الإسلاميون في مواجهة الغلو ( التطرف )

الغلو ( التطرف )، حالة تيه، في عالم يموج بالشرور.

الغلو، طغيان، يصيب الفرد، ويعتدي على الأسرة، ويضيع المجتمع، ويخسف بالحياة.

الغلو، لا يعرف الصفاء، ولا الأنس بالخير، بل كدر كله، وضياع وإحن. 

الغلو، ليس من الحق في شيء، ولا اقترب منه، ولا شم رائحته، سبحان الله !! وهل يجتمع الضدان، أو يلتقيان ؟؟

الغلو، مرض ، أوله ثقل، وأوسطه عناء، وآخره هلاك.

الغلو، عدو مبين، يقعد بلا بصر، ويمشي بلا نظر، ويخطو دون حساب السنن،  ويسفك الدم بلا وجل، ويقضي على ساعات الهناءة، بلا وجع قلب.

الغلو صورة من صور الجشع، وبرنامج من برامج الجوع النفسي، لا توقفه إلاً صدمات الواقع وإقعاداته .

الغلو عذاب أليم، وشقاء وبيل، وتعب فظيع، ومكر مربك، وحيرة مذهلة، واضطراب مقيت، وحرمان خطير، وبؤس لافت.

الغلو هدم لا يعرف البناء، ولا يقترب من أسواره، بل يؤثر على أبنية من حوله، بزلزال انطلاقته قل موته، أو قل : قبل نحر نفسه بنفسه . 

الغلو، غلظة، وجفاء، وقسوة، ورهان شر، ومصارعة مع الضمير، وصراع مع الأحاسيس، وانتفاضة في مظاهر الخطأ.

الغلو، خصم الفطرة، يبعث على الضيق، ويدفع نحو زوايا الضيم، ومعالم القهر.

الغلو، ظلم، للنفس، يحملها على عربة المشقة، ويطوف بها في أسواق الحرمان، ويعرضها في معارض العبيد، أليس الغلو، بيعاً للنفس، في حوانيت التسكع الفكري، وشوارع التمرد على صبغة الله ؟

الغلو ، لا يعرف الرحمة، ويمضي في طرائق الوحشية، ويسترسل في أحضان الشيطنة، ويتعارض مع إنسانية الإنسان.

وكيف لا يكون ذلك، وقد حذرنا  منه أيما تحذير، ففي الصحيح من حديث أبي هريرة t قال: قال رسول لله – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم - :  } إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه {. وفي حديث صحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِه :   الْقُطْ لِي حَصًى فَلَقَطْتُ لَهُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَجَعَلَ يَنْفُضُهُنَّ فِي كَفِّهِ، وَيَقُولُ: أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ فَارْمُوا، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ)) وفي الصحيح من حديث، عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( يَا عَبْدَ اللَّهِ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ، وَأَفْطِرْ، وَقُمْ، وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقّاً …))

 

وبعد هذا، علينا أن نلاحظ ما يأتي، وندقق النظر فيه، ونتفكر في معانيه :

1-   من هنا تكون مسؤولية الإسلاميين كبيرة ومهمة ودقيقة، الإسلاميون كل الإسلاميين، وفي المقدمة منهم العلماء، والحركات الإسلامية، والجماعات والجمعيات، ويشمل هذا كذلك المؤسسات الإعلامية والاجتماعية والخيرية والعلمية، بل إذا أردنا نجاح مواجهة الغلو ( التطرف )، لا بد أن يكون هناك تكامل في جهود جميع الإسلاميين العاملين في الساحة، كل ذلك من خلال برامج عمل مشتركة، ومقررات فكرية متفق عليها، وأدوات تعمل، ووسائل تتحرك، وجهود يظهر أثرها بشكل واضح وجلي .

