عاصمة العالم

clip_image002_6f0ea.jpg

clip_image004_e29ac.jpg

نقل أهل التاريخ على لسان القائد الفرنسي نابليون بونابرت: "لو كان العالم دولة واحدة لكانت القسطنطينية عاصمتها"، هكذا استشعر القائد المحنك صاحب الطموحات الأسطوريَة أهمية -اسطنبول- وجعلها عاصمةً أممية للعالم أجمع، هذه الكلمات قيلت والمدينة قد فُتحت منذ مئات السنين من قبل العثمانيين وأضحت إسلامبول -أي شعار الإسلام-، مدينة تزينها المآذن ويرتفع فيها أصوات التكبير ولا تجد حيًّا من أحيائها إلا وهو مزدان بمسجد أو مصلى أو مدرسة وسبيل...

موقع اسطنبول المميز وتوسطها لقارات العالم القديم الثلاث وتارخيها الموغل في القدم، جعلها تلك المدينة الخياليَّة التي تتعلق القلوب بها وتتوق لزيارتها، وتجعل منها حلمًا داعب خيال الكثير من الرحالة والمغامرين على مدار التاريخ وحتى يومنا الحاضر، فهي النقطة التي تشكل نقطة الشرق الأهمّ، ومحطة الجذب الأولى والإثراء الحضاري الأرقى..

يعود تاريخ مدينة اسطنبول أو "القسطنطينية" لـ 658 ق.م، وكانت قريةً متواضعةً للصيادين، حتى اتخذها الامبرطور الروماني قسطنطين الأول لتكون حاضرة أساسية للدولة الرومانية بديلًا عن الصخب والبؤس الذي غلب على روما عاصمة الدولة في الغرب، ولم تلبث أن تحولت بعد زمنٍ عاصمةً للدولة الرومانية الشرقية أو ما عرف فيما بعد بالدولة "البيزنطية"، دولة مترامية الأطراف مرهوبة الجانب لها صولات وجولات، بسطت نفوذها على أراضٍ شاسعة وعلى شعوب كثيرة، حتى الفرس لم يستطيعوا وهم في عز جبورتهم كسر شأفتهم وإزالة دولتهم...

ظلت الدولة البيزنطية مسيطرة على الساحل الشامي ومصر وكثير من المناطق الأخرى، حتى خرجت تلك الجموع المؤمنة من رحم الصحراء لهم من النخل الإباء والشمم، فاحتك المسلمون مع البيزنطيين وكان أول اتصال مباشر خلال غزوتي مؤتة وتبوك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تلا ذلك المدّ الجارف في الفتوحات الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين ولم تتوقف أمواجه المباركة إلا على صخرة الرهبان في الأندلس، هذا الاحتكاك المبكر وتلك المساحات الشاسعة التي دخلها الإسلام وقد كانت من قبل تحت سطلة البيزنطيين جعلتهم يلقون بثقلهم لاستعادة ما سقط من أيديهم ولكنهم كسروا في معركة اليرموك ولم يعودوا إلى بلاد الشام بعدها أبدا ...

بدأت محاولات فتح "القسطنطينية" مع دولة الخلافة الأموية، وكانت ثلاث محاولات قاد أولها سفيان بن عوف ومن ثم يزيد بن معاوية ودفن خلال هذا الحصار الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه عند أسوار المدينة، والثانية التي اتخذت شكل المحاولات المتتالية على مدى سبع سنوات تحاصر المدينة في الصيف ويرتد عنها المسلمون في الشتاء، والثالثة بقيادة القائد الشجاع مسلمة بن عبد الملك رحمه الله، والتي دامت سنتين ولم تحقق هدفها لصعوبة المناخ وطبيعة المدينة المنيعة واستخدام البيزنطيين للنار الإغريقية التي شكلت عقبة كؤودة في وجه المسلمين، بعد هذا التهديد بقيت شوكة البيزنطيين قائمة ولم يحدث سوى صراعات محدودة على الحدود بين الدول الاسلامية المتعاقبة والبيزنطيين، اللهم إلا تلك النجدة الأسطورية التي قادها الخليفة المعتصم العباسي الذي هبّ نجدةً لامرأة صرخت بكل حزن وأسى "وا معتصماه" فدك مدينة عموريّة وقال بالفعل لا بالقول لبيك يا أختنا... لبيك....

