قانون المصالحة، على قدر كسائي أمدّ رجلي

كل ما جدّ جديد على السّاحة السياسية إلاّ وترجم درجة الوعي السياسي للطبقة السياسية بصفة خاصّة وللمواطن بصفة عامّة. ولعلّ أهمّ ما جدّ على الساحة السياسية أخيرا هو المصادقة على قانون المصالحة الإدارية في مجلس نواب الشعب في ظروف اتّسمت بالتشنّج والتوتّر والفوضى بلغت حدّ الشتائم بين النوّاب. وهو القانون الذي ندّدت به عديد الفعاليات السياسية المعارضة وغالبية من الشعب التونسي حسب ما أظهرته وسائل الإعلام. وكان الرأي السّائد في الإعلام أنّ العديد من الأحزاب وخاصّة منها الثورية قد خانت الثورة وجماهير الثورة من ذلك ما صرّح به أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد من أنّ "تونس تعيش أيلول الأسود بسبب قانون المصالحة الاقتصادية" وما صرّح به دافيد تولبرت رئيس المركز الدولي للعدالة الانتقالية من أنّ "قانون المصالحة في المجال الإداري يشجّع الفاسدين وأصحاب النفوذ". ومن ذلك استقالة نذير بن عمّو من كتلة النهضة إثر التصويت  على قانون المصالحة الإدارية. وقد عقّب رفيق عبد السلام على كلّ هذه المواقف في جريدة الصباح بالقول "إذا اقتضت الضرورة خسارة قيادات من النهضة بسبب قانون المصالحة فليكن".

والباعث على الاستغراب في هذا السيّاق ليس الجبهة الشعبية لأنّ الجبهة ومن شابهها من الإستئصاليين محكومة بالإيديولوجيا  الثورية الفوضوية فهي تارة مع الثورة وطورا آخر ضد الثورة وضدّ بناء المؤسسات، كما صرّح بذلك رفيق عبد السلام لجريدة الصباح. فهذه المكوّنات اليسارية المعارضة لا تمثّل الثورة في شيء ولا يعتدّ برأيها بدليل أنّها تحالفت مع قوى الثورة المضادّة وتناولت معهم "الروز بالفاكية" في اعتصام الرحيل لغاية الإجهاض على الثورة. كما رفعت شعار "الصّدام الصّدام حتّى يسقط النّظام" أيّام حكم الترويكا. فكيف تدّعي هاته المكوّنات الاستئصالية  شرفا لم تحافظ عليه. وكيف تسمح لنفسها بالظّهور مجدّدا رافعة لواء الثورة من جديد بعدما خانت الثورة في اعتصام الرّحيل. فكلّ مواقف الجبهة وكل مواقف الاستئصاليين،التي تبدو ثورية،ليست حبّا في الثورة وإنّما هي جزء من تكتيك عام للوقوع بحركة النّهضة وإخراجها من المشهد السّياسي.  فمشروع قانون الميراث الجديد الذي أطلقه الرئيس الباجي قائد السبسي هو جزء من المشاريع والمطبّات والفخاخ السياسية المنصوبة للوقوع خصّيصا بحركة النّهضة لغاية إحراجها وإخراجها من تحصيناتها ودفعها لارتكاب أخطاء سياسية قاتلة تكون كافية لفك الارتباط بينها وبين حركة نداء تونس وإعادة تشكيل المشهد السياسي بما يتوافق وسيناريو التسعينات من القرن الماضي. فالاستئصاليون لا يؤمنون بمبادئ الحرية والشفافية وبالعمل المؤسّساتي. فهم لا يستطيعون العيش إلاّ في الظلام الدّامس تحت جناح الاستبداد. فكل مشاريع المخلوع بن علي الاستبدادية،لعلّ أبرزها مشروع تجفيف المنابع، برزت من تحت عباءة هؤلاء الاستئصاليين.  المؤسف حقّا والمضحك في نفس الوقت أنّ هؤلاء الاستئصاليين لا يزالون يقدّمون أنفسهم على أنّهم ثوريون ويرفعون لواء الثورة ويزايدون على الثوّار والمناضلين الحقيقيين في كل المنابر السياسية والإعلامية ! ! !

في خضمّ هذا النفاق السياسي وجدت حركة النهضة نفسها مرغمة على استخدام مبدأ تقية النّجاشي والحيل السياسية لاتقاء كل المطبّات والفخاخ السياسية المنصوبة لها وذلك قبل العمل على تقديم كل أنواع الخدمات الجيدة لهذا الشعب وقبل التفكير في إيجاد حلول جذرية للمعضلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية.  فاتقاء الفخاخ السياسية القاتلة هو مقدّم على طرح الحلول السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفق قاعدة "دفع الضرر مقدّم على جلب المصالح". ولهذا يحقّ لنا التساؤل عن جدوى اتخاذ قرار يفضي إلى تقويض السّلم الأهلي وإدخال البلاد في فوضى وربّما في حرب أهلية. فالمصلحة العامّة تقدّر بقدرها. والنّضال الحقيقي هو مراوحة بين التشبّث بالمبادئ والأخذ في الاعتبار ضرورات ومكرهات الواقع. وهو ما يترجم المفهوم الحقيقي للسياسة بما هي فنّ الممكن.

