على الجغرافيا العربية المجتمع قبل الدولة

سورية أنموذجا !!

زهير سالم*

[email protected]

أولا سلطة وليس دولة

أبسط ما يمكن أن نطلقه على الأجهزة المسيرة والمتسلطة على الجغرافيا العربية أنه شكل من أشكال ( السلطة ) لا ينتمي أبدا إلى أي مفهوم من مفاهيم الدولة التراثية أو العصرية .

فبعد أن استطاعت القوى ( الغربية ) إسقاط الشكل الأخير للدولة على الجغرافيا الإسلامية والمتمثلة في الدولة العثمانية ، ثم قامت باستعمار الكثير من الأقطار المتفتتة من تلك الامبرطورية لم تقم تلك الدول : المنتدبة أو الحامية أو المستعمرة ، بوضع أسس سليمة لبناء دول بالمعنى السياسي والمؤسساتي للكلمة . بل أسست أشكالا للحكم السلطوي الذي يحفظ مصالحها ، ويسمح لنفوذها أن يمد يدا إلى بنية تلك المجتمعات عندما تقرر ذلك ...

بكل الحزم والجزم نقرر أنه بعد سقوط الدولة العثمانية – على ما كان في بنيانها من وهن – لم يقم على الجغرافيا العربية ظلٌ لدولة بالمفهوم السياسي العصري ولا بالمفهوم التراثي الذي كان سائدا في الحضارة العربية والإسلامية .

بنرجسية وطنية مدعية تحدثنا طويلا ، كسوريين عن النضال الوطني ، وعن الاستقلال الوطني ، وعن الدولة الوطنية ، التي أسسها جدودنا على أنقاض مرحلة الاستقلال ، ولكن عن أي استقلال وعن أي دولة وطنية يمكن أن يتحدث السوريون : موضوعيا ومؤسساتيا . وكل من يتابع تاريخ سورية الحديث التي قامت أصلا على شلو من أشلاء الشام الكبير جغرافيا وديمغرافيا يعلم أن الحديث عن دولة سورية هو أقرب إلى الأحاديث المكذوبة الرداح يرويها مسيلمة عن سجاح ..

لقد أسس المستعمر الفرنسي ما سماه الدولة السورية على غير الأسس التي تأسست عليه الدولة الفرنسية نفسها . وبغض النظر عن غياب المؤسسات الأساسية والفرعية التي تبنى عليها الدول فقد زرع الفرنسيون في ( البُنية ) التي خلفوها من التناقضات ما يكفي لهدم الدول الراسخة المستقرة ، وليس فقط هدم شكل من أشكال الدولة الوليدة ...

إن وضع المستعمرين السلطة المدنية بأيدي خليط من الشركاء المتشاكسين الذين يعلي كل فريق منهم مصالحه الفئوية لم يكن أبدا ليبشر بخير . كما  إن تغييب الممثل الحقيقي للشعب السوري تحت حزمة الشظايا الديمغرافية قاد إلى هذا الذي تعيشه سورية اليوم ، حيث يستبد بأمر الناس ، ولا نريد ان نقول الدولة أو المجتمع ، أصحاب المصالح الفئوية استعلاء واستئثارا

لقد فخخ المستعمرون هذه السلطة المدنية بالألغام العسكرية التي دسوها على عوج هم يقصدونه ويعلمونه ، وقد صنعوه على عين ليستخدموه في الوقت المناسب . فلم تمض ثلاث سنوات على ذكرى الاستقلال الوطني حتى بدأت هذه الألغام بالتفجر  لتضرب البنية المضطربة تحت اسم ( الدولة )

كان حسني الزعيم  نقطة البداية لحكاية لم تكتب نهايتها بعد . حكاية العصا الغليظة التي تستأثر وتميز وتقتل وتسجن وتنتهك وتهدم وتضيع وتسرق وتشوه ،  وهذا هو الوجه الوحيد الذي رآه المجتمع السوري من شكل السلطة التي أسس لها المستعمرون في بلادهم والتي ما تزال حتى كتابة هذه السطور تسرح وتمرح فيها .

وهم الدولة وأشلاء مجتمع

وحين خرجت الشعوب العربية في إطار الربيع العربي تبحث عن دولة وجدت نفسها أولا بحاجة إلى البحث عن المجتمع . المجتمع الذي هدمته وشتته السلطة القائمة باسم ( الدولة ) .

السوريون الذين لم يحظوا بظل دولة منذ الحرب العالمية الأولى فقدوا بفقدانهم بناء الدولة بنية المجتمع أيضا ، وعلى عقلائهم أن يتنبهوا إلى ذلك أيضا.

" المجتمع " في المفهوم السياسي ليس مجموعة من الناس تعيش على أرض واحدة . المجتمع هو تجمع بشري يربط بين أبنائه سيل من الروابط بعضها ظاهري جلي وبعضها باطن خفي ، بعضها يمكن أن يذكر ويشار إليه وبعضها يجب أن يلحظ ولا تسهل الإشارة إليه ..

إن السلطة بمعنى التسلط قد حطمت في الحياة العامة السورية كل مقومات الاجتماع الإنساني . وتركت الناس كما قال الشاعر العربي الأول : فوضى لا سراة لهم . لا ضابط ولا ناظم ولا قيم ولا كبير ولا مطاع ولا مشير ..

وحين تحاول الشعوب العربية اليوم في وجودها العفوي في صورة ( عشب الأرض ) و ( ملح البحر ) أن تعبر عن توق خفي إلى شكل من أشكال الحياة المنظمة فهي تسعى جاهدة لاستيلاد مجتمع من رحم المعاناة وبناء ( دولة ) على الأشلاء  ..

 تقف اليوم قوى الاستكبار الدولي والإقليمي جميعا ضد الإنسان السوري الحي والحر،  هذه القوى التي حكمت على شعوبنا منذ انتصرت علينا في الحرب العالمية الأولى ، بالعيش في ظل الفوضى والقهر والاستبداد ؛ الفوضى التي يكرسها ويحميها ويقوم عليها عملاء صغار لا يكبر كبيرهم عن مقام ( قائمقام ) .

المهمة الأساسية والقريبة اليوم لحملة مشروع الثورة هو وضع الأسس العلمية لبناء المجتمع السوري الحديث . المجتمع الذي ينتظم كل الناس على أساس المواطنة بروحية صحيفة المدينة التي أسس عليها محمد رسول الله مجتمع المدينة الجديد . أو بروحية العهدة العمرية التي بذلت العدل والسواء لكل الناس . نتحدث عن روحية جامعة غير نابذة لنتقي تفسيرات أصحاب عقلية البعد الواحد التي تدور على تراتيب الحرف وليس على مداراته وآفاقه ..

بناء المجتمع المدني الحي المتضامن والمتكافل هو القاعدة الأساس لبناء الدولة الإسلامية أو الدولة الحديثة بهيكليتها ومؤسساتها والقائمين عليها .

المجتمع الحي المتضامن المتكافل على ما يكون بين أعضائه من اختلافات هو الطريق إلى الدولة الحديثة التي نريد وإلا فلا تأس على جهد من في البحر يحرثون..

               

* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية