البناء والهدم في الدعوات

clip_image002_a69ef.jpg

بسم الله الرحمن الرحمن الرحيم

وبه أستعين..

فهذه كلمات عن صاحب هذا الكتاب، فيها ما فيها من أشجان، فهي تقف أمام قامة شامخة سامقة في ميدان الدعوة التي كانت وما زالت في عين العاصفة التي تحاول اقتلاعها، ولكن... هيهات.. ففيها رجالٌ رجال، منهم صاحب هذا الكتاب، الأستاذ الدكتور عبد العزيز كامل الذي هو – الكتاب – فيض من فيوضات المؤلف الكريم.

تألمنا لأن صاحب هذا الكتاب الذي يتحدث فيما يتحدث، عن فقه المحنة، وهو ممتحن مع إخوانه في معتقل الطور سنة 1949، لم يقوَ على تحمل ما دعا إليه، ولكننا – نحن شباب الإخوان – لم تطاوعنا ألسنتنا على مسه بكلمة تسوؤه، لأسباب منها:

حبنا الشديد له، وتعلقنا به، لسمعته الطيبة.

ومنها أنه لم يسئ إلى إخوانه وإلى التنظيم الذي رعاه.

ومنها أنه لم ينحرف كما انحرف غيره، ممن كنا نعده من الكبار، فتصاغر حتى صغر أمام بريق الكرسي وما تحت الكرسي وما فوقه، بل بقي مُتزناً. ومنها أن معتقلات العهد الملكي، تعتبر فنادق سيئة، إذا قيست بمعتقلات العهد الثوري الناصري صاحب الأحقاد والتي لا تحدها حدود، على الإسلام، وعلى الجماعة ورجالاتها الميامين، بدءاً من المرشد العام ومكتب الإرشاد، وانتهاء بالمستضعفين من الأخوات وطلبة المدارس والجامعات، ومن فوقهم، ومن دونهم.

لقد كان العهد الناصري الرائد في التعذيب، يعمل فيه خبراء لا ينتمون إلى البشر والإنسانية بأي وشيجة.. كانوا ذئاباً، - وأجدني أعتذر من الذئاب – ضباعاً – خنازير... صفهم بما شئت، أما قلمي، فعاجز عن إيفائهم حقهم.. وقد عذرناه إذ أصابه الوهن البشري أمام تلك المخلوقات التي هي في الدرك الأسفل من الوضاعة والقذارة والإجرام.

لهذه الأسباب ولسواها، أمسكنا ألسنتنا – نحن الشباب – عنه، وكانت الأبحاث التي ضمها هذا الكتاب القيم، تنهانا وتحذرنا وتذكرنا بالنشوة الحزينة التي كانت تنتابنا، ونحن – الصغار – نُحس بمواجع المعذبين في تلك المعتقلات البدائية جداً، والمتخلفة عن التطور الرهيب الذي أحدثه الجلادون التافهون في السجن الحربي (الثوري) وقائده التافه حمزة البسيوني، وحفلات المجرم صلاح نصر الذي كانت حفلة عرسه، زوجة أمر زوجها بتطليقها، فطلقها لينزو عليها من ليس من اسمه أدنى نصيب، وجاء بالراقصة والمغنية لإبهاجه، والحريم الثلاثة: العروس المطلقة منذ دقائق، والراقصة والمغنية تشنفنان الآذان المفتوحة على الخنى، وتملآن العيون الفاجرة، ولكي تكتمل الحفلة، لا بد من وضع شاب من شباب الإخوان في بركة ماؤها مشبع بالأسيد.. وهذا ما روته العروس الني نزا عليها صلاح نصر، وبنى بها في هذا الجو المشحون بالفرح الناصري الفريد من نوعه..

وذكرنا الكتاب بعنوانه الذي ناقشناه طويلاً، فمنّا من أقرَّ العنوان: (البناء والهدم في الدعوات) ومنّا من اعترض قائلاً: الهدم مقدم على البناء.. لا بدّ من الهدم قبل البناء، ودَّم كل من الفريقين حججه والمسوغات..

واستجبنا لتذكير الكتاب لنا، فغضضنا أبصارنا حياء، وقلوبنا ترتجف من هول تلك الأهوال الناصرية الموغلة في إجرامها، فتخرس ألسنتا، وتصرخ بنا ضمائرنا:

- هل كنتم تصبرون؟

حتى ل كنتم كباراً مثل صاحب هذا الكتاب، هل كنتم تصبرون؟

ثم إن القلوب بين أُصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء... فلا يتطاول متطاول على المفكر الداعية الدكتور عبد العزيز، العالم الذي كان يعمل بما يعلم، وكان يرسل تجاربه في الآفاق، وقد أفدنا منها علماً وخبرة وتجارب أعانتنا على تحمل الأغلال والسياط والجوع والعزل عن الحياة، في العهد الأسدي الرجيم، فيما استقبلنا في عهود الطواغيت الذين رضعوا من أثداء أوحش الوحوش.

