تفرد الترابي

حسدُوا الفتى إذ لم ينالُوا سعْيهُ*** فالقوم أعداءٌ له وخًصُومُ

كضرائر الحسْناءِ قلْن لوجهِها*** حسداً وبغْضاً إنه لدمِيمُ

ليس عجيباً لمثلي أن يبتسم رغم فداحة الفقد الجلل، والحزن المتجدد، على من طوته الغبراء، فقد سعت أقلام موتورة لم تلتهما جذوة الحب لعالم يملأ شعاب القلب بالإعجاب، بأن تزعم أنها قادرة على أن تبسط سلطانها على كل شيء، فتدك معالم صورة حاتلة في حنايا الأفئدة، امتحنت هذه الصورة الخالدة بطائفة من الحوادث، وتكلفت ضروباً من العنت، حتى تؤطر لنا طريقاً نسلكه يفضي بنا إلي الرقي والفوز، ويجنبنا التخلف والهلاك، لقد تخيرت هذه الأقلام من الألفاظ أضخمها، ومن المعاني أشدها عنفاً، حتى ننصرف عمن مضى وتركنا ذاهلين، ننصرف عن ظاهرة يجب أن نحتفي بها ونقف عندها ونطيل الوقوف، لأنها تستحق الدرس والتحليل، ولأن هذه الظاهرة التي عجمت عودها الأحداث، وفعمت بنيتها الشدائد، كانت تسرف في الجهد، وتغالي في البذل، حتى تظل وتيرة الدين في تطور متصل، ويحيا السود حياة كريمة لا ينالهم فيها شر أو أذى أو اضطهاد، ولكن

لا يعرفُ الشوق إلاّ من يكابدُه*** ولا الصبّابةَ إلا من يُعانيها

يحز في نفسي أن بعض الناس في بلدي ما زالوا يجهلون الراحل كل الجهل، ولا ادري متى سيتاح لهم أن يعرفوا من أحصى مسائل الفكر، ومحّص حقائق التوحيد، واستجلى غوامض التجديد، وخاض عُباب السياسة، ليت شعري متى تتأصل فيهم هذه النزعة التي إذا أخذت حظها من العقول والقلوب، كانت خليقة بأن نصبح أكتر اتفاقاً، وأشدّ التفافاً، وأعظم اصطفافاً، لنهضة وتنمية الوطن، نزعة الإصلاح التي كانت سمة ملازمة للشيخ حتى مماته، فهذه الفضيلة لا ينبغي أن يلام عليها الشيخ المجدد، أو يدان بها، أو يعاقب على خوض معتركها حتى ولو تورط في انقلاب لم أسمع قط ثناء عليه أو تقريظا له، منذ أن حاد عن جادة الصواب، وأطنب طواغيته في الصلف العاتي، والجحود البغيض، لشعبهم ولشيخهم الذي أوصلهم لصولجان الحكم.

