جماعية القرار الفلسطيني ضرورة حياة

يتهاوى الوضع الفلسطيني في متوالية لا تتوقف من أزمة إلى أزمة أشد ، ومن مصيبة إلى مصيبة أخطر وأثقل . ولا خلاف بين من يراقبون هذا الوضع من كتاب رأي وساسة ومحللين ومواطنين في الضفة وغزة أن هذه المتوالية الكارثية بدأت متدرجة ، ومتجهة للتصاعد بقوة ، مع تنفيذ أوسلو  في مايو 1994 الذي بني على وهم فلسطيني كبير قوامه أن الفلسطينيين عبروا مرحلة التحرر إلى مرحلة بناء الدولة ، وهو الوهم الذي دعت حركة الجهاد في نقاطها العشر في العام الماضي إلى وجوب التخلص منه ، والتصرف وفق الواقع الحقيقي القائم ، وهو كوننا في مرحلة التحرر الشاق من قبضة كيان استيطاني عدواني إحلالي . خطأ المفهوم طريق أكيد إلى خطأ الفعل حتى في أقصى حالات حسن النية للمخطىء ، فما الحال إذا ساءت هذه النية ؟! الأزمة الحالية ، أو المصيبة التي تهز الوضع الفلسطيني هي أزمة أو مصيبة رواتب موظفي غزة التابعين للسلطة الفلسطينية ، وتعززها مصيبة وقف تمويل السلطة لكهرباء غزة ، وأبو مازن هدد في واشنطون في اجتماعه مع السفراء العرب بالإقدام على إجراءات غير مسبوقة ومؤلمة نحو غزة ، والتسريبات تلمح إلى ان هذه الإجراءات قد تكون الوقف التام لرواتب موظفي غزة ، وقطع كل علاقة للسلطة بغزة ما لم توافق حماس على انتخابات رئاسية وتشريعية مثلما اشترط أبو مازن أمام السفراء العرب ،  " ومن ينجح في الانتخابات يستلم البلد سواء رئيسا أو مجلسا تشريعيا ..." بعبارته ، وهون شرطه : " نحن لا نطلب المستحيل ... " . وكلامه يوقفنا مباشرة في مواجهة المصدر  الحقيقي للأزمات والمصائب الفلسطينية الحالية ، وهو اتفاق أوسلو ، فهذا الاتفاق صيغ كاملا لمصلحة إسرائيل ، ولم يمنح الفلسطينيين سوى الوهم الذي لبثوا يتقاتلون عليه ثلاثة وعشرين عاما ، وأصح تشخيص لذلك الاتفاق  ما وصفه به شمعون بيريز أبرز عرابيه من الجانب الإسرائيلي بأنه أعظم إنجاز صهيوني بعد قيام إسرائيل ، وبأنه كتب من ألفه إلى يائه بيد إسرائيلية . وهو بهذه الصفة المعيبة القاتلة ما كان ليوصل الفلسطينيين إلا لما هم فيه الآن من انقسام كبير وانكسار لمشروعهم الوطني . ولا نفع من تقاذف الاتهامات والإدانات بين فتح وحماس في شأن أيهما المخطىء، أو المقصر في حق  هذا المشروع ، أو المسبب للانقسام والمعطل للمصالحة . من وقع اتفاق أوسلو يتحمل تبعات متوالياته الكارثية على القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني . كل الأزمات والمصائب الفلسطينية القائمة متولدة منه . أبو مازن يطالب بالاحتكام للشعب في انتخابات تشريعية ورئاسية . أجريت آخر انتخابات تشريعية في يناير 2006 ، وفازت فيها حماس ، فلم وضعت فتح العوائق في طريق توليها الحكومة ؟! وهو ما أفضى في النهاية إلى الانقسام . اتفاق أوسلو لا يصلح لحياة ديمقراطية نابعة من شرعية انتخابية في الضفة وغزة ، يتم فيها تداول السلطة ؛ لأنه صمم لمصلحة إسرائيل أمنيا وسياسيا وليس لمصلحة الشعب الفلسطيني ، وإسرائيل لا تتعامل إلا مع من ينفذ ذلك الاتفاق لمصلحتها ، وبعد فوز حماس قالت إنها ليست لديها مشكلة في التعامل مع حماس إذا التزمت بما التزمت به فتح في ذلك الاتفاق ، وهو ما كانت حماس لتقبله .  وانتخابات جديدة ستدفع بالفلسطينيين إلى أسوأ مما دفعتهم إليه الانتخابات السابقة لسوء الظروف الحالية الكبير قياسا بظروف الانتخابات السابقة ، وحماس أعلنت أنها توافق على انتخابات جديدة شريطة توفير أجواء نزاهتها ، وهو المستحيل الحقيقي الآن ، وأبو مازن يعرف هذا ، وهو لم يشترطها إلا من باب المزايدة والتغطية على إجراءاته نحو غزة . ونرى أن تتوقف السلطة عن تلك الإجراءات  ، وأن تعمل فتح التي تتولى هذه السلطة منفردة مع حماس للملمة الصف الفلسطيني خاصة بعد جنوح حماس في وثيقة مبادئها وسياساتها العامة الجديدة إلى نهج المرحلية في تحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية . هذا الجنوح موجب للتقارب مع فتح وليس لزيادة التقاطع والتخوف من الحلول في تمثيل الفلسطينيين محل منظمة التحرير التي تهيمن عليها فتح ، ولا يمكن تجاهل ما تؤكده الوثيقة في المبدأ التاسع والعشرين منها في هذه الناحية ، وهو أن " منظمة التحرير الفلسطينية إطار وطني للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج يجب المحافظة عليه ... " . ويمكن أن يكون جنوح حماس نحو نهج المرحلية في تحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية عنصر قوة في العمل الفلسطيني إذا أحسن الانتفاع به ، لكن من يحسن الانتفاع في الساحة الفلسطينية الممتلئة بروح الشك ، وشهوة الإقصاء والتخوف على المناصب والمكاسب الشخصية والفصائلية المتفاعلة مع شبكة واسعة معقدة من الارتباطات العربية والإقليمية والدولية ؟! ستكرر فتح ما هو أسوأ وأخطر من خطأ أوسلو إذا تفردت هذه المرة بالقرار في مصير الشعب الفلسطيني ، ولم يبق الكثير للتفرد به ، والوهم بأن ترامب سيصنع حلا فيه أي نفع للشعب الفلسطيني مهما صغر سيكون الضربة القاضية للمصير الفلسطيني . وهو في زيارة أبي مازن لواشنطون لم يتحدث إلا عن " اتفاق سلام " بين الفلسطينيين والإسرائيليين دون إشارة لحل الدولتين ، وسيكون اتفاق السلام هذا جزءا من سلام عربي إسرائيلي شامل ، وستكتبه إسرائيل وإدارة ترامب من ألفه إلى يائه . كل ما يحيط بالوضع الفلسطيني يستوجب جماعية القرار الفلسطيني ، هذه ضرورة حياة . واتخاذ غزة كبش فداء ، ودخان للتغطية على سلسلة الإخفاقات التي جلبها صناع أوسلو وما نتج عن تلك الإخفاقات  من أزمات ومصائب لا يصنع أي جماعية في القرار الفلسطيني .

وسوم: العدد 719