عمالقة العصور!

العملقَة أنواع ، ودرجاتها كثيرة ، وأصنافها شتّى ، ويتوزّع عليها العمالقة ، كلّ حسب طبيعته وملكاته ومؤهلاته ! ولن نحصيها كلها.. حسْبنا منها نماذج ، تعبّرعن شرائح واسعة ، من البشر ، الساسة ، وغيرهم ! فمِن أهمّ أنواع العمالقة ، وأعظمهم قيمة ، وأثراً وخطراً :

عمالقة التضحية والإيثار: هؤلاء عمالقة عظماء ! ومن أروع مظاهر عظمتهم ، أنهم لايعرفون مقدار عظمتهم ! ربّما كان كل منهم يعلم أنه عظيم ، لكنه لايعرف مقدار العظمة لديه ! وهم اصناف ، منهم :

الذين يتركون عيوبهم وأخطاءهم وعوراتهم ، غافلين عنها ، أو متغافلين.. ليشغلوا أنفسهم بالحديث عن عيوب الآخرين ، وأخطائهم وعوراتهم ! فهم ، بذلك ، يضحّون بأوقاتهم ، وجهود عقولهم وألسنتهم .. لتبيان مالدى غيرهم من عيوب وأخطاء ، بحاجة إلى إصلاح .. ومن عورات بحاجة إلى ستر.. وهذه إحدى درجات هذا الصنف !

أمّا الدرجة الثانية، الأرقى ، فهي درجة الذين ينشغلون عن عيوبهم، الضخمة جداً، بالحديث عن عيوب الأخرين ، الصغيرة ، أو الصغيرة جداً، أو حتّى التي يتوهّمونها عيوباً، وهي ليست في حقيقتها كذلك .. أو حتّى التي يزعمونها ، عامدين ، عيوباً، أو يلفّقونها، إذا لم يجدوها .. وذلك كي ينشغلوا ، بالحديث عنها ، وعن ضرورة إصلاحها ! وقد يقترح بعضهم ، أساليبَ معينة ، لإصلاحها ! وقد يكفّ بعضهم عن الاهتمام بطرق الإصلاح ، تاركاً مهمّة ذلك ، لأصحاب الشأن أنفسهم ، مكتفياً بالأجر الذي ناله ، من الدلالة على العيب ، وتشخيصه !

وأمّا عناصر الدرجة الثالثة ، من هذا الصنف.. فهم أولئك الذين انشغلوا عن أحوالهم، بأحوال العباد ، وعن أمراضهم وعللهم ، وعاهاتهم النفسية والبدنية ، في أنفسهم وأهليهم.. بأمراض الآخرين وعللهم ، وعاهاتهم النفسية والبدنية ! وقد يكون لدى أحد هؤلاء العمالقة، من العلل والعاهات ، مايحتاج إلى استهلاك عمره كله ، في متابعته والسعي إلى إصلاحه ! فيتركه ، وينشغل بعلّة ، أو عاهة ، بسيطة .. لدى جار، أو صديق ، أو زميل .. يتندّر بها، أو يَسخر من صاحبها الذي ابتلي بها !

ويلحق بهذا الصنف ، صنف المضحّين المتفلسفين ، الذين إذا ذكِّروا بعاهاتهم وعللهم، الخطيرة أو الكبيرة ، التمسوا لأنفسهم أعذاراً بشأنها ، أوهوّنوا من أمرها، وقلّلوا من أهميّتها ، بالقياس إلى ماابتلي به الشخص الذي يتحدّثون عن علته ! أو نَسبوا ما ابتُلوا به، إلى إرادة الله وحكمته وابتلائه .. دون أن يتذكّروا أن من ابتلاهم ، هو من ابتلى صاحبَهم، الذي شَغلوا أنفسهم بالحديث عن ابتلائه ، والتندّر به ! ولاننسى أن نذكّر بأن هذا النوع من العمالقة ، موجود على مرّ العصور، وفي المجتمعات كلها ، بسائر مِللها ونِحلها ودولِها !

عمالقة الإبداع والابتكار ، في مجال تضخيم الذات وتمجيدها :

وهذا النوع يندرج في أصناف شتّى ، كذلك .. منها :

صنف الذين جعلوا همّهم الأول ، في حياتهم ، هو تمجيد ذواتهم ، في كل شيء ، وفي كل حركة ، أو سلوك ، أو كلمة.. وفي كل مجال من مجالات الحياة ، من أكل وشرب، ونوم ومسكن وملبس ، وسفر وإقامة ..!