تطور الاشتباك مع سلاجقة الروم وتضاءل حجم الدولة البيزنطية، واستلمت الدولة العثمانية بعد ظهورها على مسرح التاريخ لواء الجهاد من السلاجقة، واتخذت من "إعلاء كلمة الله" شعارًا ونهجًا، وظهر سلاطين مجاهدون قادوا جحافل المجاهدين وتصدوا للموت بكل بسالة وصدق، وبدأت أوروبا تستشعر الخطر الذي تواجهه، وبدأت "ترتعش" من المسلمين الأتراك، حتى جاء ذلك الشاب العشريني بهمة تناطح السحب، واستطاع تحقيق البشرى النبوية، وفتح القسطنطينية الني ظنّ أصحابها بأنها لا تفتح أبدًا، وجعل هوية المدينة "الإسلام".

ولد السلطان محمد الثاني في 19 رجب 835 هـ / 30 آذار 1432 م، وقد تنازل له والده السلطان مراد بالسلطنة مرتين، مما أكسب محمدًا الفتى والشاب خبراتٍ واسعة وعميقة في الإدارة والحكم كما تمرس بفنون الحرب، وتعلم على أيد كبار العلماء في زمانه أشهرهم الإمامين الكوراني وآق شمس الدين الدمشقي رحمهم الله تعالى، حتى تولى الحكم للمرة الثالثة وعمره 18 عامًا وقيل 21 عامًا، ، وبقي على رأس الدولة العثمانية ثلاثين عامًا مجاهدًا في سبيل الله، رافعًا لواء الدعوة والعدل والحق.

عرف السلطان محمد الفاتح أهمية السيطرة على مضيق البسفور كتمهيدٍ لفتح اسطنبول، فبنى في عام 865 ه/ 1452م قلعةً على الجانب الأوروبي من البوسفور أسماها "روم إلي حصار"، مقابل القلعة على الجانب الآسيوي التي عرفت بـ "أناطولي حصار"، وفي بناء القلعة إبداعات بالوقت والأسلوب مع حجم البناء الهائل. فأشرف العثمانيون على المضيق وتحكموا بحركة مرور السفن، حيث تبرز القلعتين في أضيق نقطة من المضيق، كما أشرف من خلال هذه القلاع على اسطنبول، وشكل هذا العمل بدء الحملة العسكريّة على المدينة.

عمل السلطان على تقوية الجيش واستقدام الخبرات العسكرية التي تحتاجها الدولة الفتيّة، خصوصًا في صناعة المدافع عبر استخدام أحد أمهر صناع المدافع في ذلك العصر والذي يدعى "أوربان"، فأعطاه السلطان الفاتح كل الإمكانيات اللازمة، فصنع له أكبر مدفع حتى ذلك الوقت، أُطلق عليه المدفع السلطاني لأنه أقوى المدافع وأضخمها، واختبر السلطان بنفسه قوة هذه المدافع وعاين نتائجها بشكل مباشر، كما استخدمت في عهده مدافع "الهاون" لأول مرة في التاريخ، ويروى بأن الفاتح ساهم في تصميمها.

خرجت المدافع من مدينة أدرنة في شهر شباط من عام 1453م، ووصلت الجحافل المؤمنة لأسوار المدينة في 18 ربيع الأول 857 ه / 6 نيسان 1453م، بلغ حجم الجيش العثماني قرابة 100 ألف جندي، وقسم الفاتح جيشه لثلاث أقسام رئيسية ووضعها في مواجهة أهم مواضع السور المحيط بالمدينة، آمرًا بوضع المدافع على الهضاب المشرفة، ووضع المدفع السلطاني مقابل أحد أبواب المدينة، الذي تحول بعد الفتح لأشهر أبواب اسطنبول باب المدفع "طوب قبو"، كما استخدم العثمانيون منجنيقًا هائلًا بالإضافة لأربع أبراج متحركة.

