(2)

___________________________________________________________________

(1) – (الأنطولوجية : هي علم الوجود بما هو موجود المعادل للميتافيزيقا)

(2) – (انظر : الدولة والدين – د. برهان غليون – ط1 – 1991م – ص293 – 294)

التمييز بين شريعة كتاب الله وإرادته وبين القانون الذي هو تحويل هذه الإرادة إلى وسيلة للحكم على الأرض :

لا بد من التمييز بين الشريعة التي هي كتاب الله وإرادته وهي التي تتوجه إلى الإنسان أفراداً ومجتمعات، بصرف النظر عن ظروفهم وقومياتهم ، كما تخاطب الدول دون تمييز ، وبين القانون الذي هو تحويل هذه الارادة الى وسيلة للحكم على الارض ، وأداة للدولة ومن ثم إلى نظريات ومعارف وأحكام مدنية محددة ومصاغة حسب حاجات الدولة والنظام الاجتماعي، وذلك منذ اللحظة التي تمر فيها عبر الإجماع ويعاد تفسيرها على ضوء الحاجات الاجتماعية والأوضاع والظروف التاريخية، فتصبح شيئاً مختلفاً كلياً عن الشرع الإلهي مهما كانت مطابقة له في الأحكام.

وهذا الاختلاف نابع من أنها تتحول إلى تعبيرعن إرادة المجتمع والجماعة والبشر، كجماعة مدنية، اللهم إلا إذا اعتبرنا الجماعة الإسلامية جماعة مقدسة، وأن رأي الجماعة والإجماع من وحي الله، وهو مالا يقبله الشرع نفسه، إن الإجماع بما هو تحصيل لرأي عام مستمد من فهم وتفسير وتأويل مجموع المسلمين للشرع – وهو بهذا المعنى شرط نفاذ المسلمين كجماعة إلى مضمون ومعاني القرآن والسنة معاً – هو الذي يعكس الاجتهاد مفهومه الأعمق كمشاركة ومساهمة للأمة عامة في رعاية مصالحها وفهم دينها وتقرير مصيرها، وهو الذي يحول الشرع إلى قانون، أي إلى حكم يقر من قبل بشر على بشر ولصالحهم وبأيديهم، وبهذا المعنى يتحول إلى حكم مدني إنساني في الوقت ذاته أو حتى لو كان يحقق في أهدافه غايات إلهية، وإلا فليس من الممكن تصور أن الله هو الذي ينتقم من المجرم عندما يطاله القانون، إن الذي يعاقب على الأرض حتى عند تطبيق الأحكام الدينية هو الحاكم البشري نفسه، وهو المسؤول عن الحكم الذي يطلقه وعن صحته أو خطئه، أو عن صلاحه أو عدم صلاحه وعن مطابقته لكلام الله أوعدم مطابقته، وهو لا ينفذ بأي شكل إرادة الله ولا يعيره ذراعه، ولا يقوم في مكانه بتطبيق قصاصه، فقصاص الله مكانه وموعده يوم القيامة، وليس هناك من ينوب به عنه، وقصاص المجتمع هو قصاصا مدني وأرضي، سواء أكان مستوحى من تعاليم الله أو العقل، ولا يعوض عن قصاص الله الذي يثيب الحاكم والمحكوم معاً.

وإذا لم يكن هناك وصاية على المسلمين في دينهم بحسب منهج الشريعة، وكان التصور الذي يجمعون عليه في أمور دنياهم هو التفسير المعبر عن إجماعهم في حقبة معينة، أي هو القانون فإن تحقيق القانون النابع من إجماع الأمة الإسلامية هو شرط لتحقيق الدين والشريعة. ما ذكره الجرجاني من ضرورة تمييز الشريعة بما هي دين منسوب إلى الله أي نابع منه، وبين الشريعة بما هي مذهب فقهي واجتهاد منسوب للمجتهد، والخلط بينهما يهدد بأن يحول البشري والمدني والإنساني إلى إلهي، بصرف النظر عن صفاء النية والطوية، وبمعنى آخر ليس الفقه هو القرآن ولا الترجمة الحرفية له..

لا تنسب الشريعة إذن بالمعنى الفقهي إلى الله فهي ما استخرجه فقهاء المسلمين ومجتهدوهم من دين الله لصوغ قانون لمجتمعهم السياسي، وبالرغم من أن مصدر هذا القانون هو التأمل في الشرع الإلهي فهو ليس من الناحية الشكلية والقانون كما ذكرنا تنظيم شكلي لقرارات وأحكام إلا قانوناً عقلياً أو مبنياً على الاجتهاد العقلي، وقد تحولت هذه المنظومة الشرعية القانونية إلى تراث قانوني يشكل جزءاً لا يتجزأ من الاجتهاد العام الفقهي في القانون.