الغدرُ في الناسِ شيمة سلفت*** قد طال بين الورى تصرُّفْها

ما كلُّ من قد سرت له نِعمُ*** منك يرى قدرها ويعرفُــــــهــــــــا

بل ربما أعقب الجزاء بـــــــــهـــا*** مضرّةُ عزّ عنك مُصــرِفُــــهـــــــا

واهمٌ أنا إذا سعيت أن أسبر أغوار الترابي المفكر الذي استطاع بحنكته ودرايته بلورة منظومة فكرية متكاملة منفتحة على العالم، منسجمة مع الواقع الذي تعيشه، في هذا المقال الشاحب الحزين، فأفكار الترابي التي سارت في كل صقع وواد، تعتبر لحظة مخاضها مغايرة تماماً للأفكار التي كانت سائدة في تلك الحقبة التي سطعت فيها أفكار سيد قطب وتأويلاتها المتعددة، فقد انبرى الترابي في طرح قضايا لم تكن مألوفة في ذلك العهد، فهو لم يجتر المفاهيم التي كانت تكثر من تداولها النخب المثقفة، على شاكلة " الحاكمية" و"العدالة الإجتماعية" و"القاعدة الصلبة"، لم يطوف الدكتور الترابي حول هذه المفاهيم، بل انخرط في سبك أطر ومعايير لقضايا نجح هو في تدشينها، مثل قضية تجديد الفكر الإسلامي، الذي نعته الدكتور الترابي أفرغ الله عليه سجال رحمته، في كتبه ومحاضراته بأنه فكر موغل في القدم، وأنه جاء استجابة لعصور اندثرت وطوى ذكرها الزمان، ومن المفترض أن يبزغ نجم فكر جديد لا يتنافى مع الواقع، ولا يحتدم مع الثوابت، ودعوة التجديد التي صدع بها الراحل الترابي خالفه فيها في نفر من جهابذة العلم، حينما دعا في جلاء إلي بناء صرح أصولي جديد، وحجته في ذلك أن معظم القواعد الأصولية مرتبطة بالواقع الذي صغيت فيه، وأنها لا تناسب البيئة المادية الإجتماعية والثقافية الحاضرة،كما أنه عبّر في مؤلفاته عن حاجة الأمة  لتفسير يتناغم مع عقلية عصرها، فكل التفاسير التي حاكها السلف تعود إلي المجتمعات التي نشأت فيها، وتكاملت عندها أبنيتها وصياغتها، إن المشروع الفكري للدكتور الترابي أكرم الله مثواه"يقوم على فكرة محورية أساسها تجديد الدين، وهو التجديد القائم على فهم الواقع والتغيرات والتجارب الإنسانية، والتوفيق بين الثابت المطلق، والمتغير النسبي، وللترابي جملة من الآراء الفكرية والفتاوي الفقهية تجعله في نظر البعض أقرب للفكر العلماني منه إلي الفكر الأصولي السلفي الذي دائماً ما ينسب إليه"

شيء آخر يزيد من ألق ونضار حياة الترابي الحافلة بالأحداث والخطوب، يتمثل في انخراطه في العمل السياسي منذ أن كان في أفرة الشباب وعنفوانه، فالسياسة التي يعد الدكتور من دهاتها وأساطينها كان يعتبرها جزءاً أصيلاً لا يتجزأ من المشروع الإسلامي الذي يجب أن تتبناه جل الحركات الإسلامية بمختلف تسمياتها، فقد كان  ينشد من خلالها الدعوة والبلاغ والتمكين لشرع الله، في ظل تلك الدولة التي تتحرك من أجل دفع عجلة الرقي والتطور في شتى المناحي، وكافة المجالات، وفقاً لرؤى الدين الخاتم، والحركة الإسلامية في السودان التي استلهمت مرجعيتها من فكر الدكتور الترابي رحمه الله، نجحت في تحقيق الهدف الذي شّبت في كنفه، وتحركت في اطاره، فقد استحوذت على سدة الحكم منذ عقدين ونيف، وذلك بالانقلاب على الشرعية الديمقراطية وأخذ الحكم عنوة، هاهي الان قد ألقت بنفسها على الوسائد تبكي وتتنتحب بعد أن اصطفى الله الشيخ لجواره، ندماً على القهر والظلم الذي ألحقته به، فقد  كانت جريرة الأب الحاني تتمثل في حرصه على استئناف حياة الطهر والنهوض بوطن تركض فيه المصائب، وتتسابق إليه النكبات، والتمكين لشريعة أبطلها من هدهم الغلول.

توق الأذى من كل رذل وساقطٍ *** فكم قد تــــــــــــــأذّى بالأراذل ســـــــيـــــدُ

ألم تــــرَ أنّ الليــث تــــــؤذيه بــــــقــــــــــــة *** ويأخُذُ مــــــن حـــد المـــــُهنّدِ مِـــــــبــــــــــــــردُ

رحم الله من بُوّئ جدثه، وأجِنّ في رمسِه، الدكتور الترابي، وأمطر على ضريجه سحائب الرضوان.

وسوم: العدد 659