الإسلام أسمى وأشرف من أن يسعى إلى أسلمة الحداثة أو يسعى إلى التماهي معها

لقد أصبحت  قضية ما يسمى " أسلمة الحداثة " أو" التماهي معها" أو بعبارة أخرى " تحديثه " موضوع أقلام كثيرة تختلف مشارب أصحابها وخلفياتهم التي يصدرون عنها خصوصا بعد الإجهاز على ما يسميه الغرب تجربة الإسلام السياسي التي أعقبت حراكات أو ثورات الربيع العربي ، وهي حراكات أو ثورات أو انتفاضات الشعوب العربية ضد الفساد بمعناه الواسع على جميع الأصعدة ، علما بأن هذه الأصعدة متداخلة وبينها علاقات جدلية  لا يتسع المجال للتفصيل فيها . ولا زال الخلاف قائما بين الاعتقاد بأن هذه الحراكات أو الثورات هي حقيقة وواقع ،وأنها من إبداع الشعوب العربية والجحود بذلك حيث يرى الجاحدون أو المشككون فيها  أنها من صنع الغرب الذي خطط من ورائها لخلق واقع جديد في الساحة العربية لتمرير ما يريد تمريره من قرارات وإملاءات  تخدم ما يسميه  مصالحه الاستراتيجسة. وقد يجمع البعض بين القول بحقيقة نسبة ثورات الربيع العربي للشعوب العربية دون نفي وجود دور غربي استغل هذه الثورات لصالح سياسته في الوطن العربي والتي تضمن تحقيق  مصالحه الاستراتيجية .

ومعلوم أن من المصالح الاستراتيجية للغرب أن يظل العالم العربي على الوضعية الحالية التي تخدم تلك المصالح ، وأن يخضع لنمط الحياة الغربية بعلمانيتها وحداثتها وليبراليتها ، وهو نمط حياة يراد عولمته، وذلك من خلال ابتلاعه كل أنماط الحياة الأخرى . والمشكل الذي يواجه عولمة نمط الحياة الغربية في الوطن العربي هو شيء اسمه الإسلام ، هذا الإسلام الذي أبدى مقاومة شرسة ضد الحركة الاستعمارية الغربية للوطن العربي ، وهو الهوية الوحيدة القادرة على الصمود في وجه الحضارة الغربية الكاسحة حيث انهارت كل الهويات الأخرى وعلى رأسها الهوية القومية التي لم تقم لها قائمة منذ أن ابتلي الوطن العربي بالاستعمار الغربي الذي جعل العرب قوميات فاشلة لا تستطيع الصمود في وجهه بل تنبطح له  . والغرب الذي واجه وقوف الإسلام في وجهه إبان احتلاله للوطن العربي لا يرغب مرة أخرى في مواجهة معه  من نوع آخر مهما كانت ،لهذا يخوض اليوم حربا ضد ما يسميه الإسلام السياسي وذلك بطبيعة الحال على طريقته ووفق قناعته  حيث صنعت مخابراته عصابات إجرامية تتبن العنف الأعمى باسم الإسلام ليتسنى له بعد ذلك سحب صفة هذه العصابات على كل من ينتسب إلى هذا الدين  بغض الطرف عن موقفه من تلك العصابات رفضا وتنكرا لها وبراءة منها . وبهذه الصناعة المخابراتية الغربية استطاع الغرب الحداثي العلماني الليبرالي أن يضرب عصفورين بحجر: الأول هو الإسلام الذي ألبسه كدين تهمة العنف والإرهاب وتهمة نقض قيم الحداثة والعلمانية والليبرالية ، والثاني هو الهيئات والجماعات والأحزاب التي تتخذ الإسلام مرجعية والتي ينسحب عليها  في نظر الغرب  تماما ما يتهم به الإسلام  من عنف وإرهاب وعداء لقيم هذا الغرب . وعن الغرب تتلقف أنظمة  وتيارات في الوطن العربي هذا الموقف مما يسمى الإسلام السياسي ،وتتخذ  بعض الأنظمة ذلك ذريعة لمواجهة خصومها ومعارضيها السياسيين الذين من السهل إلصاق تهمة الإرهاب بهم لمجرد تلميحهم أو تصريحهم بالانتماء الإسلامي أو اعتماده مرجعية . وكنموذج على حذو بعض الأنظمة العربية حذو الغرب في إدانة خصومها بتهمة الإرهاب، نذكر ما حدث في مصر التي عرفت لأول مرة تجربة ديمقراطية  تمخض عنها وصول حسب الحرية والعدالة الإسلامي إلى مقاليد السلطة ، وهو حزب تمثل جماعة الإخوان المسلمين جناحه الدعوي . وقد طبخ انقلاب عسكري للإجهاز على هذه التجربة، والذي أطاح بالشرعية، ومس بمصداقية الديمقراطية برضا وتزكية الغرب إن لم نقل بتخطيط منه وتمويل من أنظمة عربية تعمل بأمره  ولحسابه . وبين عشية وضحاها تم إلحاق هذا الحزب ذي المرجعية الإسلامية مع جناحه الدعوي جماعة الإخوان المسلمين بعصابات داعش الإجرامية ، وذلك كتبرير للانقلاب العسكري . وهكذا صار من اليسير على الانقلابيين تبرير الإجهاز على خصومهم السياسيين ، واستباحة حرياتهم وحياتهم عن طريق الاعتقالات والتصفيات الجسدية وأحكام الإعدام في غياب ضمير العالم  الذي تواطأ جناحه الغربي مع الانقلابيين  بشكل واضح تحقيقا لما يسمى المصالح الاستراتيجية للغرب وعلى رأس هذه المصلح  بطبيعة الحال تحقيق  أمن وسلام الكيان الصهيوني المستنبت في قلب الوطن العربي ، وفرضه كأمر واقع ومفروض على الأمة العربية بمنطق القوة .