إن هدف الدين هو بناء الجماعة الأهلية، أي بناء الإنسان، فيما وراء الدول وقبلها وأمامها وبعدها، ولا دولة بدون جماعة ولا سياسة بدون دين، أي بدون مستودع وخزان رئيسي للقيم الإنسانية والمثل والفضائل الأخلاقية، ولا يحسن تبذير المكانة والقيمة والثروة الروحية التي تنبع من الدين.(1)

___________________________________________________________________

(1) – (المصدر السابق – ص367 – 380 بتصرف يسير)

ارتباط الدين بالسياسة لا يمثل خطراً على الدين أو السياسة :

إن ارتباط الدين بالسياسة لا يمثل خطراً على الدين أو السياسة، ولكن الخطر يكمن في تحويل السياسة إلى ممارسة مقدسة دينية، وإلغاء الفعل العقلي والنقدي فيها، سواء حصل ذلك بعد استلام السلطة باسم دولة الله أو قبل ذلك. داخل حزب الله، وليس الخطأ في تكوين أحزاب سياسية تستلهم القيم والمبادئ والأحكام الإسلامية، ولكن في الانزلاق من ذلك نحو إدعاء قدسية العقيدة السياسية المستمدة من القيم الدينية وقدسية السلطة المرتبطة بها، إذ لا بد لهذا أن يحول الدين إلى مركز تدعيم للسلطة وللمصالح الجزئية، ويجعله وسيلة جديدة للتفتيت وتكسير اللحمة الأخوية والدينية... الإسلام يمكن أن يتحول إلى عامل توحيد هائل، وهو عامل توحيد هائل بالفعل للأمة والجماعة، بل العامل الأوحد حتى اليوم إذا برهنت الأحزاب الإسلامية على أنها لا تخلط ولا تريد أن تخلط نشاطها البشري المدني المشروع بمفهوم السلطة الدينية ولا تسعى إلى تغطية أخطائها المحتملة بها، وفي جميع الأحوال ينبغي لها أن تدرك أن التوظيف السياسي المبالغ فيه في الدين يمكن أن ينقلب عليها بقدر ما يرفع الخوف الذي يثيره في قسم من المجتمع إلى تكوين معسكر معاد للدين نفسه...(1)

___________________________________________________________________

(1) – (المصدر السابق – ص385 – 387 بتصرف يسير)

الدين أمان للسلطة والمجتمع من التهديدات الخارجية والأزمات الداخلية : 

عندما يتعلق التهديد بمصالح عليا وجماعية ومصيرية، عندئذ فإن الدين يكون عامل التعبئة الأول والحاسم في الرد على الخطر بما يبعثه من حوافز عميقة للتضحية وما يخلقه من حمية جامعة، وهو ما حصل في كل مكان في مواجهة الاحتلال الخارجي، أو التداعي الداخلي والجماعي لمواجهة أزمة قاهرة اجتماعية أو طبيعية، إن اعادة الإنسان إلى الفكر الإسلامي ومن ثم تعظيم دوره لا تتحقق إلا بتوظيف الإسلام أولاً توظيفاً أخلاقياً ومعنوياً وعندئذ فإن الرسمال المعنوي الذي يمثله سوف يكون عنصراً رئيسياً ومكملاً للرساميل الأخرى تكوين الثروة السياسية من القيم والمفاهيم لا في طابعها الدستوري والمباشر، ولكن كمصدر لتنمية نظام القيم الأول نفسه، أي للأخلاقية العامة، وعندئذ يكون الدين دعماً للسلطة والمجتمع معاً...

وبقدر ما عمل انهيار الأخلاقية الوطنية المباشرة على تحويل الدولة إلى آله لا روح فيها، أي إلى جهاز يفتقد القدرة والمثال المحفز والغاية المثيرة للانخراط النفسي والعقلي، يعمل الرجوع إلى الهوية التاريخية وروح الجماعة الشاملة على جعل الإسلام من جديد رمز البحث في السياسة عن أخلاقية اجتماعية وغاية انسانية تعيد تأسيس الحقيقة الوطنية والاجتماعية والقومية، إن الدولة الدينية، دولة الإسلام تريد أن تكون دولة النزاهة والفضيلة ودولة الوحدة الوطنية والمساواة والغاية والعقيدة والمثال الصالح والموحي في مواجهة دولة الآلة والمصلحة الخاصة، والتمييز بين الناس، والتعذيب والإرهاب، والقمع وعيادة الشخصية وعبودية المصلحة الفردية، وكما تسعى دولة الخدمات المنهارة والمتحولة إلى دولة الخدمات الشخصية والحظوة والامتيازات إلى تثبيت نفسها بتجديد الحماية الأجنبية، تتقوى الحركات الإسلامية من خلال تعميق الشعور بهوية جامعة تتجاوز الحدود القطرية...(1)