2-   ومن هذه الأشياء التي ينبغي مراعاتها في برامج العمل ما يأتي : - الاهتمام الكبير، بشأن مناهج التربية، والكتب المعتمدة، والترويج لمؤلفات كبار العلماء والمفكرين، من الذين اتسموا بالوسطية والاعتدال والفكر النظيف، المستمد من المصادر الشرعية، والذين يقوم اجتهاده في فقه الدعوة، ووسائل العمل المعاصر، على ثوابت الأمة، وقوانين الشريعة، بلا إفراط ولا تفريط، من أمثال الإمام البنا والعلامة أبي الحسن الندوي، والشيخ الطنطاوي، والعلامة الزرقا ، والدكتور القرضاوي، والدكتور عبد الكريم زيدان، والدكتور مصطفى السباعي، والعلامة السعدي، وغيرهم كثير. – ويبقى الإنسان من أمة الإسلام ضعيفاً، وكل يؤخذ من قوله، ويرد عليه، لذا كان المراجعات المستمرة، من الأمور المطلوبة، ولا يجوز أن تنقطع، ولا يوجد أحد بعد النبيين، فوق النقد.- لذا نعمل على اعتماد مناهج النقد والمراجعة، التي تعمل على التصحيح والنصح وتقويم المسار، لكن بضوابط دقيقة، وأصول علمية، تسد باب الفوضى، وتقطع دابر التعالم، وتؤصل لأدب الخلاف ، حتى لا نقع في عكس ما نريد . – حالة التأسيس لفكر إسلامي، يستوعب النوازل، ويعالج مستجدات الحياة، ويتعامل معها برؤية سديدة، من خلال فقه واقع له أسسه وركائزه المعتمدة، بلا إفراط ولا تفريط . -  العناية بشأن التربية، عناية فائقة، تنتظم أبناء العمل الإسلامي كافة، حتى ينعكس ذلك على جمهور المسلمين، لسد الخلل، وردم الفجوات، ومعالجة النتوءات الخطرة، وتقليم أظافر شيطان التفلسف، فالتربية لها أكبر الأثر، في معالجة هذه المسألة، ولا يجوز أن نغفل عن هذا الجانب، في كل الظروف والأحوال، كما لا يصح في عالم ترتيب برامج العمل، أن تتأخر التربية، ويتقدم سواها، مع ملاحظة لزوم إعطاء كل ذي حق حقه، في مفردات العمل، وقوانين المسار . – الفكر المتوازن، والسلوك المنضبط، من ضروريات التربية السليمة، حتى نتجاوز ظاهرة المنبت، الذي لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى، فإن سر ديمومة الخير، في العمل الإسلامي، والدعوة إلى الله تعالى، تكمن في جملة من الأسباب، منها هذا الذي نذكره، من هنا يمكن القول بشكل قاطع، وصورة أكيدة : إن الغلو ليس له مستقبل، وإن مشاريعه – مهما علت أبنيتها – فإنها آيلة للسقوط حتماً، وهذه سنة من سنن الله تعالى . -  خطبة الجمعة، والدرس، والمحاضرة، والخاطرة، من وسائل، تربية الناس، على وسطية الإسلام . – وبرامج الفضائيات، والوسائل المسموعة، لها أثر كبير في التربية السليمة القويمة. – والكلمة المكتوبة، طائر خير، يطير بجانحي التوازن والانتقال الآمن، حتى يحط رحاله عند كثير من المحطات، ويصل إلى مجموعات مذهلة من الناس، خصوصاً بعد هذا الانفجار المعرفي، الذي جعل الكلمة عابرة للقارات، وبأكثر من سرعة البرق، فالقصيدة تعمل عملها في البناء السليم، وكذا الكتاب، الذي ربما عم نفعه حتى يكون في أكثر بيوت المسلمين، مثل كتاب رياض الصالحين للإمام النووي، ونحن في عصر السرعة، نحتاج إلى المقالات الهادفة، والبوارق المؤثرة، والبوستات الفاعلة، والخواطر المشوقة، والكلمات الجذابة . – من نافلة القول التذكير، بأن الكلام عن الغلو والتطرف، كلام كثير، ويختلط فيه الحابل بالنابل، والحق بالباطل، والصواب بالخطأ، وتنوعت أغراض المتكلمين فيه، وتعددت أهدافهم، وبالذات من أولائك الذين يصطادون بالماء العكر، من أعداء الإسلاميين، بل منهم من هو عدو للإسلام، فمن خلال الحديث عن الغلو والتطرف، يشنع على الإسلاميين عامة، ويسخر من العلماء الربانيين، وينال من الدعاة الناشطين، بل يصل الأمر ببعضهم أن يطعن بالدين والشريعة، ويسخر من أحكام شرعية محكمة، والأمثلة على هذا كثيرة . – وهنا لا بد من التفريق بين نوعين، والتمييز بين منهجين، منهج الربانية في الفكر والحركة، والذي يريد لأبناء الإسلام - وفي المقدمة منهم الدعاة والعاملون للإسلام - أن يكونوا على الجادة، ويسيروا على منهج الضبط الصحيح، في السلوك والعمل، حتى تتحقق فيهم خاصية التوازن، الذي يرضى الله عنه، ويكتب له البقاء، على هدى من شريعة الله، وبين أصحاب الأغراض الذين يتخذون مسألة الحديث عن الغلو، جسر عبور، ليصلوا إلى أغراضهم الخبيثة، وأهدافهم السيئة ، فشتان بين النوعين، وبون شاسع بين المنهجين، وفرق مهول بين الاتجاهين . يقال هذا الكلام، حتى نصحح لبعض الغيورين الذين يتعجلون في الحكم، فلا يفرقوا بين هذا وذاك، ويجعلونهم في سلة واحدة، بصورة من الصور، أو طريقة من الطرائق، بشكل مباشر أو غير مباشر.

