أظرف شيخ عرفته!

د. عبد السلام البسيوني

clip_image001_57ce5.jpg

هو بصراحة صاحب فضل علي، لو لم أقل هذا فسأكون (قليل الأصل) ناكراً للجميل.

أحببته كثيراً - رغم أنني لم ألقه ولم أسعد بمجالسته، وهو أحد الخمسة الكبار الذين تأثرت بطريقتهم في الكتابة، رغم (ألاطتي) في النظر لأساليب الكتّاب، إذ إن قلة يمكن أن تهزني لغتهم، ويطربني أسلوبهم، ومنهم الشيخ الغزالي، والشيخ عبد الرحمن الوكيل، والأستاذ الرافعي – رحمهم الله - وواحدة ست مصرية، أستاذة في الإعلام، ومايسترو في لغتها وطريقة كتابتها، وحُوتاية تدبيج وبلاغة وصياغة صحفية، ومَدْرسِةْ كتابة وفن وهندسة، وحرِّيفة ترقيص بالكلمات، وأروبة تلعيب بالعبارات، ومهندسة تشقيق للأفكار، ومبدعة ابتكار للصياغات، وفنانة هدهدة للمشاعر، وجنية تخطف عقل القارئ وقلبه وقناعاته، بخفة واحدة جمبازاية ظريفة!

والست اللي اسمها سناء البيسي دي هي أستاذة فعلية لِيّه على البعد، رغم أنني لم أقل لها السلام عليكم غير مرة واحدة، ولم أهاتفها غير مرة، ولم أعيِّد عليها مرة، ورغم أنني طلبت من أختنا الرايقة ثريا نافع بتاعة فضاء الجسد أن تبلغها سلاماتي، فكانت (تطَرِّي لي، أو تطنشني) الله يسامحها على كل حال، ويرحمها برحمته الواسعة!

وخامس أساتذتي في الصياغة (بالغين مش بالعين) هو هذا الشيخ التحفة، الجليل، الأديب، الأريب، المبدع: علي الطنطاوي عليه رحمات الله ورضوانه، الذي زاحم بإبداعاته كبار كتاب العرب في مجلة الرسالة وهو في عشرينياته، والذي بقيت لغته في مستوىً واحد من الطلاوة المبهجة، منذ بدأ الكتابة في عقده الثاني، حتى مات في عقده التاسع: الإيقاع نفسه، والمتانة، والطرافة، والفصاحة، والجاذبية ذاتها، ولم أرَ أحداً يشبهه في هذه الخصيصة غير المعلم نزار قباني، الذي لم يتغير أسلوبه مذ كان في العشرين، حتى لقي الرحمن الرحيم!

ولعل أستاذي الطنطاوي هو أهم من وظف الحكاية في طروحاته الفكرية والصحفية والدعوية بشكل واسع، ذكي، شديد الجاذبية! ويعنيني منه هنا ظرفه وخفة دمه، وقدرته على سوق الحكايات بشكل بديع آسر، ومقالبه التي تشبه مقالب اللعِّيب إمام مصطفى! وخذ سيادتك عندك:

يروي في أحد أحاديثه الإذاعية في الخمسينيات من القرن اللي فات:

جاءني مرة (وكنت في عنفوان الشباب أكتب في أوائل كتاباتي في الرسالة عام 1933م) ثلاثة من الغرباء عن البلد، لم يعجبني شكلهم، ولم يطربني قولهم، فوقفت على الباب أنظر إليهم، فأرى الشكل يدل على أنهم غلاظ، وينظرون إليّ فيرون فيّ (ولداً)، فقالوا هذه دار فضيلة الشيخ الطنطاوي؟

قلت كارهاً: نعم.

فقالوا: الوالد هنا؟

قلت: لا، قالوا: فأين نلقاه؟

قلت: في مقبرة الدحداح، على الطريق المحاذي للنهر من جهة الجنوب.

قالوا: يزور أمواته؟

قلت: لا. قالوا: إذن؟

قلت: هو الذي يزار!

