الثورة والدولة العميقة .. فلسفة الصراع واستراتيجية المواجهة

لم تكن الدولة العميقة عميقة إلا بمقدر سطحيّتنا في المواجهة، وفهم الصراع في جذوره وعمقه وأطرافه المحليّة والدوليّة والإقليميّة، فلقد كانت الدولة العميقة والدولة الظاهرة دولة واحدة متعدّدة الأجزاء، ومتنوعة الأدوار، لكنّ ضعف الإدراك السياسي لدينا أو محاولة الترويض لها جعلنا نركّز على جزئها الظاهر في المقاومة والثورة، وهذا ما يلزمنا بإعادة رسم حدود وأدوات المواجهة المستقبليّة مع فلول ومكونات الثورة المضادّة ودولتها العميقة بمواجهة صفريّة قادمة، فلا صلح مع الاستبداد، ولا التقاء معه. ونصفُ ثورة أخطر علينا ألف مرّة من لا ثورة، لأنها ستكون انتحاراً محقّقاً نساق بعده إلى مقاصل الطغاة ومعتقلاتهم.

إنّ العطل والخلل السياسيّ في مواجهة الثورة المضادّة عندنا، غائر في عمق البنية الاجتماعيّة ومنظومة الأفكار والقيم التي نحملها ونتحرّك بها، وندعو إليها...

ومنذ قرون يستفحل هذا المرض فينا، على شكل وثنيّة سياسيّة، تقدّس الفرد الحاكم بأمره، أو إقطاع سياسي يحتكر السلطة، ويسعى لتأبيدها، أو استبداد سياسيّ يهدر كرامة الإنسان ويتحالف مع رأس المال والمشيخة الرسميّة، أو بدويّة سياسيّة تدير الدولة بعقليّة شيخ القبيلة، أو توظيف سياسي للدين على شكل ثيوقراطيّة متطرّفة تقيّدنا بمنظومة من المحرّمات السياسيّة التي تجعل من عمليّة التغيير للفساد السياسيّ أمراً متعذّراً، وترسخ التجهيل السياسيّ الذي يخلق في مجتمعاتنا ثقافة القطيع بدلاً من ثقافة الحرية.

لذلك لا تستطيع مثل هذه البنية الاجتماعية المعطوبة أن تنتج عقداً سياسيّاً حرّاً راشداً، بمجرّد ثورة شعبيّة عاطفيّة لا تتجاوز حالة الانفعال العاطفيّ إلى حالة الفعل العقلانيّ في إعادة تشكيل العقد الاجتماعي وفق منهج يعكس الرشد السياسيّ للمجتمع، ويتعافى من أمراضه السياسيّة المستعصية من ثقل الموروث.

لقد كان الربيع العربيّ هو ميدان الصراع الاجتماعيّ، قبل أن يكون صراعاً سياسيّاً، وهو في عمقه وصميمه صراع فكريّ، بين من يطلب البراء من علّة الاستبداد التي تأكله، وتأكل أمّته، وتمنعها نهضتها، وبين من يتمسّك بالعلّة التي يأكل منها ويعتاش عليها، بين من يوازن نعمة الأمان بنقمة الفوضى، وبين من يوازن نقمة الطغيان بنعمة الحرّيّة، بين من يخضع لثقافة الموروث في قبول حكم الظلمة وبين من يرفض هذا لتَرِثَ الذي يُشرْعِنُ حكمَ المستبدين.

لقد أخطأتِ الحركة الإسلاميّة قراءة مشهد الربيع العربيّ، إذ حسبته حصاد نهاية مسيرتها النضاليّة، والحصاد طبعاً هو الوصول للتربّع على كرسيّ السلطة، لنيل ثمن تضحياتها منفردة عن رفقاء الثورة.

والحقيقة أنّه كانت البداية لأمر آخر لا علاقة لها به، وهو أنّ الشعوب تحركت لإنهاء حال الاستبداد والقهر، وليس لتتوّج أيّ جماعة على سدّة الحكم، إذ أنّها لم تكن تملك أيّ تصوّر عن مرحلة ما بعد الثورة وسقوط الطغيان.