الدكتور عبد العزيز الذي كان رئيس قسم الدعوة في جماعة الإخوان المسلمين، والذين تخرجوا على يديه آلاف مؤلفة، في سائر البلاد التي انتهت إليها دعوة الإخوان، ولقد رأيناه في محنته الأولى أيام العهد الملكي، وهو أقوى قوة، وأمضى عزيمة، وكذلك كان في العهد الناصري المشؤوم الذي كان يتربص بالجماعة ورجالاتها المتميزين، ويحاول عزلهم عن الإخوان وعن الحياة، ترغيباً وترهيباً، إن لم يجد الترغيب، وضعف من ضعف، وصبر وصابر رجالٌ ونساء وشباب من الجنسين، كالبطلة زينب الغزالي، رحمها الله رحمة واسعة، بما جاهدت، وصبرت وصابرت، هؤلاء صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه تحت التعذيب، والموت صبراً، والقتل غدراً، ومنهم من ينتظر، وأحسب صاحب هذا المفكر المتألق، الدكتور عبد العزيز من الذين صدقوا وقد قرأت الكثير عن تاريخ الإخوان في مصر، وعن المحنة الشديدة القسوة في العهد الناصري المشؤوم، فلم تقع عيني على ضعفٍ أدى إلى خيانة عند الأخ الكبير عبد العزيز كامل، رحمه الله رحمة واسعة، لأنه – وهو الخبير بما يريده الطغاة من تقديمه وتسليمه الوزارة وما شابهها – كان يعي أنه وإن زلت به قدمه في مهادنة الطغاة، وعدم التصدي (لسونامي) التعذيب الرهيب، والتنكيل برجال الدعوة، ولكنه نجح في تصديه للإغراءات التي كانت كالتعذيب الذي يلقاه إخوانه وتلاميذه الكثر، بل أشدّ، وكم أغرى شياطين السلطة من رجال كبار، استزلوهم بما ألقوا بين أيديهم وتحت أرجلهم من زخرف الحياة الدنيا، فما أعرضوا عنها، كما فعل الفهيم الخبير المستقيم عبد العزيز، الذي داسها بكلتا قدميه، وأعرض عن موبقات الطغاة، ومرّر محنة الإغراء بهدوء وذكاء، ومن يقوى على التصدي لهذه المحنة التي أذلت رقاب الكثير من الرجال، ولكن لم تُزلَّ له قدماً، ولم تذل له عنقاً..

واستمر في شموخه الذي أوقف شياطين الغواية عند حدودهم، ولم يشتطوا معه، وقالوا لأسيادهم: - والأسياد هم الذئاب -: فشلنا مع الرجل، فهو عصيٌ على المغريات والزخرف والمتع، وأجابهم الأسياد: لا عليكم، فنحن أعرف به منكم.

ألا لا يتجنَّ المتجنون على عبد العزيز، فقد كان في محنته مستقيماً كما أُمر، وبعد أن مرت العاصفة التي اقتلعت من اقتلعت بعصفها الذي استمر دهراً.. أجل.. دهراً، فكل ساعة من ساعات ذلك العهد المشؤوم المجنون لسنوات، ومن ذاق عرف.

وبعد هلاك العبد الخاسر، رجع الأستاذ الجامعي إلى جامعته، ثم غادر مصر إلى الكويت، وعرف العقلاء والمنصفون عبد العزيز، فانهالت عليه الجوائز من هنا وهناك، واستمر الأستاذ في بناء الرجال، فكان له تلاميذ نجباء مُجدُّون، وقدّم للناس مقالات وكتباً تنبئ عن وعيه العميق لزمانه، وفهمه الدقيق للقرآن والإسلام، فالمصحف الذي وجده أمامه منذ محنته الأولى، نابضاً ساخناً، كل آية فيه طاقة تشرف منها على عالم حرب من الكفاح والبلاء.. القرآن الذي رآه أمامه عملاً عملاقاً ضخماً يعبر التاريخ، حاملاً مشعل النور، رافعاً أفواج المجاهدين، هذا القرآن العظيم ما زايله، بل بقي أمامه كتاب حياة، يلقي التبعات التي يلقيهاعلى كواهل أتباعه المؤمنين به، وعَلِمَ – بحق – ارتفاع القمة التي يدعوهم إليها، وهو في الطليعة بين أولئك الأحرار الأبرار الذين ساروا في الطريق الذي رسمه لهم قرآنهم، دستورهم، وأبصارهم تنظر بنور الله وكتابه المبين، فلم يعبؤوا بصخور الطريق، وعصف العواصف الهُوج، محافظين على الغاية التي تغيّوها، كل همهم أن يصلوا، وقد وصل منهم من وصل، وليسوا كثرة، وفي الطليعة عبد العزيز.

عبد العزيز.. أيها الجبل الأشمّ...

نم قرير العين في الخالدين..

وسوم: العدد 719