لم يكن طريق فتح المدينة ممهدًا، فهي تتمتع بتحصينات عديدة، إضافة لموقعها الطبيعي وإحاطتها من المياه من ثلاث جهات، ومناعة أسوارها من الجهة البرية التي كسرت موجات الجيوش المتتالية، حيث ترتفع الأسوار لـ 17 مترًا، ويبلغ سماكتها عند أعلى نقطة 4 أمتار وتتسع قاعدتها لأكثر من هذا الرقم بكثير، عدى عن الخندق الهائل الذي يحيط بالأسوار. كما ابتكر البيزنطيون وسيلة يمنعون بها المهاجمين من العبور قبالة المدينة عبر البحر، من خلال إغلاق مضيق "القرن الذهبي" بسلسلة ضخمة بين المدينة وميناء "غلطة" مما أبعد العثمانيين عن هذه الخاصرة الرخوة، ولم يستطع الأسطول العثماني إطباق الحصار على القسطنطينية من البحر، كما صدّ البيزنطيون كل هجمات البحريّة العثمانية، ملحقةً بهم خسائر فادحة، وقد شهد السلطان بنفسه واحدةً من هذه المناوشات، مما دفعه للتفكير بوسيلة مبتكرة يتجاوز فيها هذه السلسلة.

لاحت للسلطان فكرةٌ عبقرية، والتي تفوق كل الإمكانات المتاحة حينها، ولكن إرادة المؤمن تتفوق على كل صعوبة وعقبة، كانت الفكرة تتمحور حول نقل السفن عبر الطريق البريّ، فتهادت 67 سفينة عبر تلال ووهاد صعبة التضاريس ومنها ما هو مرتفع شاهق، كما واجهت منحدرات خطرة صعّبت العمليّة وكان خطر تحطم السفن أو إلحاق الضرر بالجنود قائمًا في كل وقت، وقد قضت الخطة بوضع قطعٍ من الخشب مدهونة بالزيت والصابون، ثم جرت السفن بكل قوة متاحة في الجيش من الرجال والدواب، حتى قطعت السفن مسافة ثلاثة أميال وحطت في نهاية المطاف داخل ميناء القرن الذهبي، وكل ذلك خلال ليلةٍ واحدة فقط ودون أن يشعر بها العدو. وهنا كانت المفاجأة الصاعقة، عندما استيقظ سكان القسطنطينية وقد وجدوا سفنهم تحترق والتكبير من الأسطول المسلم يعانق عنان السماء، وبلغت القلوب الحناجر بأن نصر الله قريب. أسطولٌ كامل ينُقل خلال عدة ساعات وبين ليلةٍ وضحاها، هو الإيمان بالله تعالى، والاتكال عليه، وتسخير القدرات المادية والأخذ بالأسباب طريق النجاح بلا ريب.

إضافةً للقصف من البرّ ومن ثم البحر، وإنهاك الحاميات البيزنطية بهجمات متتالية اتخذت الطابع الاستشهادي، استخدم المسلمون طريقة جديدة للحرب النفسيّة، فقد عمدوا لحفر عددٍ من الأنفاق تحت المدينة، وكلما سمع السكان أصوات الطرق من تحت الأرض دبّ الرعب في أفئدتهم، وقد روى بعض المؤرخين أن السكان أصبحوا يمشون كالمجانين في أزقة المدينة من الرعب  الذي أصابهم، وفكرة أن العثمانيين سيظهرون فجأة من باطن الأرض.

بعد 53 يومًا من الحصار والمسلمون لم يتوقفوا عن الفداء والتضحية، أهلت الساعات الأولى من يوم 12 جمادى الأولى 857 ه الـموافق 29 من شهر أيار عام 1453م، أمر السلطان بالهجوم العام على المدينة، وكُثف القصف على أسوارها من جهة وضغط المجاهدون عبر ثلمة في الأسوار فدخل المجاهدون من موقعي "طوب قابي" و "آغري قابي" وأصوات التكبير لا تتوقف,