لذلك كان على الحركة الإسلاميّة ألا تزايد في خوفها غير المبرّر على الهويّة لتستحضر معركته عند كلّ ثورة ضدّ الظلم والطغيان، ممّا يؤدّي إلى ارتباك المشهد، وتشتّت الطاقات، وتشاحن الصفوف، وتعيد تأهيل الاستبداد من جديد، فمعركة الهويّة ساحته ميادين الدعوة، وليست في ميادين الحريّة التي غايتها تحرير إرادة الشعوب، وثورة المبادئ هي ثورة النخبة، وثورة المطالب هي ثورة الجماهير، ولا يمكن أن تنتصر ثورة المبادئ بدون ثورة المطالب، لذلك علينا إعادة قراءة مشهد الربيع العربيّ بتأنّ ووعي، ولنعلم أنّ الشعوب هي الأكثر ائتماناً على الهويّة والثقافة، من النخب السياسيّة، التي تجعل منها متاريس وجسوراً للسلطة...

سبعٌ من السنين العجاف تمرّ من عمر الربيع العربيّ ولا يزال الصراع بين بقايا المؤمنين بربيع الحريّة، وعبيد الطغاة، والثورة المضادّة على أشدّه، ونستطع أن نؤكّد بنظرة شموليّة أنّ الربيع العربيّ لا يزال في زخمه، يقاوم ويقارع الطغاة بدون وهن أو فتور، وأنّ الثورة المضادّة قد رمت بكل سحرها لتقهر عصا (موسى) ولازلت العصا تلقف ما يأفكون، وإنّ خزّان الطاقة الثوريّة لا يزال يتجدّد وقوده من مظالم الاستبداد والقمع، وإنّ مبرّرات الثورة لازالت حاضرة دافعة، وإنّ كنانة الثورة المضادّة قد نفدت، وهي ترمي بأخر سهامها في نحر الربيع العربيّ دون جدوى.

لا يجوز بحال من الأحوال أن نحبس أنفسنا في عمر زمني للثورة نقرّر في حدوده مقدار نجاحها، أو فشلها، فالثورة جولات وموجات، وخسارة الجولة الأولى لا يعني انتهاء المواجهة، وتكسّر الموجة الأولى لا يعنى أنّ صخرة الاستبداد ستبقى جاثمة على ساحل الحريّة أمام الموجة الثانية، فإنّ أعاصير الثورة لا زالت تهب على قلوب الأحرار والثائرين، لتزْكي أرواحهم من جديد، ولنا في تاريخ الثورات مُعتبر، فقد امتدت أعمار الثورات في الدول الأوربيّة عشرات السنوات، وفي النهاية وصلت لغايتها وأهدافها ونالت الشعوب حريتها...

وإنّ المقاريض الفكرية من وسائل الثورة المضادة التي اختبأت وراء ثورتنا لتؤدلجها بإيديولوجيا الغلوّ والتطرّف؛ هي حال طارئة على ثورات الحريّة والكرامة وسيلفظها المجتمع، وستكافحها المناعة الثوريّة المتناميّة من طول الصراع والخبرة الثوريّة المكتسبة، ولن تدوم، ولن يكون لها مستقبل، فأما الزبد فيذهب جفاء، وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، وهي في الأصل صناعة استخباراتيّة جاءت لتؤدّي دوراً وظيفيّاً يبرّر قمع الثورة بحجّة مكافحة الإرهاب وتعيد تأهيل الانظمة الاستبدادية من جديد.

شكلت القوى الإسلامية الممنهجة ثلاث طعنات نجلاء في خاصرة الثورة ناهيك أنها شكلت حاضنة للغلو والتكفير الذي مهّد للصراع الثوري الثوري

أولاً - انحرفت بها من الأهداف التي انطلقت الثورة منها في إسقاط الاستبداد وإعادة التعاقد السياسي وفق الاختيار الحر للشعب بدون إكراه دولي أو محلي إلى أهداف أيديولوجية تتراوح من مشروع أمة إلى الخلافة الراشدة إلى الدولة الإسلامية فصورت الثورة أنها حرب طائفية.

ثانياً - خرجت بالثورة من محيطها القطري إلى الجغرافية العابرة للحدود حتى صار اسم سورية من العورة المغلظة التي يجب سترها بمسمى الشام وعليه تراوحت أسماء الجماعات الاسلامية بين تحرير الشام وأحرار الشام والجبهة الشامية وجيش الإسلام وغيرها ولم يبق لسورية منهم نصيب فصورت الثورة أنها مشروع تصدير.