3-    لا بد من التنويه، إلى أن الغلو ( التطرف ) له أشكال متنوعة، وصور متشعبة، وألوان متعددة، وروائح متباينة، وطعوم مختلفة، كلها تحتاج إلى معالجة، ولعل الغلو في التكفير، هو أس المصائب، ومنطلق الكوارث في ديوان الغلو، لذا سنفرد له مقالة، في مقال قادم بعون الله تعالى . 

4-   نعم لقد سدت الحركة الإسلامية عامة، ثغرة كبيرة، في مجال مكافحة الغلو، وقامت بجهد طيب، في هذا المجال، وعملت على تكوين جيل ممن يحمل هذا المنهج، ولم تجامل أحداً، في حال ظهور شذوذ في هذا الشأن أو في غيره، لذا كانت رسائل البنا – رحمه الله – ومنها رسالة التعاليم، ومنها على سبيل الخصوص، الأصول العشرين، التي كانت ضوابط في مناهج مكافحة الشطط، ولما رأى الأستاذ الهضيبي – رحمه الله – في فترة من أحلك الفترات، أن السفينة، سارت في مسار مختلف، عزم عزمته الواضحة، فأصدر كتابه النفيس ( دعاة لا قضاة ) . وقل مثل ذلك ما كان يكتبه العلامة محمد الحامد، وكذا الدكتور زيدان، والشيخ القرضاوي، والشيخ الندوي، والشيخ علي الطنطاوي، و الشيخ عبد الكريم الرفاعي، والعلامة السعدي، والشيخ سلمان العودة، والشيخ الصواف، وغيرهم كثير من العاملين للإسلام.

اليوم نرى بعض فراغ، يتسلل من خلال نوافذه، من يحرف العربة، ويحاول تغيير الطريق، ويتلاعب بأفانين القول، لدفع الأفكار، في زوايا الظلام، وخنادق العبث والويل ، فلا بد من جهود جديدة، وبأساليب مختلفة، حتى يسد هذا الفراغ، ولا يصح أن تترك، مساحة الفكر والعمل، لغير الراسخين في العلم، بل الأمانة كبيرة ، في رقبة العدول من أهل العلم والدعوة، ورثة الأنبياء، الذين ينفون تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين .   

وسوم: العدد 668