تلفزيون السودان..

الطيب عبد الرازق النقر

الطيب عبد الرازق النقر

الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا

[email protected]

نحن ننكر هذا ونراه بعيداً، كما نستبعد أن حكومتنا المشبل سعت أن يعيش هذا المارد صاحب القوة المفرطة في الابتكار والخلق والإبداع، والبصيرة النافذة في تلوين الصور والأفكار والأساليب، حراً كريماً دون أن تملي عليه سياستها، أو تفرض عليه رؤيتها، فهو لم يكابد شيئاً أشد عليه من هذه الشنشنة الخطابية التي تصادم أساسيات الحق المطلق، والأصالة الراسخة، هذه الوصاية هي التي جعلت السواد الأعظم من هذا الشعب يرمق قناته التي لم تزل في مكانها لا تريم بنظرات تضج بالإشفاق والنفور، دعوني أيها السادة أفصح عن دخيلة نفسي من غير مواربة أو التواء، وأطلب من فضائيتنا الفضلى رقة تحببها إلى النفس، وجزالة ترفعها عن الابتذال، وعمق يحيد بها عن السطحية، أريد من صاحبة الخد الأسمر، والفؤاد الأزهر، بسط الحجج والبراهين على ريادتها وتفردها، فالألم يعتصرني وأشعر بوطأة خزي عجيب كلما تذكرت أن الوافد الذي طرأ على محيطنا العربي والإفريقي كنا نحن من أوائل الدول التي احتفت به وأكرمت وفادته في مطلع الستينيات من القرن المنصرم، بل رفدنا قنوات تلفزيونية ناشئة في دول الخليج وغيرها من البلدان العربية، بكوادر تتقد أذهانها في كل حين، وينفتق لسانها في كل لحظة، عن فكرة تملأ شعاب القلب بالإعجاب، هذه الكوادر جادت بأنفس ما لديها ليستقي الناس من ينبوع التلفزيون الزاخر، ليت شعري ما هي العلة التي جعلت قناتنا تصر على أن يظل شعارها لا إله إلا الله دون تكملة الشهادة، بعد أن زالت كل الأسباب والمعيقات التي وقفت عقبة كؤوداً بعد انفصال الجنوب، فالدين الخاتم الذي نشر بنوده، وأفصح عن وجوده، خير من وطئت أقدامه الثرى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، يدين به جلّ هذا الشعب، فحتى متى تظل هذه الشهادة مخدجة ناقصة؟ حتى متى يظل الوعاء الناقل لثقافتنا، والمعبر عن هويتنا، لا يمنح الحياة خصوبة أو غنى؟ وما هو الخطب الذي يكبل وجهنا المشرق، ولساننا المبرق عن السمو والرفعة، ولماذا لم يعد على عادته يوزع تحاياه على ربوعنا ببسماته الرقيقة، ونظراته الحانية الوديعة؟ وما هي الأسباب التي تجعل أقدام مصوريه لا تثبت لهم قدم في أرض، ولا تطمئن لهم نفس في عاصمة؟ جراء سعيهم المضني وراء كل وزير ذلل طريقاً غير مأنوس، وعبّد درباً غير مألوف، ما نريده أيها السادة أن نبصر حشود المصورين تترى إلى الأقاليم بفكرها الثاقب، وبصيرتها النافذة، وليس في معية أصحاب الثناء الدائم، والنشر النامي، والدعاء المتصل، كما هو الحال في الغالب، لتجسد لنا ولغيرنا ثقافات صفا جوهرها، وخلص رونقها، وتتناول عادات لم تنتابها سمة من سمات الهمود، أو يداهمها لون من ألوان الجمود، رغم الآماد الطوال، نريد من التلفزيون القومي أن تنقل لنا عدساته عبق الماضي، وقساوة الحاضر، وقتامة المستقبل، نعم نريد من قبيلة المعدين أن تجري حوارات ممتدة مع من أضرّ بهم الإملاق، وعازهم القوت، تلك الفئات التي لا يحجزها بحر، ولا يحصرها ساحل، والتي عكفت على أعمالها، وصارت جهودها قاصرة على تأمين القوت العصي، حتى لم تعد تشارك في رأي، ولا تحفل بحدث، أما الخلل الذي لا بد أن يسد، والنقص الذي يجب أن يكمل، أن يتحدث موئل حضارتنا، ومعزز كرامتنا، عن حلايب وشلاتين، بصوت ندي، وحجة دامغة، وخاطر حافل، حتى لا تصير هذه الأماكن تبعاً لكل غالب، ويضحى تراثها الثر نهباً لكل غاصب، وليس من المغالاة أن أزعم أن تلفازنا القومي إذا لم يتحدث عن سودانية هذه البقاع لن ينزه نفسه عن مآثم الخيانة، فقمين به أن يتحدث ويسرف في الحديث، ويطيل ويكثر من الإطالة، حتى لا نترك مبرك جملِ، ولا مربط عنز، ولا مجثم حمامة، لمستبد غاشم، ونافذتنا التي نطل بها على العالم حتى يقصدها السود من كل صوب، ويؤمها الغبش من كل صقع، يجب أن تأخذ من كل علم بطرف، وأن تهتم بتنمية وتأهيل كوادرها حتى لا يضاهيهم أحد في سعة المعرفة، وعظمة الإلمام، وقوة اللغة، وغزارة الألفاظ، وعلى الحزب الصمد أن يحرص ألا تكون أرضها فقيرة مجدبة، وأهلها معوزين معدمين، وأن يوطن نفسه على أن يرى منها ما يكره، ويتجرع منها ما لا يستسيغ.