ومهما استجدث علم الأخلاق المعاصر والعلوم السلوكية من وصفات أخلاقية، وهي على أهميتها يبقى الدين يشكل مادة من المواد الأساسية لخلق رادع أخلاقي داخل النفس الإنسانية من أجل عدم ارتكاب آفات تدخل ضمن ما تسميه الكتب الدينية ب "الشر" فكلما ارتقى الوعي السيوسيولوجي (علم الاجتماع) والفلسفي واللاهوتي بشؤون الدين كلما بدا وهج الدين أكثر نقاوة وسمواً وأخلاقية في النفوس.(2)

___________________________________________________________________

(1) – (المصدر السابق – ص390 – 435 بتصرف يسير)

(2) – (الدكتور سهيل فرح – العلمنة المعاصرة بين ديننا ودنيانا – ط1 – 1997م – ص22)

مفهوم الدولة في الإسلام غير مفهوم الدولة الدينية في الغرب المسيحي

إن الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية لا يمكن أن تعني العودة إلى مفهوم الدولة الدينية في الغرب المسيحي حيث كانت للمؤسسة الدينية عن طريق الإكليروس سيطرة على شؤون الدولة ومقدراتها، فإن الدولة الدينية في الغرب وقعت تحت سيطرة المؤسسة الدينية بصفتها الواسطة الوحيدة بين المؤمن وربه والوصية على شؤونه الروحية والزمنية على حد سواء، فبما أنه لا وجود في الإسلام لواسطة كهذه، إذن فإن مفهوم الدولة في الإسلام هوغيرمفهوم الدولة الدينية في الغرب المسيحي، وإذا كانت العلمانية فيما يذهب إليه البعض... هي دعوة للتخلص من هيمنة الكنيسة على شؤوننا الدنيوية، إذن فلا محل للعلمانية في حياتنا نحن المسلمين، ولا معنى لمحاربة الدولة الدينية في الإسلام بالدعوة إلى العلمانية...

إن محمد عمارة يذهب إلى حد الاعتقاد أنه لا وجود حتى لمفهوم الدولة الدينية في الإسلام. فإن مفهوم الدولة الدينية في نظره الذي يقابل مفهوم الدولة العلمانية، يرتبط بالضرورة بما أسماه – مستعيراً من هوارد بيكر – "المجتمع المقدس" والمفهوم الأخير، كما هو مضمر في تحليل من عمارة، يشير بالضرورة إلى مؤسسة دينية ما يقوم الذين يتولون شؤونها (أي رجال الدين الكهنوت) بدور الوسيط بين الإنسان وربه، ولكن بما أنه لا وجود لمجتمع مقدس بهذا المعنى في الإسلام، إذن فإن الإسلام لا يعرف الدولة الدينية، وما دام الإسلام لا يعرف الدولة الدينية، إذن الدعوة إلى سيادة العلمانية بين ظهرانينا ماهي إلا تقليد للغرب وتبعية لحضارته...

والعلمانية لا يمكن أن تعني – في هذا السياق – سوى طريقة لحل مشكلة ازدواج السلطة، إنها تعني على وجه التحديد عكس ما عناه مفهوم الدولة الدينية في القرون الوسطى، قإذا كانت الدولة الدينية شكلت الأساس لحل مشكلة ازدواج مصدر السلطة عن طريق تغليب سلطة الكنيسة الدينية – السياسية على سلطة الدولة المدنية – السياسية، فإن العلمانية حلت المشكلة إما عن طريق عكس الآية، أي عن طريق تغليب السلطة الأخيرة على السابقة، أو حصر السابقة في الشؤون الدينية وحدها، وما يعنيه هذ في نهاية التحليل هو أنه إذا كانت العلمانية هي الرد على الدولة الدينية، وإذا كانت الدولة الدينية هي الدولة التي تكون فيها الكنيسة مصدر السلطتين الدينية والزمنية إذن فإن ما تعنيه العلمانية هو على الأقل تجريد الكنيسة من سلطتها الزمنية، وما تعنيه على الأكثر هو إخضاع الكنيسة لسلطة الدولة المدنية – السياسية...