فصرخ أحدهم في وجهي صرخة أرعبتني وقال: مات؟ كيف مات؟

قلت: جاء أجله فمات!

قالوا: عظم الله أجركم، إنا لله وإنا إليه راجعون، يا خسارة الأدب.

قلت: إن والدي كان من أهل العلم ولكن لم يكن أديباً!

قالوا: مسكين! أنت لا تعرف أباك. وانصرفوا.

وأغلقت الباب، وطفقت أضحك وحدي مثل المجانين، وحسبت المسألة قد انتهت، فما راعني العشية إلا الناس يتوافدون عليّ فأستقبلهم، فيجلسون صامتين إن كانوا لا يعرفون شخصي، ومن عرفني ضحك، وقال: ما هذه النكتة السخيفة؟

قلت: أي نكتة؟

فأخرج أحدهم الجريدة وقال: هذه؟ هل تتجاهل؟

فأخذتها وإذا فيها نعي الكاتب الـــــ ..... كذا وكذا.. علي الطنطاوي!

ومن حكاياته الإذاعية أيضاً:

كنت أعمل مدرساً في العراق سنة 1963م ثم نقلت من بغداد إلى البصرة؛ إثر خصومة بيني وبين مفتش دخل الصف فسمع الدرس، فلما خرج (نافق) لي فقال: إنه معجب بكتاباتي وفضلي، و(نافقت) له فقلت: إني مكبر فضله وأدبه، وأنا لم أسمع اسمه من قبل..

ثم شرع ينتقد درسي فقلت: ومن أنت يا هذا؟ وقال لي وقلت له.. وكان مشهداً طريفاً أمام التلاميذ، رأوا فيه مثلاً أعلى من (تفاهم) أخوين، وصورة من تهذيب الأخلاق، ثم كتبت عنه مقالة كسرت بها ظهره، فاستقال و(طار) إلى بلده، ونقلت أنا عقوبة إلى البصرة.

في أوائل حياته العملية نقل إلى مدرسة بالبصرة (العراق) ليحصل منه هذا الموقف الطريف.. يقول:

وصلت المدرسة بالبصرة، ونظرت إلى لوحة البرنامج، ورأيت أن الساعة لدرس الأدب، فتوجهت إلى الصف، من غير أن أكلم أحداً، أو أعرفه بنفسي.

فلما دنوت من باب الصف وجدت كهلاً بغداديّاً على أبواب التقاعد، يخطب التلاميذ يودعهم ويوصيهم (كرماً منه) بخلفه الأستاذ الطنطاوي، ويقول هذا وهذا، ويمدحني فقلت: إنها مناسبة طيبة لأمدحه أنا أيضاً وأثني عليه، ونسيت أني حاسر الرأس، وأني من الحر أحمل معطفي على ساعدي، وأمشي بالقميص وبالأكمام القصار (وكان هذا أكبر أشكال الصياعة وقلة الأدب في هاتيك الأيام) فقرعت الباب قرعاً خفيفاً، وجئت أدخل؛ فالتفت إلي وصاح:

إيه زُمَال! وين فايت؟ (والزمال الحمار في لغة البغداديين)!

فنظرت لنفسي هل أذناي طويلتان؟ هل لي ذيل؟

فقال: شنو ما تفتِهم (تفهم) أما زمّال صحيح، وانطلق بـــــ(منولوج) طويل فيه من ألوان الشتائم ما لا أعرفه، وأنا أسمع مبتسماً. ثم قال:

تعال نشوف تلاميذ آخر زمان، وقَّف احكِ شو تعرف عن البحتري، حتى تعرف أنك زمال واللا لأ؟

وقفت وتكلمت كلاماً هادئاً متسلسلاً، بلهجة حلوة، ولغة فصيحة، وبحثت وحللت، وسردت الشواهد وشرحتها، وقابلت بينه وبين أبي تمام، وبالاختصار ألقيت درساً يلقيه مثلي، والطلاب ينظرون مشدودين، ممتدة أعناقهم، محبوسة أنفاسهم، والمدرس المسكين قد نزل عن كرسيه، وانتصب أمامي، وعيناه تكادان تخرجان من محجريهما من الدهشة، ولا يملك أن ينطق، ولا أنظر إليه كأني لا أراه، حتى قرع الجرس.. قال: من أنت؟ ما اسمك؟

قلت: علي الطنطاوي!

