فراغ القوة : أخطر أنواعه .. وأتعس ضحاياه !

 *) فراغ القوّة ، قديم في وجوده ، حديث في مصطلحه ودلالته ! فلا نعلم أحداً ، في القديم ، ذكر هذا المصطلح ، بصورته الحالية ؛ برغم وجود القوّة الطامحة الجامحة ، منذ القدم ، ووجود الضعف الخانع ، الذي يغري الاقوياء ، بالتمدّد على حسابه ، أو اكتساحه والهيمنة عليه ، منذ القدم أيضاً !

 *) وإذا كان الضعف الفردي ، مغرياً للأقوياء من الأفراد ، وغيرهم ، وقد تحميه أخلاق معيّنة ، لدى الأقوياء ، فلا يعتدون على أصحابه الضعفاء.. فإن الضعف في السياسة، القائمةعلى المصالح ، المجرّدة من الأخلاق ، في الغالب .. يجعل أصحابه صيداً دسماً ، تهفو إليه نفوس الأقوياء ، فيصطرعون فيما بينهم ، لليهمنة عليه !

 *) فراغ القوّة ، في عالم اليوم ، يكاد ينحصر في بعض دول العالم الثالث ، ومنطقتنا العربية من أهمّ الأماكن ، التي يتركّز فيها فراغ القوّة ، مع الأسف ! 

 *) في الحقبة الاستعمارية ، تسابقت الدول القوية ، للهيمنة على الكثير من دول العالم الثالث ، ومن بينها منطقتنا العربية .. فخضعت أكثر الدول العربية للاستعمار، تحت مسمّيات شتّى ؛ كالانتداب ، والوصاية ، ونحو ذلك !

 *) بعد الحرب العالمية الثانية ، ظهرت قوى جديدة ، وسياسات جديدة ! فانحسر ظلّ الاستعمار القديم ، ليحلّ محلّه ، استعمار من نوع آخر! فتَركت الدول الاستعمارية ، التي خرجت من الحرب ضعيفة .. تركت مستعمراتها ، بضغط من القوى الجديدة ، لتحلّ محلّها القوى الجديدة ، أمريكا وروسيا ، في بسط السيطرة والنفوذ ! فانقسم العالم العربي ، على سبيل المثال ، بين المعسكرين : الرأسمالي ، بقيادة أمريكا ، والشيوعي ، بقيادة روسيا !

 *) بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ، بسطت أمريكا هيمنتها ، على العالم العربي ، بأشكال مختلفة ، وأخضعت مَن لم يكن خاضعاً لها من قبل !

 *) حين برزت إيران في المنطقة ، قوّة ضخمة ، بعد سقوط العراق القويّ ، الذي تعاونت مع أمريكا في إسقاطه .. طمعت بدور إقليمي معيّن ، تملأ من خلاله ، بعض ما تراه من فراغ القوّة ، في المنطقة العربية ، وفي بعض دول العالم الإسلامي الأخرى!

 *) صارت إيران شريكاً قوياً ، في الهيمنة على العراق ، عبر حلفائها وأتباعها فيه ، ومواطنيها الذين تجنّسوا بالجنسية العراقية ، واحتلوا الكثير من مواقع صنع القرار، في الدولة !

 *) أخذت القوّة الإيرانية الصاعدة الجديدة ، تتمدّد ، بأشكال مختلفة :عسكرية ، وأمنية، واقتصادية ، ومذهبية .. مستفيدة من أتباع مذهبها في المنطقة ، الذين تَعدّهم جنوداً لها ، داخل دولهم !

 *) القوى المادّية الظاهرة ، من عسكرية ، وأمنية ، واقتصادية ، وسياسية .. لها في المنطقة ، مايقف في مواجهتها ، سواء في ذلك ، القوّة الأمريكية ، والحكّام العرب المتحالفون مع أمريكا !

 *) المجال الحيوي ، الذي تعجز أمريكا عن منافسة إيران ، في التمدّد فيه ، والوقوف في وجهها ، دفاعاً عنه .. هو المجال العقَدي المذهبي ! وهو ساحة واسعة جداً ، تراها إيران ساحة خاصّة بها ، وحدها ! لاشتراكها مع أبناء المنطقة في دين واحد ، حسب الظاهر.. هو الإسلام ، الذي يصعب على أمريكا ، أن تحوّل أبناءه إلى عقديتها ، أو دينها !

 *) المجال الحيوي العقدي ، أو المذهبي.. ساحته العقول والقلوب ! وهذه ساحة الشعوب، التي يحكمها أناس ، لا يبالون بعقائدها كثيراً ، ولايخصّصون لها مَن يحميها ، من رجال السلطة والجيش والأمن ، كما يحمون المجالات الأخرى ! بل إن الحكّام يقيّدون حركة مَن في بلادهم ، من العلماء ، الذين يستطيعون التصدّي للتمدّد المذهبي الإيراني .. بحجج كثيرة ، منها : أن بعض هؤلاء العلماء ، أو الدعاة ، يشكلون أنواعاً من الخطر، على كراسي الحكّام ، بما ينشرونه من نصائح وتوجيهات للناس ، وبما يذكّرونهم به ، من ضرورة الالتزام بالدين الإسلامي الحنيف ، الذي يراه كثير من الحكّام ، خطراً على سياساتهم التغريبية ، وعلى كراسيّهم ، المحميّة من الدول الغربية ،غير الإسلامية !

 *) الصراعات السياسة والأمنية والاقتصادية ، متغيّرة بتغيّر مصالح الدول ، والظروف المحيطة بها ! فسرعان ماينكفئ سلطان هذه الدولة ، القوية ، المهيمنة ، فتنسحب إلى داخل بلادها .. أو تضعف كثيراً ، أو تتفكّك ، كما تفكّك غيرها !

 *) الاحتلال العقلي والقلبي ، عبر التمدّد المذهبي بين الشعوب ، لايزول بزوال الدول ، أو بزوال سيطرتها ، أو نفوذها ! وبناء عليه ، تبدو إيران بطلاً عملاقاً ، في ساحة لاينافسها فيها أحد ؛ لا إسرائيل ولا أمريكا ..! فإسرائيل لاتستطيع أن تهوّد المسلمين، فيصبحوا جنوداً لها ! وأمريكا لاتستطيع أن تنصّر المسلمين ، فيصبحوا جنوداً لها ، برغم دعمها الكبير لحملات التبشير، التي يقوم بها المنصّرون ، في أنحاء العالم الإسلامي ! أمّا مَن تشيّعه إيران ، بدعايتها ومالها .. وبإعلامها الذي يوحي لبعض المسلمين ، أنها دولة مسلمة قويّة ، تصارع المشروع الأمريكي الصهيوني ، في المنطقة .. أمّا مَن تشيّعه ، فيصبح جندياً لها ، توظّفه كما تشاء ، وهو منشرح الصدر مسرور، متحمّس لما يفعل ! والمحبَطون من أبناء المسلمين ، يلهثون وراء كل صوت يرتفع في مواجهة هذا المشروع الصهيو أمريكي .. دون أن يتبيّنوا مواطئ أقدامهم ، أو يفكّروا في حقيقة المشروع الإيراني نفسه ، وأبعاده ، ونتائجه المتوقّعة ، في المنطقة ، خلال سنوات قليلة ! بل يشنّع هؤلاء اللاهثون وراء الشعارات الإيرانية المقاومة .. يشنّعون على كل من يتردّد في دعم هذا المشروع الإسلامي العظيم ! ولعلّ هذا أخطر ما في المسألة ؛ وهو أن القوم يجدون لهم محامين مجّانيين ، من أبناء البلاد، يدافعون عنهم، وعن مشروعاتهم وسياساتهم ، أكثر ممّا يدافعون ، هم أنفسهم ، عن هذه المشروعات والسياسات ! وربّما كان كثير من هؤلاء المحامين المجّانيين ، لا يبالون بتغيير عقائد أبنائهم ونسائهم ! وقد يبالي بعضهم بهذا الأمر ، لكن يرونه أهون من أن يفرّطوا بالتصفيق لإيران ، والهتاف لها ، وهي تقف في مواجهة العدوان الأمريكي الصهيوني..!

 *) وهكذا ، على ضوء ما بينّاه ، آنفاً ، وعلى ضوء تجارب الشعوب والأمم ، يتّضح بجلاء ، أن أخطر فراغ قوّة ، هو فراغ العقول والقلوب ! وأخطرغزو ، هو غزوالعقول والقلوب ! وأتعس الضحايا ، هم هؤلاء ، الذين تغزى عقولهم وقلوبهم ، وهم غافلون ، أو سعداء ! دون أن يعلموا أيّ سمّ يتجرّعون ! ودون أن يتصدّى أحد من عقلاء قومهم ، أصحاب السلطة والقوّة والعلم ـ إلاّ فيما ندرـ ، للدفاع عن هذه المجالات الحيوية.. إلى أن يملأها الغازي العقدي ، أو المذهبي ، بما لديه من بضاعة فكرية أو عقَدية ، تدّخرها إلى يوم الحساب ، لتلقى الله عليها ! وفي طريقها إلى ذلك اليوم ، تورّثها أجيالها ، التي لا تقبل ـ حين تشرب عقائد آبائها ـ أن تتنازل عنها ، حتّى لو قطعت رؤوسها ! وحتّى لوكانت القلّة منها ، قادرة ، يومئذ ، على النظر العقلي ، وتمحيص العقائد والمبادئ .. فهذه لاتستطيع أن تغيّر عقائد قومها ، حتى لو اقتنعت هي ، لاحقاً ، بعدم صحّة هذه العقائد !

 *) وهنا ، يتّضح التداخل العميق ، لدى أصحاب العقائد ، بين العقيدة والسياسة .. وتتّضح خطورة الغزو العقدي ، لأيّ شعب من الشعوب ، ولأية دولة من الدول ! 

وسوم: العدد 739