مما حدث لبعض الأعيان ورؤوس الناس في رمضان المعظم

د. عبد السلام البسيوني

تعيين فضيلة الشيخ جاد الحق مفتياً لمصر المحروسة:

في رمضان المعظم، من سنة ألف وثلاثمائة وثمانية وتسعين من الهجرة، الموافق لأغسطس سنة ألف وتسعمائة وثمانية وسبعين من الميلاد.

الشيخ جاد الحق بن علي جاد الحق، المصري، الدقهلي، البطراوي، عليه رحمات الله ورضوانه، هو الإمام الأكبر، شيخ الجامع الأزهر، المولود يوم الخميس، الثالث عشر من جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة وألف، الموافق للخامس من إبريل عام سبعة عشر وتسعمائة وألف من الميلاد. وهو الرجل الذي تلقت الأمة تعيينه أول الأمر بشيء من الفتور والانقباض؛ لكونها لم تكن تعرفه، ولم تشهد له من قبل مواقفُه، ثم كتب الله تعالى له القبول، وأرضى عنه عباده - ولا نزكيه على الله تبارك وتعالى - لما سجل من مواقف قوية حمى بها دينه وملته، وبلاده وهويته:

فقد أيد الجهاد الأفغاني – حين كان في إطاره الصحيح، قبل الاقتتال والتنازع الغبيين الآثمين - وكذا الجهاد في البوسنة والشيشان..

ووقف في وجوه المتطرفين العلمانيين، الذين اتَّخذوا من تطرف بعض الشباب ذريعة للهجوم على الإسلام، وضربِ أسسه، وتشويه معالمه..

وتصدى لأفكار هدم الأسرة والإساءة للمرأة، من خلال مؤتمراتٍ لقيطة، كمؤتمر السكان الذي عقد بالقاهرة المحروسة، كما رفض وثيقة مؤتمر المرأة من بكين..

وعارض التطبيع مع الصهيونيين، فأصدر فتوى بعدم جواز زيارة القدس إلا بعد تحريرها، ورفض استقبال الوفود الصهيونية التي حاولت زيارة الأزهر الشريف، وذاقت حلاوة الاختراق أيام خلفه الذي غضبت عليه الأمة!

وقاوم الشيخ رحمه الله تعالى فكرة ملكة جمال النيل، التي أريد بها رد الأمة للهوية الفرعونية الوثنية، والتوسع في عرض اللحم البشري؛ كأنه مجال للمزايدة والاستباحة، كما توسع في إنشاء المعاهد الأزهرية حتى بلغت في عهده خمسة آلاف معهد..

هذا بجانب جهوده العلمية، وآرائه الفقهية التجديدية، التي أهلته ليكون جديراً بمنصبه، ولفتت أنظار العالم الإسلامي لمكانة الشيخ عليه رحمات الله ورضوانه، فكان أن منحته مصر أعلى وسام تمنحه (وشاح النيل) 1983م، في العيد الألفي للأزهر، كما منحه المغرب وسام الكفاءة الفكرية والعلوم من الدرجة الممتازة، وكان تتويج التقدير الكبير للشيخ الكبير بنيله جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام سنة (1416هـ/ 1995م).

 وله مواقف عظيمة نورد منها - كما أوردت إسلام ويب - أنه: كان أول من دعا لعقد مؤتمر إسلامي في الجامع الأزهر عقب صلاة الجمعة لمناصرة شعب البوسنة والهرسك، وحضره عشرات الآلاف من المصلين، ودعا فيه إلى إقامة صلاة الغائب على شهداء المسلمين في البوسنة، وأعلن (رحمه الله) أن مسلمي البوسنة والهرسك لا يحتاجون إلى مجاهدين بقدر حاجتهم إلى المال والسلاح، ودعا المصلين والمسلمين في شتى بقاع العالم للتبرع بالمال في سبيل الله ومناصرة شعب البوسنة.

وكان لفضيلته موقف شجاع في مناصرة المجاهدين في الشيشان، وقدم لهم كل الدعم المالي والمعنوي، وعندما نشبت حرب الشيشان بين الروس والشعب الشيشاني أصدر فضيلته بياناً حول تلك الحرب، حيث أكد أنه لولا تمسك شعب الشيشان بإسلامهم ما حاربهم الدب الروسي.

وقد قدم الإمام الراحل العديد من المنح الدراسية المجانية لأبناء البلدان الإسلامية المستضعفة؛ حتى يعودوا لأوطانهم دعاة للإسلام، وذلك من خلال الدراسة في الأزهر الشريف.