لم يتوقف السيل المؤمن إلا في منطقة "أقسراي" أمام آيا صوفيا بانتظار السلطان، ومع أن المدينة فتحت عنوة وعشرات الآلاف الذين التجأوا لآية صوفيا، بدت الأخلاق الإسلامية، وروعيت الأحكام الشرعيّة، فلم يُمسَّ أي من السكان بأذى، وأعطي الجميع حريتهم وحقوقهم، فقد أمّنهم السلطان الفاتح على أنفسهم وأموالهم ومنع جنوده من السلب والسبي، ومع أن المدينة بكاملها أصبحت بين يديه لم يأخذ إلا كنيستهم الكبرى "آيا صوفيا" وحولها لمسجد، -وقد أوضحت بعض الكشوفات التاريخية الحديثة بأن السلطان أخذ آيا صوفيا بثمن وعوض المسيحيين عنها- وصلى المسلمون في المسجد أول صلاة جمعة في اسطنبول في آيا صوفيا وقد خطب فيهم الشيخ آق شمس الدين رحمه الله، وانطلق العمل في المدينة لعمارةتها وبناء صروح المجد والحضارة.

ذكرى فتح القسطنطينية تعلمنا دروسًا عديدة نستلها من أغوار هذا الحدث التاريخي الهام، والذي أعده كثيرٌ من أهل التاريخ فيصلًا بين زمنين، وانتهاءً للعصور الوسطى وانطلاقًا لأخرى حديثة، ومن هذه الدروس:

-       دروس التاريخ المتراكمة تؤكد أن الأمة الإسلاميّة بمختلف مكوناتها العربيّة والتركية والفارسية والكردية وغيرها، تتقدم عير التمسك بالأهداف الإسلامية العليا، والقيم المعنوية السامية، فالهزيمة لم تبدأ عسكريةً البتة بل كانت من خلال تخلينا عن الإسلام، مصدر العزة والتفوق الإيماني مع العدو.

-       أهمية الشباب في إحياء الأمة، فالسلطان الفاتح كان في ريعان الشباب وفتح واحدةً من أعظم مدن الدنيا والتاريخ، فالشباب عنصر محرك أساسي، إن أحسنا عملية تصعيده وتثقيفه، فإن وعى وعرف عمل وأبدع.

-       فتح القسطنطينية يؤكد أهمية تراكم العمل وانتظار الثمرة ولو على مدى السنوات الطوال، فالفتح بدأ مع بشرى الرسول صلى الله عليه وسلم وجهود الكثير من القادة والخلفاء حتى توج ذلك الجهد السلطان المثقف العالم محمد بن مراد العثماني.

-       لم يكن فتح القسطنطينية للعثمانيين أو الأتراك فقط، بل كان للأمة بمجموعها، فقد احتفلت فيها دمشق والقاهرة والقدس، وهي صورة لأهمية تكاتف الأمة في الأحداث العظمى.

-       فتح القسطنطينية تجسيد عملي لأهمية الجهاد في حياة الأمة المسلمة، فكلما كانت راياته خفاقة عالية كانت الأمة في صحةٍ وعافية وعندما يغيب لواءه، يضمحل هذا السؤدد ويختفي ألقه.

-       فتح القسطنطينية نموذج شامخ، بأن كل الأطياف في الأمة تشارك في صناعة الحضارة والتاريخ، كانت من العرب أو الكرد أو الترك والبلوش وغيرهم من أهل الإسلام.

فتح القسطنطينية هي البشرى والذكرى المترعة بنماذج سامية رائعة من أبطال المسلمين العظام، مجد هذا الدين العظيم سيعود على أكتاف العاملين الصادقين المخلصين، مهما طغى الطغاة ومهما ران خريفهم سيهل ربيعنا بإذنه تعالى...

مراجع:

-       أحمد آق كوندوز/ سعيد أوزتوك، الدولة العثمانية المجهولة 303 سؤال وجواب توضح حقائق غريبة عن الدولة العثمانية، وقف البحوث العثمانية، تركيا - اسطنبول 2008، ص 117

-       يلماز أوزتونا، تاريخ الدولة العثمانية، مؤسسة فيصل استانبول – تركيا 1988، المجلد الأول ص 131

-       علي محمد الصلابي، الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة- مصر 2001، الطبعة الأولى.

وسوم: العدد 670