ثالثاً - التحجير في وسائل نصرة الثورة،فصدرت الفتاوى في تحريم الدعم الخارجي ومقاطعة المؤتمرات الدولية كجنيف وإسقاط المؤسسات الثورية كالأركان والحكومة وغيرها وخطف الصحفيين الأجانب فصورت الثورة بالحركة الفاقد للتصور السياسي.

لذلك علينا أن نقوم بخطوات إصلاحية مهمة في إعادة تدبيب أهداف الثورة وإعادتها إلى حيزها الوطني والتعاطي مع كل الوسائل المتاحة في انتصارها وبلوغ أهدافها.

علينا ونحن نتابع مسيرة الربيع العربي أن ندرس خارطة المصالح الدولية من جديد ونراعي هذه المصالح التي هي قدر تؤثر على مواقف العالم من ثوراتنا، فإنّ الذي لا يبصر الخارطة السياسية لشبكة المصالح العالمية أشبه بالعسكري الذي يجهل خارطة الأرض التي يحارب عليها سرعان ما تنفجر به الألغام.

 نحتاج إلى صياغة خطاب إعلامي جديد يحشد شعوب العالم الحرة وراء مطالبنا ويقنعها بعدالة قضيتنا ويكشف المجهولية عن رواية ثورتنا، وأنها فعلاً ثورة في سبيل الكرامة والحرية، وليست حرباً طائفية أو حرباً أهلية أو حربا بين أنظمة شرعية وإرهاب.

إنّ الدكاكين الإعلامية الفصائلية فشلت فشلاً ذريعاً في التعبير عن رسالة الثورة السورية ونبل غايتها وتوصيل رسالتها للعالم، ومثلت حالة ما يشبه شاعر القبيلة الذي حصر همه في الذب عن عشيرته والتغني ببطولاتها إلى درجة المبالغة والتصنع وهجاء العشائر الأخرى والطعن في أحسابها وشرفها بينما نجح النظام في اختراق الثورة بمئات الآلاف من المواقع والصفحات التي تقمصت الزي الإسلامي وأسماء وهمية، وراحت تُسقط كل أعلام الثورة وقادتها، ولأننا مدمنون على تتبع العورات والشغف بأخبار الفضائح ولو كانت ظنية، فقد نجح النظام بتفريغ الثورة من أي شخصية أو مؤسسة تنال ثقة المجموع الثوري لتبقى الثورة بلا رأس.

إنّ المنهزمين والمتساقطين على طريق الحريّة والثورة الذين يقولون لنا في كلّ جولة: إنّا لمدركون. ربما يستطيعون أن يعودوا لتقبيل أحذيّة الطغاة أو ينحازوا إلى طريق السلامة، لكنْ لا يمكنهم أن يقنعونا أبداً أن نوقع على شهادة وفاة للربيع العربيّ العظيم، أو أن نعلن نهاية الثورة، قبل إزاحة الطغاة، وبناء صرح الحرّيّة الأبديّ.

إنّ في النشء جيلاً جديداً يتشكّل، يعيد تفسير كلّ الأشياء من جديد، يعيد تفسير الجمال: بأنّه لوحة تبرز جمال الحريّة، ويعيد تفسير الدّين: بأنّه حرب على الطغاة، ورسالة للحريّة، ويرى القبح بأنّه حرب الطغاة على الحرّيّة، وتطربه الموسيقا عندما تكون نغمة الثورة، تنفث في ناي الحرّيّة، ويستنشق أطيب العطور من شذا الحرّيّة، ويرى في شعاع الشمس بعض أطياف الحرّيّة، ويرى في ضوء القمر قنديلاً يضيء درب الحريّة، ويرى في الموت لذّة وصال مع وجه الحرّيّة السرمديّ.

وما دام هناك قلم يرسم لوحة الحريّة، وطفل يهتف للحرّيّة، وأم تنجب جيل الحريّة، ومجاهد يقبض على الزناد من أجل الحريّة، وشهيد يزفّ إلى الخلود في سبيل الحريّة، وتاريخ يكتب هذه الرّحلة بين بداية الحياة، وبداية الخلود

 فإنّ الثورة مستمرّة، وإنّ دول الباطل العميقة التي قامت على دماء الأحرار وأشلائهم ستنهار فوق سدنتها، لتكون للمستبدين من بعدها آية شاهدة على حتميّة مصارع الطغاة.

وسوم: العدد 734