رحلة على طريق النشر الأكاديمي

مقدمة:

عندما تقودك الحياة نحو بوابات السبعين وتبدأ الذاكرة في خذلانك في بعض الحالات، تبدأ سلسلة من التساؤلات الطبيعية في النفوذ إلى إلى عقلك:

• هل آن أوان التقاعد؟

• أليس من حقك أن تمضي أواخر سنوات العمر وأنت مرتاح الجسم والعقل؟

• هل يجب التوقف عن الطموح إلى تقديم أعمال علمية إبداعية جديدة؟

شاءت ظروف الوطن أن أعود للعمل العلمي في امريكا وأنا في مثل هذا العمر بدماغ تتصارع فيه هذه التساؤلات وأجوبتها المتناقضة. تنخفض معنوياتي عندما تنتصر داخلي التساؤلات السلبية وترتفع عندما تنتصر الأفكار الإيجابية. منذ حوالي ستة أشهر ارتفعت معنوياتي عندما اكتشفت عائلة جديدة من مجموعات الكودات المناسبة لمنظومات القفز الترددي في الاتصالات والرادار. أسميت تلك العائلة "كودات كلية هارفي مد Harvey Mudd College" عرفاناً بجميل الكلية التي استضافتني أثناء إجراء البحث. وعندما أطلعت رئيسة القسم على ذلك قالت لي: ستسعى إلى نشرها ..أليس كذلك؟ كان جوابي: بالطبع. وبذا بدأت رحلة جديدة من رحلاتي على مسار النشر الأكاديمي. وهذا ما قد يعتقده البعض أمراً سهلاً بينما هو في الحقيقة أمر معقد للغاية، خصوصاً بالنسبة لشخص مثلي لغته الأم ليست الإنكليزية. أحببت في هذه المقالة ان أشارك أصدقائي الشباب في خبرة مراحل نشر الأوراق العلمية.

هنالك طريقان للنشر وتوثيق أولويتك في اكتشاف العمل الإبداعي. الأول عبر التقديم على براءة إختراع (patent)، والثاني عبر النشر على شكل ورقة بحثية (paper) في مجلة عالمية طيبة السمعة (قد يسبق ذلك النشر في مؤتمر عالمي طيب السمعة حيث غالباً ما يتم بعد ذلك يتم تطوير ورقة المؤتمر الجيدة لتنشر فيما بعد في مجلة).

طريق براءة الاختراع طويل ومكلف لكنه قد يكون مربحاً مادياً في النهاية. قد يمتد طريق الحصول على  براءة الإختراع ليتجاوز ثلاث سنوات. لذا تجنبت هذا المسار خصوصاً وأنني متقدم في السن وأرغب في الحصول على نتائج سريعة. ولجأت إلى طريق النشر في مجلة عالمية طيبة السمعة. لكن هذا الطريق ليس أسهل بكثير من الطريق السابق. ساشرج فيما يلي المراحل التي تجاوزتها على هذا الطريق:

المرحلة الأولى:

تتمثل المرحلة الأولى في صياغة النص الخامي للورقة وإعطائه العنوان المناسب: وهذا ماقمت به بالإنكليزية وأعطيته العنوان التالي:

A NEW FAMILY OF ONE-COINCIDENCE SETS OF SEQUENCES WITH DISPERSED ELEMENTS FOR FREQUENCY HOPPING CDMA SYSTEMS

يمكننا صياغة ذلك العنوان بالعربية كما يلي:

عائلة جديدة من مجموعات التتابعات ذات العناصر غير المتراصة الملائمة لمنظومات القفز الترددي التي تستخدم تقنية التقاسم الكودي.

دعمت ذلك النص بالدوافع ومؤشرات قياس الأداء، موقع البحث العلمي على محور التقدم في هذا المجال، شرح طريقة توليد المجموعات الجديدة وعرض أمثلة على ذلك، وأداء المجموعات الجديد مع التركيز على المواصفات التي تمتلكها هذه الإنشاءات. سردت في هذا المقطع أربع عشر خاصية لتلك المجموعات. وبالطبع يجب ان تنتهي تلك الورقة (paper) بالخلاصة التي تفتح الباب أمام الأبحاث المستقبلية على هذا المحور. كانت تلك الخاصيات الأربع عشر نتيجة ملاحظات حول تجارب حاسوبية أجريتها على تلك المجموعات. وغالباً ماترفض المجلات عالية السمعة نشر مثل هذه الخاصيات مالم تكن مقرونة ببراهين رياضياتية. قسمت تلك الخاصيات إلى ثلاثة أقسام:

• خاصيات بديهية لاتحتاج إلى برهان.

• خاصيات استطعت برهانها، لكن برهان بعضها قد لايكون أنيقاً بما يكفي لإرضاء المحكم الرياضياتي.

• خاصيتين لم أستطع برهانهما.

وهنا شعرت أنني بحاجة إلى شريك ذو خلفية رياضياتية قوية. وهذا ما هو موضح في المرحلة الثانية أدناه.

