خريطة أستاذي زْبِيدَة

معمر حبار

[email protected]

مقدمة التلميذ: قيمة الأستاذ ومكانته، تكمن في كونه كلّما امتدّ الزمن، وطال العمر، كلّما لمست أثره وتأثيره. ومن بين الأساتذة الذين تربيت في حضن تأثيرهم، وأعتبر نفسي ثمرة من ثمراتهم ، أستاذي زْبِيدَة ، أمدّ الله في عمره.

داخل القسم: يدخل القسم بخطوات ثابتة متأنية، هادئ الطبع، ساكن النفس، يخاطبنا بصوت دافئ، وعلى قدر عقولنا.

 كنا مراهقين يومها في ثانوية العقيد بوقره، بالشرفة، الشلف، مابين سنوات: 1983 – 1986.

الكلّ ينتظر حصّته، ومتشوق لطريقة إلقاء الدرس. وهذه الطريقة في كيفية تقديم المعلومة، عبر مداعبة الخريطة واستنطاقها، هي التي دفعت التلميذ لكتابة هذه الأحرف، بعد عقود ثلاث من الزمن.

يدخل القسم حاملا معه طيلة السنة الدراسية، الخريطة المعنية بالدرس، يعلّقها فوق السّبورة، يخرج كتابه الخاص به باللغة الفرنسية، يضعه فوق الطاولة الأولى، ليبدأ في الشرح والتوضيح.

لم يكن الكتاب مقررا، فالكتب التي كانت تقدّم لنا قديمة جدا، لايمكن للطالب، ناهيك عن الأستاذ أن يعتمد عليها، لذلك كان أستاذي زْبِيدَة، يعتمد على آخر المراجع طباعة ونشرا، ذات الإحصائيات والأرقام الجديدة، التي يتحصّل عليها بمجهودات شخصية شاقة.

مع الخرائط : أول مايبدأ به الدرس هو الخريطة. ونظلّ ساعات مع الخريطة، بل بقينا معها طيلة السنة.

من خلال الخريطة، يبيّن لنا دوما، المناخ وأنواعه، والتضاريس وأشكالها، وكيفية توزيع السكان، وتأثرهم وتأثيرهم، وعلاقات الدولة بجيرانها، وأهمية الدولة وموقعها، ومزايا هذه المنطقة عن تلك، بسبب بعدها أو قربها، من المعادن، والمصانع.

وعلى إثر دراسة الخريطة والتمعن فيها، يتم تحديد مستقبل المنطقة، والمشاكل التي تواجهها، والحلول المقترحة.

وبما أنّه درّسنا التاريخ والجغرافيا معا، كنا ندرس التاريخ من خلال الخريطة، وتصفحها.

فتاريخ الدول والشعوب، وتقلّبها بين سلم وحرب، وتطور وتدهور، كان يتم عبر الخريطة.

وكان أستاذي، يملك قدرة فائقة في ربط الماضي بالحاضر والمستقبل من خلال الخريطة.

ومن خلال الخريطة، نفهم التشابك والترابط، بين.. الجوانب السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والدينية، والنفسية، والعلمية، ونقاط أخرى، أعترف أنها فاتتني، وأنا تلميذ يومها لم يستوعب بعد أستاذه.

وبما أن الدرس كلّه كان منصبا على الخريطة مع إضافة الأرقام والإحصاءات الجديدة، فقد كان الأستاذ نادرا مايكتب،  كمصطلح جديد لانعرفه، أو فكرة تبدو لنا غريبة، أو اسم أجنبي وجدنا صعوبة في نطقه وكتابته.

فالخريطة تجعل منك قليل الكلام، لكنه دقيق صائب، لأن الخريطة الصماء لاتخطىء، لمن يحسن التحدّث معها، ومصاحبتها، ومداعبتها، واستنطاقها برفق.

 

الخريطة أولا.. والخريطة دائما : تعلّم التلميذ من أستاذه زْبِيدَة ، أن يضع الخريطة أمامه لفهم واستيعاب .. كل فكرة، و شخص، و دولة، و حضارة، و نزاع ، وسلم، وتاريخ، ومستقبل، ودين، ودنيا.

فلا يمكنني بعد هذه العقود، أن أناقش أمرا، أو أقبله أو أرده، إلا والخريطة رفيقي، أضعها نصب عيني قبل أن أشرع في أيّ موضوع.

ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال، استبعاد الخريطة في أيّ موضوع يطرح.

وكل جهد يستبعد استعمال الخريطة، فهو لامحالة ناقص أبتر.

وأسعى جاهدا لنقل طريقة أستاذي، لمن حولي من الأصحاب والطلبة وأبنائي.

وأعترف أنني لم أبلغ بعد، شأن أستاذي في ذلك، فقد كان مدرسة في استنطاق الخرائط، وجعلها تنشر دررا بين يديه.

إليك أستاذي زبيدة، هديتي، راجيا أن تقبلها قبولا حسنا.

وأملي أن أكون صادقا في ماكنت أشعر به، منذ عقود ثلاث.

ورجائي، أن تعذرني عن هذا التأخير.