أحلام الشيخوخة!

1

رأيته في الحلم ينتزعني من حضن أمي . كنت في الثامنة ولكني رأيت حجمي ضئيلا للغاية . يشبه حجم قطة صغيرة . ثم رأيتني في الوحدة الصحية بالقرية الكبيرة المجاورة . كنا نسميها المستشفى وأحيانا " المجانة " أي التي تعالج المرضى مجانا . كانت معي إحدى قريباتي تمسك بيدي ، وباليد الأخرى ولدا من حارتنا غاب عني شكله ، واسمه . وقفنا في باحة الوحدة وسط الزحام . رجال ونساء وأطفال ورضع . غابة من الصياح والصراخ والأصوات العالية كأنه يوم الحشر ..

قلت لقريبتي:

-         كيف سنصل إلى شباك صرف الدواء؟

ضغطت يدي ، وقالت :

-         اصبر . سنصل إن شاء الله !

أخذنا نناضل الناس ونخترق الزحام حتى وصلنا إلى الشباك الزجاجي الذي تحميه شبكة حديدية قوية ، وبها فتحة مستطيلة في الأسفل يوزع منها الدواء . كانت الأيدي الممدودة نحو الشباك كثيرة جدا . لا أعرف كيف استطعنا الحصول على زجاجة الدواء الأسود ؟ هل كانوا يسمونه زرنيخ مع الحديد ؟ ومعها قطعة من المرهم ، ثم كوبا به شربة زيت الخروع لطرد ديدان الإنكلستوما!

في الشارع الواسع المترب جذبتنا لمة خلق كثيرين أمام قصر الباشا القديم الذي علا أسواره الخارجية نشع المياه . كان هناك جهاز راديو ضخم ، يذيع أخبار الملك السابق والقائد المحبوب محمد نجيب ، ويتحدث عن الضباط الأحرار والعهد الذهب القادم ..

قلت لقريبتي :

-         إني جائع يا خالة .. جائع يا خالة  ..

سحبتني والولد الآخر إلى بيت فلاحي بابه واسع وجدرانه من الطوب اللبن ، ومدخله يمنح الجالس فيه شيئا من الطراوة . جلسنا أمامه ، وجاءت ربة الدار ببعض الأرغفة البيتي وقطعة من الجبن القديم وقطعا من اللفت المخلل وقُلّة من الماء البارد . أكلنا وشربنا وشبعنا ودعونا للمرأة صاحبة الدار .

قلت للخالة :

أنا حاف والأرض ساخنة ولا أستطيع السير في الصهد ، قالت :

-         امش بجانب الحائط . هناك جانب طريّ .

قلت لها : تعبت .. استدارت وقالت : سأنادي على صاحب الحمار القادم هناك ، وأشارت بيدها لتركب معه ..

فجأة وجدتني في مطار فخم يشبه مطار القاهرة . كنت أرتدي حلة فاخرة دون رباط عنق . كان معي بعض المرافقين ، وتقدمنا إلى الجوازات بوثائق السفر لنختمها .

قال الضابط المختص :

-         آسف يا معالي الوزير . لن تستطيع السفر !

بوغتُّ ، وقلت له : لماذا يا بني ؟  إني ذاهب لأوقع اتفاقية بين دولتين !

قال : يؤسفني أن جواز سفرك ملغى ، فقد مضت عليه سبعون سنة !

نظرت حولي لم أجد المرافقين . رأيت عدسات التلفزة والمصورين وميكرفوناتهم تتجه إلي ، وتسالني عن تشكيل الحكومة الجديدة .أحسست بشيء يخنقني ويكتم على أنفاسي ويضغط على صدري وأجفاني .

جاء أذان الفجر لينقذني من العدسات والميكروفونات وهجمات الناس .

تشهدت واستغفرت وقلت اللهم اجعله خيرا !

2

رأيته في الحلم جميلا ومبتسما . وجهه يشع بالضياء والنضارة . كان شابا وسيما تعلو رأسه عمامة شامخة وفوق عينيه نظارة مذهبة لعلها للقراءة . اندفعت إليه مرحبا ومهللا . قال لي : لماذا لم توافني بأعداد الاعتصام .؟ لقد اشتريت المجلة من الباعة الذين حول إدارة الأزهر . حصلت على عشرين نسخة لأوزعها على الضيوف الذين يريدون معرفة رأيي!

قلت له :

-         إن الحاج حسن سيوافيك بخمسين نسخة أخرى .

قال وهو يبدي فرحه بنشر موضوعه :

-         اشكره وقل له :

إن نشر المقال بعد أن رفضت صحف الحكومة نشره يؤكد أن مصر بها علماء دين لا يركعون إلا لله . لقد رفضت ما أرادوا فرضه علينا مخالفا للشرع ..

وتهيأت للثناء عليه ، ولكني لم أجده .. صحت بأعلى صوتي :

-         يا مولانا .. يا فضيلة الإمام . يا دكتور عبد الحليم .. ولكن صوتي غاب في فلاة لا نهاية لها ..

مضيت أبحث عنه وأنا أتلفت يمينا وشمالا لم أجد أحدا ، وصلت شاطئ النيل عند قريتنا ، رأيته قادما مركب ذات شراع . كان يسير فوق الماء ، ولكن وجهه مكفهر، مليء بالغضب وينطلق الشرر من عينيه :

-         كيف تسمحون بمن يلغي خانة الدين في الشهادات المدرسية ؟

حاولت الإجابة ولكني صوتي لم يخرج من حلقي:

-         إنهم ينقضون الإسلام عروة . يطالبونكم بفصل الدين عن الدنيا ، ويجعلونه مادة للتندر والسخرية وأنتم صامتون . ثم يطلبون أن تعيشوا جالية في بلدكم . على فكرة قرأت مقالك " الجالية الإسلامية في مصر" وكنت سعيدا به .

اختفي مرة أخرى ، وكنت أطير من الفرح لأنه قرأ كلامي ؟ حاولت أن أشكره وأحاوره ، ولكني استيقظت لأجد الدنيا حولي صامتة ساكنة ، والليل يرخي سدوله على العالمين .

3

في نومي جاءت خديجة . رأيت وجنتيها محمرتان في لون الطماطم . وضعت يدي على جبينها أحسست بنار الله الموقدة تلسع يدي ، فتقطع قلبي . حملتها على الفور وأسرعت بها إلى المستوصف المجاور ، كنت قويا وفي ريعان الشباب .قالت :

-         يا جدي ، أين عصاك التي تمشي بها ؟

قلت لها :

-         لقد شفيت يا أمي .

قال طبيب له وجه أرنب وصوت قطة :

-         الحرارة 40 ، ويلزم علاج عاجل .

كبرت خديجة ونحن في طريق العودة ، كانت عصاتي في يد، وخديجة في اليد الأخرى . غنت : " يا كتكوت يا صغير .. مالك كدا متحير " .. وضحكت من الأعماق ، قابلتني أمي التي لم أرها منذ ثلاثين عاما فاتحة ذراعيها لحفيدتي ، ورأيت مصعدا في عمارة يحملنا نحن الثلاثة إلى شقة طيبة الهواء ، وجلست أمي على أحد الكراسي تقرأ سورة الفلق .. وكانت خديجة تردد وراءها بصوت ألثغ جميل .  

وسوم: العدد 694