ويجند الغرب كل أشكال الطوابير الخامسة في الوطن العربي لمحاصرة الإسلام ، وهكذا ولدت قضية " أسلمة الحداثة " أو " تحديث الإسلام " التي يقصد بها تحييده من واقع أهله ليفسح المجال لنموذج الحياة الغربية  التي يجب أن تسود بلا منازع أو منافس . والحداثة بالمفهوم الغربي لا تعني فقط الدلالة على النمط المادي للحياة الغربية بل تعني إلغاء أو تعطيل إرادة الخالق سبحانه وتعالى مقابل تأليه المخلوق وإطلاق حريته الكاملة للتصرف في ملك خالقه وفق هواه . وتتقاسم الطوابير الخامسة في الوطن العربي الأدوارالمختلفة  لمحاصرة الإسلام وتعطيله ، وهي طوابير  تعتمد نزعات  وعصبيات عرقية ولغوية وتوجهات إيديولوجية وانحرافات أخلاقية ... وكلها يجمعها عداؤها للإسلام الذي  ينقض ما هي عليه من انحرافات عن قيمه الإنسانية السامية التي وضعها الخالق جل في علاه . ويصادف هوى الغرب أهواء هذه الطوابيرالخامسة  المتربصة بالإسلام ،والتي تختلق كل يوم موضوع خلاف معه ،وتصنع من الحبة قبة كما يقول المثل العامي .ولقد أشهرت هذه الطوابير المدعومة من الغرب العلماني في وجه الإسلام قضايا شاذة من قبيل المثلية والرضائية أو حرية الجنس ، وحرية الإجهاض ، وحرية الردة ، حرية تعطيل النصوص الدينية القطعية ، وحرية المجاهرة بمخالفة تعاليم الإسلام ...إلخ ، وكلها مطالب حداثية باعتبار الحداثة إطلاق للحريات المختلفة إلى أقصى ما يمكن حسب الطرح الغربي ،وإلزام الإسلام  بالتطبيع معها وقبولها ،وذلك ما يقصد به تحديث الإسلام أو أسلمة الحداثة  وتماهي الإسلام معها. وكل فرد أو تيار إسلامي يرفض عملية التحديث والأسلمة  يوضع على لائحة الإرهاب ويحارب بضراوة ، بينما يسخر من كل  فرد أو تيار إسلامي  يقبل بشكل أو بآخر هذه العملية ، وينعت بالبرغماتية والنفاق ، والتملص من المبادىء الإسلامية  أو التنكر لها  أو التمويه  على  إخفائها تقية كما جاء في وصف الكاتب المغربي حسن أوريد لبعض التيارات الإسلامية في كتابه : " الإسلام السياسي في الميزان " .