ما يثير الاستغراب فعلا هو أنّ الشعب التونسي في الأغلب الأعمّ لا يفقه جيّدا الفوارق بين العمل الحزبي والنضال السياسي وبين تطلّعات المواطن  المصبوغة  بالظروف والحالة النفسية. فالمواطن الذي لم يتحرّج من اتهام  حركة النهضة بالاستحواذ على جزء من المال العام وتقديمه لمناضليها كتعويضات على ما تعرّضوا له من ظلم مادّي ومعنوي، هو الذي يطالبها اليوم بمعارضة قانون المصالحة والحفاظ على المال العام ويستغرب مصادقتها عليه. وبحسب هذا المواطن فإنّ المناضل بصفته مناضلا لا يحقّ  ولا يجوز له أن يسعى لتأمين حاجياته المعيشية ولا يحقّ له تحيّن الفرص،كغيره من النّاس، للحصول على مورد رزق أو موطن شغل إلاّ بعد أن يتحصّل كل المواطنين وأبناءهم وربّما أحفادهم على شغل !  فالمناضل في نظر المواطن (التونسي) خلق فقط للنضال ولركوب المخاطر وللدفاع عن الحرّية والكرمة الوطنية. وهو المؤهّل قبل غيره، بحسب هذا المواطن، للحديث عن قضايا حقوق الإنسان وللتصدّي لقانون المصالحة المعروض . أمّا المواطن العادي فليس مطلوبا منه أو مفروضا عليه الوقوف سدّا منيعا ضدّ قانون المصالحة المعروض وضدّ كلّ المشاريع الاستبدادية الفوضوية. وكأنّ هذا المواطن أوكل هذه الأعمال للمناضلين دون غيرهم  ليتفرّغ هو للقمة العيش وللعناية بصفة حصريّة  بأسرته ومصالحه الشخصية ! ولذلك نجده في كلّ مرّة يتّهم غيره بالتقصير ولا يتهم نفسه. "قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (المائدة  الآية 24).

فلو أنّ حركة النهضة لم تبد بعض التسامح في طرح مشروع قانون المصالحة واقتضى ذلك كسر التوافق بين النداء والنهضة، واقتضى ذلك أيضا الدخول في مواجهات سياسية وفوضى. وأدّى ذلك  إلى الانقلاب على العملية الديمقراطية برمّتها والرجوع بالوضع السياسي إلى ما قبل الثورة، فهل نكون حينها قد وفّقنا في خياراتنا حين نساهم في هدم المسار الديمقراطي من أجل بعض المال ؟ وقد يكون من المفيد أن نستحضر هنا عملية توزيع غنائم غزوة حنين. فعندما وزّع رسول الله صلىّ الله عليه وسلّم هذه الغنائم الكثيرة في قريش وفي قبائل العرب (المؤلفة قلوبهم) ولم يكن في الأنصار منها نصيب وجد الأنصار في أنفسهم حتّى كثرت منهم القالة. وقال قائلهم لقي رسول الله قومه. فجمع رسول الله الأنصار وخطب فيهم خطبة بليغة جاء فيها بالخصوص "ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب النّاس بالشّاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟". ذلك أنّه يمكن للشعب الكريم أن يضحّي ببعض المال أو ببعض حقوقه من أجل إنجاح المسار الديمقراطي ومن أجل إنجاح الثورة. فالتجارب تأكّد بأنّ الثورات لا تنتصر بدون مقابل وبلا تضحيات. وفي صورة الانقلاب على المسار الديمقراطي هل سيظلّ الشعب يطالب بالتصدّي لقانون المصالحة ؟ هل سينحاز للمناضلين ؟ لا أظنّ ذلك لأنّ تجربة التسعينات من القرن الماضي لا تزال ماثلة أمام أعين كل المناضلين.

فلو أنّ حركة النهضة كانت تعلم علم اليقين أنّ هذا الشعب سيتحمّل خياراته وسيصمد في مواجهة الثورة المضادّة وسيحمي مناضليه لما تردّدت لحظة واحدة، في تقديري، في وضع النّقاط على الحروف. فحال الشعب الكريم يسمح لحركة النهضة بأن تهمس له  بكلّ رفق : "لكلّ مقام مقال"، و"على قدر كسائي أمدّ رجلي". فعموم الشعب مازال يخطو خطواته الأولى نحو سنة أولى ثقافة سياسية ونحو سنة أولى حرية وكرامة وطنية ونحو سنة أولى صمود وتحدّي. وليس من الحكمة في شيء أن نحمّله فوق طاقته. ومن الغباء السياسي أن يستعجل السياسيون خيارات ويدفعوا فاتورتها غاليا وبصفة آنية في حين أن هذه الخيارات،بحسب الإمكانيات المتوفّرة، لن تتحقّق إلاّ بعد عشرات السنين. فالتحوّلات والتغييرات الجذرية تستدعي وتقتضي قيادات رشيدة وكذلك بيئة ليست فقط قادرة على استيعاب الخطط التكتيكية بل وحريصة كل الحرص على تنفيذها في الواقع المعاش بكل السبل الممكنة. 

وسوم: العدد 742