وأدع للسامعين الكرام أن يتصوروا موقفه.

ويروي من طرائفه الإذاعية أيضاً:

كان لي ابن عم من أوائل الذين تخرجوا من كلية الطب في دمشق، تنقل في البلاد ثم استقر في دُوما، وأنا قاضٍ فيها، وكان يأتيه بعض المرضى من البدو النازلين حولها، فجاءه مرة ثلاثة من الشباب بأم عجوز كبيرة السن، لا تكاد تقدر على المشي، ففحصها وعرف مرضها، ولم يكن في دُوما يومئذٍ صيدلية، فركّب لها شراباً، ووضعه في قارورة أحكم إغلاقها، ودفعها إلى الشباب، وقال لهم:

تأخذ منها ملعقة كل ساعتين، على أن تخضوها قبل أن تشرب الدواء منها..

ومرت الأيام فسمع وهو في عيادته صراخاً من الشارع: آه آه آه يا دكتور! وتبين منه صوت العجوز التي فحصها، فخرج ينظر - وكانت قد وصلت إلى العيادة فقالت العجوز: آه آه يا دكتور؛ ما استفدت شيئاً من هذا الدواء؛ لقد أهلكوني من الخض!

الشباب (يعطيهم العافية) ظنوا أن الواجب خض الأم لا الدواء.. فكان أحدهم يمسك بيديها والآخر برجليها، ثم يهزانها، ويشدانها، ويخضانها خضاً، قبل أن تأخذ الدواء، حتى ذهبوا بالبقية الباقية من جَلَدها.

وعن ضبطية قضائية شارك فيها يحكي رحمه الله فيقول بأسلوبه الشائق:

ذهبنا يوماً إلى كشف على مسكن، في طرَف دمشق، وكان معي في السيارة كاتب المحكمة، والزوجة وزوجها، فلما وصلنا، جاء عسكري قريب للزوجة، فأراد أن يتدخل فمنعته، وكان للعسكري أيام الفرنسيين بعض الرهبة في قلوب الناس، فلما ابتعدنا راجعين قال الزوج:

أنا سكت عنه إكراماً لكَ - أي لي أنا - ولولاك (لمصعت) رقبته.

فقلت للسائق: قف، فوقف، وقلت للزوج:

أنا لم أر في عمري رجلاً (يمصع) رقبة آخر، وأحب أن أرى هذا المشهد، ولا يضرني أن أنتظر، فسأدعوه لك حتى تصنع به ما تريد، وفتحت نافذة السيارة ومددت رأسي فناديت العسكري.

وهنالك تبخرت حماسة هذا الرجل، وضاعت جرأته، وهربت شجاعته، وجعل يقول: أرجوك، أرجوك يا سيدي. أُقبِّل يدك. سامحني، لا توقعني معه في ورطة، وأنا ساكت لا أقول شيئاً، حتى وصل العسكري، وصار لون وجه الرجل بلون قشرة الليمون، فقلت للعسكري: يبدو عليك أنك رجل خير، ومن يعمل خيراً يكافئه الله.

فاذهب وحاول أن تصلح بينهما، أو الحقنا إلى المحكمة؛ لعلك توفق بإقناع قريبتك وزوجها لإزالة الخلاف بينهما، ولحقنا، وتم الصلح بينهما.

أما الرجل فما صدق أنه خلص من هذه الورطة، وأحسب أنه لم يعد إلى هذه العنترية الفارغة. والعوام عندنا في الشام يقولون: إن من يهدد لا يفعل، والذي يفعل حقيقة لا يهدد!