في فهم هؤلاء المفكرين للعلمانية على النحو الأخير، يصبح من السهل عليهم الاستنتاج أن العلمانية فكرة غريبة علينا ولا محل لها في حياتنا مطلقاً، فإن الإسلام في نظرهم لم يعرف مشكلة ازدواج مصدر السلطة على الإطلاق وذلك كما يقول محمد مهدي شمس الدين" السبب بسيط جداً هو أنه لم تكن في الإسلام كنيسة ودولة، ولم تكن ثمة مملكة الله ومملكة قيصر، ولم يكن ثمة روح طاهرة وجسد مخطئ في الإنسان، لم توجد في الإسلام ثنائية تؤدي إلى التنافر ومن ثم إلى الصراع في الطبيعة، ولا في المجتمع ولا في الإنسان.(1)

___________________________________________________________________

(1) – (الأسس الفلسفية للعلمانية – عادل ضاهر – ط2 – 1998م – بيروت – ص40 -42 بتصرف يسير)

خصوصية المجتمع الإسلامي

" ليس هناك عالمية مجردة سديمية لا تنوع فيها، إن العالمية لا تكون، أي لا تعيش من دون خصوصيات وتعددية، ولا وحدة بشرية من دون كيانات خاصة جماعية وحتى داخل الأسرة نفسها، لا يمنع تمتع كل فرد فيها بشخصيته المستقلة، أي بطريقة خاصة في رؤية الأمور وإدارتها وبمطامح وكفاءات وتطلعات خاصة، أي بذات مفكرة وحرة وإرادة فردية من وجود أسرة واحدة... إن قوة أي وحدة نابعة من قوة التعددية التي تنجح في حملها وتحقيقها من دون أن تنكسر، وفي اعتقادي أن محو الخصوصيات وإنكارها هو عنصر أساسي في استراتيجية السيطرة العالمية وتحليل وتفكيك المجتمعات التابعة وإلحاقها كمواد أولية وعناصر إنتاج ثانوية بالسوق الرأسمالية"(1)

"البروفيسور لويس كنتوري – الأستاذ بجامعة جورج تاون وأحد أبرز الخبراء الأمريكيين في شؤون الشرق الأوسط – درس الفلسفة الإسلامية بجامعة الأزهر. أسهم في الحوار بورقة كان موضوعها: الإسلام والديمقراطية بين الاستغراق في الذات والعلمانية، وهو يقدم ورقته قال : إن الليبراليين من أكثر الناس ضيقاً بالنقد، لاعتقادهم أنهم يملكون الحقيقة والمفتاح السحري للتقدم بعد الذي حققه الغرب من انجازات على ذلك الصعيد، وقد آن الأوان لفك الارتباط بين المصطلحات الثلاثة الليبرالية والعلمانية والتقدم، فليس صحيحاً أنها متداخلة ومترابطة بحيث يتعلق كل منها بمصير الآخر، وبوجه أخص، فإن تجربة قرنين من الزمان ثبتت في حالات عدة، أن العلمانية لا تعني بالضرورة التقدم. قال : إنه آن الأوان أيضاً لإدراك أن خطاب التنوير الغربي المنطلق من العداء للدين لا يصلح للعالم الإسلامي والعربي، الذي يمثل فيه الدين قيمة عظمى، وتسوده قيم أخرى تعلي من شأن الدولة والجماعة والأسرة، لذلك فإن المفهوم "الهيجلي" للكون – نسبة إلى الفيلسوف الألماني هيجل – الذي أصبح يعتبر الإيمان بالغيب من أشكال اغتراب الإنسان، ويقيس التطور التاريخي بمقدار اكتمال سيادة الإنسان على مصيره وصناعة فردوسه المنشوء على الأرض، هذه الرؤية المادية لا تصلح للتطبيق على الحالة الإسلامية خاصة، ولا بد من العثورعلى بديل لها عند التعامل مع الإسلام.

في رأيه أنه لا العلمانية ولا الليبرالية ولا الماركسية تصلح أساساً لإنهاض العالم الإسلامي، فكل منها يصطدم أو يتناقض مع تركيبة المجتمع الإسلامي الذي لا مفرمن الاعتراف، بأنه يمثل ثقافة مغايرة تماماً لتلك السائدة في المجتمع الغربي.