ومما لا شك فيه أن الحملة العلمانية الغربية  العدائية ضد الإسلام ستستمر وبضراوة  غير مسبوقة ، وستأخذ أبعادا أخرى ، وستزداد الطوابير الخامسة التي تنوب عن الغرب في إدارة هذه الحملة داخل الوطن الغربي .ولقد بدأت هذه الحملات تأخذ شكل قرارات تتخذها بعض الأنظمة من قبيل تعطيل النصوص الدينية التي  تعتبر في نظرها معرقلة للتحديث وللحريات وللحقوق كما تصورها الحداثة والعلمانية ، ونسوق كمثال على ذلك ما أقدم عليه النظام التونسي بخصوص آية الإرث القرآنية التي صدر قرار بتعطيلها تحقيقا للمساواة في الميراث بين الجنسين  حسب اعتقاده . ومن المنتظر ألا يقف التعطيل عند هذا النص القرآني بل سيطال كل النصوص التي لا توافق هوى الغرب الحداثي والعلماني و هوى من ينحون نحوه من الطوابير الخامسة المسخرة والموظفة لتعطيل الإسلام  . ومعلوم أن الإسلام وهو الرسالة السماوية الخاتمة أراد له الخالق  سبحانه أن ينسحب على حياة البشرية من البعثة النبوية المحمدية إلى نهاية العالم ،الشيء الذي ينقض ما يسمى بفكرة تحديثه إذ لو كان قابلا للتحديث لما كان صالحا للبشرية إلى قيام الساعة إذا ما تماهى مع  أحوالها المادية التي تختلف  من عصر إلى  آخر. ومن السذاجة المثيرة للسخرية  أن يعتقد البعض أن الإسلام له طبيعة كالطبيعة المادية للأشياء بحيث  يناله ما ينالها من تغييرات تسمى تحديثا أو تطورا ، وكمثال نسوق تطور وسائل النقل أو التواصل على سبيل المثال ، وهو تطور مستمر على الدوام ، في حين تظل  فكرتا النقل والتواصل  في حد ذاتهما كما كانتا منذ أن تنقل وتواصل الإنسان في الماضي البعيد . وقياسا على هذا المثال تقاس كل أمور الحياة حيث تتطور الماديات باستمرار، وتظل الغاية من استعمالها كما كانت ثابتة لا تتغير بتغير تطور الماديات . ولقد تأكد دحض فكرة تحكم المادي في المعنوى بانهيار الفلسفات المادية المتهافتة التي صارت أثرا  بعد عين في حين لا زال الإسلام كما بدأ تتوجس منه العقائد المنحرفة بالبشرعن فطرتهم التي فطرهم الله عز وجل عليها . وأخيرا نقول لن يختلف حداثيو هذا العصر مهما كان تآمرهم على الإسلام عن أمثالهم في عصور غابرة ، وجميعهم يلتقون عند فكرة محاولة إخضاع الإسلام لأهوائهم وما هو بخاضع لها .ومن المؤكد أن حيلة أسلمة الحداثة ، أو تحديث الإسلام  التي تسوق هذه الأيام لن تنطلي أبدا على المسلمين الذين  ليس من السهل زعزعة إيمانهم بدينهم ، ولا من السهل حملهم على الانجرار وراء الدعوات الباطلة  التي تروم النيل منه تحت مختلف الشعارات البراقة والخادعة  ووراء مختلف الأقنعة التي مآلها السقوط لا محالة.

وسوم: العدد 735