المرحلة الثانية:

يندر في الأعمال العلمية الإبداعية في مجال الـcoding أن يكون العمل من تأليف شخص واحد، أي عادة ما يكون هنالك أكثر من مؤلف. ترجع تلك الحقيقة إلى أن سوية كتابة الورقة البحثية يجب أن تكون عالية جداً. لنفترض أن الورقة كتبت أساساً من قبل شخص واحد، عندها قد يقوم الشريك بالإسهامات التالية:

• يساعد في سد الفجوات التي فشل المؤلف الأول في تغطيتها. أو على الأقل يطرح أفكاراً قد تساعد المؤلف الأول على برهان ما عجز عن برهانه عندما كان يفكر بمفرده.

• ينبه إلى وجود فجوات لم ينتبه المؤلف الأول إلى وجودها. وهذا أمر طبيعي حيث غالباً ما يكون المؤلف الأول مغسول الدماغ من قبل نفسه. يتمثل غسل الدماغ هذا في ظاهرة عدم مقدرة المؤلف الأول في كثير من الأحوال على رسم خط فاصل بين ما هو موجود في دماغه بخصوص الورقة, وما هو مدون في الورقة.

• يقدم انتقادات لطريقة صياغة هيكلية الورقة.

• إعادة صياغة بعض البراهين وتحويلها إلى براهين أكثر أناقة.

• يكتشف نتائج جديدة لم ينتبه إلى وجودها المؤلف الأول في ورقته الخامية.

• يقدم مقترحات حول مستقبل البحث الذي توثقه الورقة.

• يقدم مقترحات حول المجلة التي ستقدم لها الورقة بغرض النشر.

المرحلة الثالثة:

حاولت إشراك دكتور مهندس يدرس في قسم الرياضيات فلم أفلح حيث انسحب بعد شهرين من تسليمه ورقتي الخام. لجأت إلى رئيس القسم فاقترح المحاولة مع دكتور من قسم الرياضيات في كلية McKenne  المجاورة للكلية التي تستضيفني. كان ذلك البروفيسور Lenny Fukshansky. شرحت له مطلبي وقلت له أن لدي تجربة رائعة مع دكاترة الرياضيات في بريطانيا فوافق على التعاون معي لكنه طلب مهلة شهر لتقييم  الورقة الخام. وبعد حوالي شهر عقدنا جلسة عمل حيث أجبت على بعض تساؤلاته وطلب مني إلقاء محاضرة على دكاترة الرياضيات في تجمع الكليات الخمس، حول منظور المهندسين لهذا النوع من الرياضيات. وهذا ما حصل.

وبعد حوالي شهر أرسل لي إيميل يقول فيه أنه اكتشف خاصية جديدة لتلك المجموعات لم أنتبه أنا لها، لكنه قال أنه لم يستطع إثباتها بعد. كما أخبرني أنه أعاد صياغة الورقة حيث تمت صياغة الخاصيات كلها ضمن ستتة نظريات جزئية (Lemmas). وبعد عدة جلسات مشتركة استطعنا إثبات جميع الخاصيات. وبعد حوار قصير حول المجلة التي سنقدم لها الورقة. استقر الرأي على مجلة إسمها:

Advanced Mathematics of Communications.

وهذا ما حصل فعلاً، خصوصاً وأنها تصدر خلال ثلاثة أشهر قرار القبول، القبول المشروط بإجراء تعديلات، أو الرفض. يندر أن تقبل ورقة مباشرة دون أية تعديلات. إدعوا لنا بتلقي القبول المشروط.

لكن الشيء الجديد في مجال النشر العلمي هو إمكانية نشر ملخص عن الورقة في موقع مخصص بنشر ملخصات الأوراق قبل النشر prepublication. وهذا ما يحل إلى حد كبير مشكلة تأخر الأوراق القلمية في الظهور مقارنة بتاريخ تقديم الزرقة للنشر.

المرحلة الرابعة:

قدمنا الورقة منذ حوالي اسبوعين وننتظر خلال ثلاثة أشهر، آراء وتوصيات المحكمين ورئيس التحرير لنقوم بالرد عليها: توضيحات واستجابات لطلبات إضافية.

ماذا يجب أن يتوقع مؤلف الورقة العلمية من ردود المحكمين:

• نتائج مكررة اقٌترح عدم النشر.

• نتائج أصيلة لكن صياغة الورقة غير متماسكة.

• نتائج أصيلة وصياغة متماسكة... أقترح القبول.

• الخاصية رقم كذا...يمكن إثباتها بطريقة أسهل.

• الحد الوارد في الخاصية رفم كذا يمكن تطويره ليقترب أكثر من الواقع.

• كيف انتقلت من المعادلة رقم سين إلى المعادلة رقم سين + 1.

قد تأتي أراء المحكمين متناقضة عندها يلعب رئيس التحرير دوراً هاماً فيقرر على سبيل المثال مخاطباً المؤلفين:

• استجيبوا فقظ لطلبات المحكم الثاني والثالث.

• يبدوا أن هنالك عدم توافق في آراء المحكمين...أقترح تقديم ورقتكم للمجلة التالية.

وبعد حوالي ثلاثة أشهرمن تاريخ اليوم سأقدم لكم آراء المحكمين ورئيس التحرير كما سأعلمكم عن ردة فعلنا عليها. وسأتابع معكم مايلحق ذلك من مراحل حتى تاريخ صدور عدد المجلة التي تحوي الورقة (إذا قبلت).

مع التحية

وسوم: العدد 707