وعندما قرر الكونجرس الأمريكي نقل السفارة الأمريكية إلى القدس أصدر الإمام الراحل بياناً صريحاً وواضحاً، أدان فيه العدوان الصهيوني المستمر على القدس، وأدان فيه القرار الأمريكي،

وقال: (إن أمريكا تزعم أنها صديقة كل العرب، وهي أصدق في صداقتها بإسرائيل تؤيدها، وتدفعها لمزيد من العدوان على العرب وحقوقهم، وتساعدها في وضع العراقيل نحو إتمام عملية السلام التي تتظاهر بدعمها، لكنه دعم غير عادل؛ فهو دعم للمعتدين الظالمين، واستهانة وهدم لقرارات منظمة الأمم المتحدة.

وحرم الذهاب للقدس فقال في فتوى له: إن من يذهب إلى القدس من المسلمين آثم آثم..

والأولى بالمسلمين أن ينأوا عن التوجه إلى القدس؛ حتى تتطهر من دنس المغتصبين اليهود، وتعود إلى أهلها مطمئنة، يرتفع فيها ذكر الله والنداء إلى الصلوات، وعلى كل مسلم أن يعمل بكل جهده من أجل تحرير القدس ومسجدها الأسير).

وكان للإمام الراحل موقف واضح وقوي من التطبيع؛ فقد رفض أن يستقبل الرئيس الإسرائيلي عيزرا وايزمان إبان زيارته للقاهرة، وبعد عقد اتفاقية أوسلو عام 1993م، ما سبب حرجاً شديداً للحكومة المصرية وللرئيس الصهيوني.

كما تصدى الإمام الراحل لقرار وزير التعليم المصري بمنع الحجاب في المدارس المصرية في المرحلة الابتدائية، وضرورة موافقة ولي أمر الطالبة في المرحلة الإعدادية والثانوية على ارتداء ابنته الحجاب، وأصدرت لجنة الفتوى بالأزهر برئاسة الإمام الراحل بياناً أعلنت فيه أن القرار الوزاري يخالف الشريعة الإسلامية ونصوص الدستور..

واستند المحامون المصريون لهذه الفتوى عند التقاضي أمام المحاكم ضد وزير التعليم المصري؛ حتى تم إلغاء هذا القرار، وعاد الوزير إلى رشده بعد حكم القضاء بإلغاء هذا القرار.

واسم جاد الحق اسم مركب من جزأين: جادَ - وهو فعل ماض - والحق هو الله تعالى، وهذه التسميات عادةٌ مصرية تُقصد للبركة والفأل، فهم يلصقون هذا الفعل كثيراً باسم من أسمائه تعالى، فيقولون: جادَ الله، أو جادَ المولى، أو جاد الحق، أو جاد الكريم، أو جاد الرب، يعتبرون المولود شكلاً من أشكال جود الله تبارك وتعالى.

وقد توفِّي الإمام الأكبر جاد الحق علي جاد الحق بنوبة قلبية ألمَّت به.. ترك الدنيا (رحمه الله) ومشاكل الأمة في صدره، وأوراق الأزهر في يده يقلب فيها، ومات متوضأً وهو يشرع لأداء الصلاة في الساعة الواحدة والنصف من صباح يوم الجمعة، حيث شعر بدوار مفاجئ، فجلس على سريره ليستريح، ولكنه فارق الحياة بعد لحظات، وكانت وصيته أن يدفن بجوار مسجده الذي بناه في قريته بطرة، وأن يشهد غسله ويؤم صلاة الجنازة عليه الشيخ محمد متولي الشعراوي، وتم تنفيذ وصية الإمام الراحل، حيث صلى الجنازة عليه الشيخ الشعراوي، الذي نعاه بقوله: لقد تعلمنا منه ألا نعصرن الدين، بل نديِّن العصر، فعصرنة الدين تعني أنه غير كامل حاشا لله.

وحين أصابته الأزمة احتاج إلى أسطوانة أكسجين لم يجدها (!) - كما سمعت مباشرة من الدكتور عمارة في بيت العلامة القرضاوي بالدوحة - ليمضي فيه قدر الله تعالى يوم الجمعة، الموافق الخامس والعشرين من شوال عام ألف وأربعمائة وستة عشر من الهجرة الشريفة، الموافق للخامس عشر من مارس عام ستة وتسعين وتسعمائة وألف، عن عمر يناهز التاسعة والسبعين، فرحمه الله ورضي عنه.

وسوم: العدد 671