        بَيدَ أن إحساس أحدهم بعظمة ذاته ، بشكل واضح ، لايتمّ له ، إلاّ إذا هوّن من شأن الآخرين ، ومن أهمّيتهم ، ومن قدرهم .. في أيّ ميدان من ميادين المقارنة ، أو الموازنة ، بينه وبين أيّ منهم ! فحيث ارتفَع هو ، لا بدّ أن ينخفض الآخرون ، وحيث عَـلم ، لابدّ أن يَجهل الآخرون ، وحيث بَرز ذكاؤه وحصافته ، لابدّ أن يبرز غباء الآخرين وحماقتهم !

 ويندرج في هذا الصنف ، صنف الذين صَرفوا همّهم ، إلى النيل من مقدّسات الآخرين، لاسيّما في مجال العقائد! فهم يتهجّمون على الأنبياء والرسل والأديان.. بجرأة عجيبة ،  لايراعون فيها حقاً لصاحب عقيدة ، في احترام عقيدته .. ولا حقاً لذي رأي ، في احترام رأيه ! ويتباهى هؤلاء ، بأنهم أصحاب فكر حرّ ، واع عاقل مستنير.. ليسوا جَهلة ، ولا متخلفين ! وبأنهم مثقّفون متحضّرون متمدّنون ! وإذا ذكّروا بأن مِن أبرز مظاهر التحضّر، احترام مشاعر الآخرين ، وعقولهم وآرائهم ومعتقداتهم.. ازدادوا عنفاً وشراسة، وأوغلوا في (الرقيّ الخلقي .. والعظمة الإنسانية !) إلى درجة أنهم لايرون أحدا في العالم سواهم ! وهنا ، ينتقل هؤلاء ، أو بعضهم .. إلى الصنف الآخر الآتي :

  صنف المتطاولين على الله ، الذين يرون عظمتهم لا تكتمل ، إلاّ إذا تجرأوا على عظمة الله .. وحكمتهم لا تتمّ ، إلاّ إذا نالوا من حكمة الله ! بل ..وجودهم لايتحقّق ، إلاّ بإنكار وجود الله ! وهنا ، يرون أنهم يبلغون أعلى درجة من درجات العملقة ! وإذا ذكِّروا بأن هذا النوع من التطاول على الله ، ومن إنكار وجوده .. ليس جديداً من ابتكارهم ، بل هو قديم جداً ، وجِد في بيئات شديدة التخلّف ، كان بعض الناس فيها يقولون (ما هي إلاّ حياتنا الدنيا نَموتُ ونَحيا وما يهلكُنا إلاّ الدهر.. ) .. إذا ذكِّروا بقِدم هذه العبقرية ، التي ينسبونها إلى أنفسهم .. لوّوا رؤوسهم ، وقالوا : لكن أولئك القدماء ، كانوا سذّجاً متخلّفين ، لايعرفون معاني الإيديولوجيات الحديثة ، وما توصّل إليه العلم الحديث ، من أسرار، عن خلق الإنسان .. ولم يصعدوا إلى القمر أو المريخ ! وهنا ، يُبرزون الفرق الكبير ، بينهم وبين من سبقوهم .. حتّى في ميادين التطاول على الله ، وحتّى في إنكار وجوده ! ولو تشابهوا مع القدماء ، في هذا الأمر، لصاروا متخلّفين في نظر الناس .. وهذه هي الكارثة الكبرى ، التي تحلّ على رؤوسهم ! لأن التميّز، والتفرّد ، والتعالي على الخلق .. هي أهمّ الصفات التي تجعل منهم عمالقة ! وإلاّ .. فما معنى العملقة ، إذا تساووا مع الآخرين ، في أيّة صفة من الصفات !؟

 وبالطبع ، إذا ذكّرهم أحد ، يضرورة الخوف من الله ، سخروا وضحكوا، وقالوا ببساطة : إذا كنا لا نعترف بوجوده ، أصلاً، فكيف نخاف منه !؟ أمّا إذا ذكِّر أحدهم ، بأن بعوضة من أصغر مخلوقات الله ، قد تقضّ مضجعه ، وأن ذبابة قد تخرجه عن طوره ، وأن جرثومة بالغة الضآلة ، قد تفتك به وتقضي على حياته .. إذا ذكّر أحدهم بهذا .. هزّ رأسه ساخراً ، وهو يبلع ريقه ، وكتمَ خيبة موغلة في أعماقه ، وقال بفتور: وما علاقة هذا الأمر، بما نتحدّث فيه !؟ 

   حسْبنا الأصناف التي ذكرناها هنا ، من العمالقة ، وعليها يمكن أن يقاس كل صنف آخر، ممّا لم نذكره هنا .. ولله في خلقه شؤون ! 

وسوم: العدد 728