ويرسم لنا صورة كاريكاتورية طريفة أخرى فيقول:

قال لي صديق من زملائي في المحكمة:

كنت أمس وراء مكتبي، فسمعت صوتاً هائلًا له رنين وصدى، كأنه صوت رجل ينادي من قعر بئر، أو يصرخ في الحمام، يقول: السلام عليكم.

فرفعت رأسي فإذا أمام وجهي بطن رجل، وكأنه بطن فرس ضخم من أفراس البحر، أما رأسه فكان في نصف المسافة بيني وبين السقف، ومدّ إليّ يداً كالمخاطب يصافحني، ثم عمد إلى أكبر مقعد في الغرفة فحاول أن يدخل نفسه فيه فلم يستطع، فلبث واقفاً، وعرض حاجته، وهي دعوة إلى اجتماع للمصالحة بين أخوين من إخواننا، ولم يكن من عادتي إجابة مثل هذه الدعوة، وهممت بالرفض، لولا أني قست بعيني طول الرجل وعرضه، وعمقه وارتفاعه، وآثرت السلامة، ووعدته.

قال: أين نلتقي؟ فخفت أن أدله على الدار فيدخل فلا أستطيع إخراجه، فقلت له: هنا الساعة الثالثة بالضبط. قال: نعم، وولى ذاهباً، كأنه عمارة تمشي.

وجئت في الموعد، فوجدت المحكمة مغلقة، وقد نسيت أن أحمل المفتاح، فوقفت على الباب، والناس ينظرون إليّ، فمن عرفني أقبل يسألني، فأضطر لأن أشرح له القصة، ومن كان لا يعرفني، حسبني أحد أرباب الدعاوى، فقال: (ما فيها أحد، سكرت المحكمة) فلا أرد عليه، وأنا واقف أتململ من الضجر، أرفع رجلاً وأضع أخرى، وأقبل مرة وأدبر مرة، أنظر من هنا وهناك، فكلما رأيت من بعيد شيئاً كبيراً أحسبه صاحبي، فإذا اقترب رأيت جملاً عليه حطب، أو حماراً فوقه تبن، أو تاجراً من تجار الحرب الذين انتفخوا من كثرة ما أكلوا من أموال الناس؛ حتى مضت نصف ساعة، وأحسست النار تمشي في عروقي، غضباً منه ومن نفسي أن لنت، ولطفت به.

وذهبت إلى الدار وأنا مصدوع الرأس، مهيج الأعصاب، فألقيت بنفسي على الفراش؛ فلم أكد أستقر لحظة، حتى سمعت رجة ظننت معها أن قد زلزلت الأرض بنا، أو تفجرت من حولنا قنبلة، وإذا أنا بصاحبي الضخم، قد فتحت له الخادم، فراعها أن رأت فيه فيلاً يمشي على رجلين، فأدخلته عليّ بلا استئذان، وولت هاربة تحدث من في الدار حديث هذه الهولة المرعبة.

ونفخ الرجل من التعب كأنه قاطرة قديمة من قاطرات القرن التاسع عشر، التي لا تزال تمشي بين دمشق وبيروت، وألقى بنفسه على طرف السرير، فطقطق من تحته الحديد وانحنى، وأخرج منديلاً كأنه ملحفة، ومسح به هذه الكرة المركبة بين كتفيه، وقال:

- هيك يا سيدنا؟ ما بنتنظر شوية؟ شو صار؟ حمل الحج؟ سارت الباخرة؟ الإنسان مسير لا مخير، والغائب عذره معه، والكريم مسامح، وعدنا وعد شرقي؟

قال الصديق وهو يحدثني: فلما سمعت هذه الكلمة وقفت عندها، أفكر فيها، ثم جئت إليك أقترح عليك أن تكتب عنها.

وعد شرقي؟ أليس عجيباً أن صار اسم (الوعد الشرقي) علماً على الوعود الكاذبة، واسم (الوعد الغربي) علماً على الوعد الصادق؟.

آه يا أستاذي على البعد، يا فقيه الأدباء وأديب الفقهاء، عليك رحمات الله ورضوانه!

وسوم: العدد 692