أخيراً قال : إن من خلال دراساته المطولة لتجارب العالم الإسلامي والمشروعات الفكرية السائدة فيه، وجد أن فكرة التكافلية هي الانسب للتعبير عن مشروع المجتمع الإسلامي وهي صيغة تعلي من شأن الدين، وتغلب مصلحة الجماعة، وتحفظ للأخلاق والقيم السامية مكانتها، الأمر الذي يجعلها أكثر نفعاً وأفضل أداء من العلمانية أو الليبرالية، وهو يرى أن ثمة مشروعات فكرية إسلامية تبلورت في العالم العربي تعتمد على ذلك النهج التكافلي المنطلق من قاعدة الإسلام، وفي رأيه أنها مشروعات واعدة، تمثل فكراً تقدمياً قادراً على إنها من الأمة وتلبية أشواقها.(2)

______________

(1) – (الدكتور برهان غليون – حوار الدولة والدين – ط1 – 1996م – ص180 – بتصرف يسير)

(2) – (فهمي هويدي – المفترون – ط2 – 1420هـ - 1999م – ص248 – 249)

القدم لا يمنع معطيات العصر

إن " الاحتجاج بمثالية الإسلام من خلال اتهامه بالقدم وأن الزمن قد تجاوزه فإنه احتجاج لا يملك السند المنهجي بحيث لم يع بعد كيفية قراءة الإسلام والظواهر المرتبطة به، فإنه في ظل الصيغة الثنائية (القديم والجديد) يطرح موضوع الإسلام وكل ما يتعلق به خاصة عملية بناء علم سياسة إسلامي بكونه يبتعد عن معطيات العصرأو أنه عود بالعلم المعاصر إلى الوراء أربعة عشر قرناً، وتبدو الدعوة إلى الإسلام، وبالتبعية الدعوة لبناء سياسة إسلامي – وفق هذه الصيغة – عملاً غير قابل للتحقيق على أرض الواقع المعاصر.

وضبط مفاهيم مثل الجدة وكذلك المعاصرة من الأمور المهمة في تحرير هذه الدعوى وسندها، فإن هذين المفهومين لا يعنيان كما يتوهم البعض الصحة أو الملاءمة كما أنهما لا يرتبطان بالضرورة بالفاعلية، ذلك أن إمكان خطئها وعدم ملائمتها أو قصورها – على جدتها ومعاصرتها – أمر وارد كما أنه في المقابل فإن القدم لا يتلازم ضرورة مع كونها غير مناسبة أو غير فعالة أو صالحة، قد تشكل في مجملها أساساً صالحاً يبنى عليه، بل إن مفاهيم الجدة والتجديد والمعاصرة والتي لا تنظر إلى الخلف مطلقاً بحيث يعتبر كل ما تعداه – وفق المعيار الزمني الذي يعول عليه في هذا المقام – قديماً، ذلك لأن حركة الوقائع والحوادث لا تتوقف ولا تنقضي الأمر الذي يجعل قدم أو جدة أو حداثة أية فكرة أو نظرية أو مفهوم أو معيار أو منهج مسألة نسبية ضمن تساوي الجميع في القدم، ولهذا يمكن القول الأنصار المعاصرة الرافضين لمنهج الإسلام ومفاهيمه باعتبارها قديمة، يمكن القول بأن النفس المآخذ تنطبق على ما يحملونه من نظريات وأفكارومفاهيم ومعايير في الفكر الغربي، فهذا الفكر في وضعه الحالي لم يزل بعد معتمداً على أفكار ونظريات تضرب بجذورها في أعماق الخبرة الغربية.

في هذا السياق فإن المنهج السليم للحكم على مدى صلاحية أو فاعلية أي منظومة لا يقوم على أساس معاصرتها من عدمه بل ينصرف بالأساس إلى مناقشة جوهر هذه المنظومة وما تقدمه، وتبيان مدى صلاحيتها في إعطاء الاستجابات لقضايا العصر الراهن والواقع المماس، فلا يعتمد تاريخ المولد حكماً ومعياراً، خلاصة القول أن إعادة النظر في هذه الدعوى وفحص منطوقها وصياغتها يؤكد بطلان تلك المقولات التي تتهم الإسلام بالتأخر واللاعصرية واللاعلمية، وبالطبع كل ما ينتج عنه – مثل بناء علم سياسة إسلامية – لمجرد مجيئه قبل أربعة عشر قرناً أو تلك التي تدعي المعاصرة والتقدم والعلمية لمجرد كونها نتاجاً للقرن العشرين".(1)

____________________

(1) – (الدكتور سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل – النظرية السياسية للمنظور حضاري إسلامي – ط1 – 2002م – الأردن – ص38 – 39)

وسوم: العدد 886