إشْكَالاتُ الفَهمِ الاستراتيجيِّ

د. حامد بن أحمد الرفاعي

هناكَ عددٌ منَ الإشْكَالاتِ الفكريِّةِ بَاتت تَعتري طَبيعةَ الفَهمِ الاستراتيجيِّ لَلأجيَالِ..ممَّا يُشكلُ خللاً في الرُؤى الفكريِّةِ لَدَى بَعْضِ الجِهَاتِ حولَ بَعْضِ المُصْطَلَحَاتِ وَالمَفَاهِيمِ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلَي:

أولاً-إشْكَاليَّةُ المُؤامَرةِ لَا مِنْ حَيثُ وجُودُها..ولَكنْ مِنْ حَيثُ ظَاهِرَةُ الهَوسِ التَآمُريِّ المُطْلَقِ لِلأحْدَاثِ..فَالمُؤامَرَةُ مَوْجُودَةٌ لَا يُنكِرُهَا إلَّا جَاهِلٌ أوغَافِلٌ..وَفِعْلُها وَأثرُهَا يَرْتَبِطُ بِحَالِ كُلِّ مُجْتَمَعٍ قُوةً وَضَعْفَاً..فَلَا فعْلَ لِلمُؤامَرَةِ مَع أمَةٍ صَحيحَةٍ فِي ذِهْنِها مُتمَاسِكَةٍ في بُنْيَانِها الاجتماعيِّ..وَبِكُلِّ تأكِيدٍ تَنْدَحرُ أمَامَ رُسُوخِ إيمَانِها بِهُويتِها وَرِسَالتِها بِالحَيَاةِ لِقولِه تَعَالَى:" قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ". 

ثانياً-الانغِلَاقُ عَلَى الذَاتِ..مِنْ حَيثُ احتِبَاسُ الكَثِيرِ مِنْ أبنَائِها في زُخْرُفِ المَاضِي المَجِيدِ..وَتَلّهِيهِمُ بِتْردَادِ أخبَارِ عِزْهِم التَلِيدِ.

ثَالِثَاً- ضَعْفُ فَّهْمِ رِسَالَةِ التَجْدِيدِ وَالتَطْويرِ الَتِي أكْدَهَا الإسْلَامُ وَرَغّبَ بِها.

رَابِعَاً- قِلَةُ الجَهدِ المَبْذُولِ فِي اسْتِقْصَاءِ وَاسْتِنْطَاقِ مَخْزُونَاتِ النصِ الدِينيِّ رَغْمَ أنَّهُ نَصٌ مَوسُوعِيُّ المَعَانِي وَالدِلَالَاتِ..وَعَالِي الكَفَاءةِ وَالقُدْرَةِ لِلاسْتِجَابَةِ لِمُتطَلَبَاتِ الزمَانِ وَالمَكَانِ..وَلِلأسفِ فَبَدَل أنْ نَعمَل كَمَا عَمِلَ أسْلَافُنَا..أو بَدَلَ أنْ نَبنِي فَوْقَ مَا بَنوا..نَجِدُ فَرِيقاً مِنْ دَاخِلِ الأمَةِ يُحَاصِرُون قُدْرَاتِها بِمَقُولَتينِ مُقيّدَتِينِ لِتَفعِيلِ طُمُوحَاتِها في الحَيَاةِ.

الأولى مَقُولَةُ:"هلْ لكَ سلفٌ فيمَا تقولُ..؟"كأنَّ المُسلمَ مَحْظُورٌ عَلَيهِ التَفْكِيرُ مِنْ خَارِجِ دَائرَةِ مَا فَكّرَ بِه السَلَفُ مِنْ قَبْلِهِ.

والثَانيَةُ:"بَابُ سَدِ الذَرَائعِ"حيثُ جَعَلَ مِنْهَا البَعْضُ مَحْبِساً يَحُولُ دُونَ تَطبيقِ أحْكَامٍ تَتَعلقُ بِمَصَالِحِ الأفْرَادِ وَالمُجْتَمَعِ بِعِلْةِ خَشْيَةِ المَفْسَدَةِ..بلْ أنَّ بَعضَهم وَسّعَ هَذا البَابَ تَوسِعةً مُفْرِطةً..وَصَنَعَ لَه مَفَاتِيحَ لَا تَفْتَحُ إلَّا بِيَدِه..فَهُو القيِّمُ الأوحَدُ عَلَى خَزَائنِ النُصوصِ..وَهُو المُؤتَمَنُ الوحِيدُ عَلَى فَهمها وَالتَعَامُلِ مَعَ دِلَالَاتِها..يَفْسَحُ مِنْها مَا يَشِاءُ وَيَحْبِسُ مَا يَشَاءُ..فَهُم سَدَنَةُ أبوابِ النُصُوصِ لَا يُنَازِعُهم فيها إلَّا ظَالِمٌ..وَهُنَاكَ فَرِيقٌ آخَرٌ مِنَ المُسْلِمين ذَهَبَ مَذْهَباً آخرَ في التَشَدُدِ وَالانْغِلَاقِ أحْسَبُه الأخْطَرَ فِي حَيَاةِ الأمَةِ..بل هُو الأسُوأ فِي تَدْمِيرِي وَإعَاقَةِ كُلِّ أسْبَابِ اسْتِئنَافِ مَسِيرَتِها الحَضَارِيَّةِ فِي التَارِيخِ المُعَاصِرِ..إنَّهم نَبْتَةٌ خَبِثَةٌ نَكِدَةٌ أحْدَثَتَ فَهْمَاً نَشَازَاً أحْمَقَاً لِلنُصُوصِ الدِينيَّةِ..لَمْ يَأتِ بمثلهِ أحَدٌ مِنَ الأوْلَين وَلَمْ يَقْبَلهُ وَيَرضَى عَنْهُ أحَدٌ مِنَ المُتَأخرِين مِنْ عُلَمَاءِ الأمَةِ وَفُقهائِها وَمُفكِرِيها وَسَاسَتِها..فَكانُوا بِحقٍ الخَوارِجُ الجُددُ..ألَا وَهُم أصْحَابُ نَزْعَةِ تَكْفِيرِ وَتَجريمِ وَاسْتِبَاحَةِ دِمَاءِ وَمُمتَلَكَاتِ مَنْ لَيسوا عَلَى فَهْمِهم وَتَصْورِهم لِقِمِ دِينِ اللهِ وَرِسَالَتِه الربَّانيَّةِ الخَالِدَةِ..وبعدُ:فإنَّ مَا تَقَدَمَ مِنْ مَخَاطِرَ في إشْكَالَاتِ الفَهْمِ لِقِيمِ الإسْلَامِ وَرِسَالَتِه الإنْسَانِيَّةِ السَمْحَةِ..يَضَعُ أجيالَ الأمَةِ مِنْ سَاسَةٍ وَعُلَماءَ وَمُفَكِرين أمَامَ التَحَديّ الأكْبَرِ وَالأصْعَبِ في تَصْحِيحِ المَسَارِ وَاسْتِردَادِ رُشْدِ الأجيَالِ في فَهْمِ قِيَمِ الإسْلَامِ العَظِيمِ.

وسوم: العدد 707