تطبيق الشريعة

د. حامد بن أحمد الرفاعي

ما المقصود بالشريعة ..؟لغوياً الشريعة تعني الطريق،النهج،النهر الجاري،القانون.والتشريع يعني إصدار القوانين.أما اصطلاحا:أحكام وقواعد ونظم تنتظم حياة الناس وتصرف مصالحهم..الشريعة الإسلامية:أحكام وقواعد ونظم دين الإسلام لإقامة الحياة العادلة وتصريف مصالح الناس وأمنهم.هناك نوعان من القوانين في الإسلام :قوانين ربانية،والقوانين الاجتهادية.ما هو الفرق بينهما ؟القوانين الإلهية مقدسة وثابتة.القوانين الاجتهادية عرضة للتغيير والانتقاد وفقاً لمصالح الناس وتطورات الحياة.ولكن ما هي العلاقة بين القوانين الإلهية والقوانين الاجتهادية ؟القوانين الاجتهادية ينبغي أن تكون منسجمة مع القوانين الإلهية ولا تتناقض مع مقاصدها.وما هي القوانين الإلهية لثابتة ؟التعاليم الإلهية تركز على عمارة الأرض وإقامة الحياة كمهمة إنسانية مشتركة من أجل تحقيق ما يلي من القوانين الإلهية الثابتة:(قدسية الحياة،كرامة الإنسان،حرية الإنسان،مصالح الإنسان،السلوك الأخلاقي،العدل،السلام،وسلامة البيئة بشقيها المادي والاجتماعي).لذا فإن كل جهد بشري يساهم في تحقيق الأهداف المذكورة أعلاه هو من الشريعة..لأن الشريعة بكلمة واحدة هي إقامة الحياة.ولكن ما هو الفرق بين عمل المسلم وعمل غير مسلم فيما يتعلق بتنفيذ هذا التكليف الإلهي المشترك ؟من حيث المبدأ:جميع البشر متساوون في مهمة تحقيق هذا الواجب المشترك..ومعيار التفاضل بينهما في الدنيا العلم والمهارة،في حين أن التفاضل بينهما في الآخرة يعتمد على نوع العلاقة مع الله تعالى.هل يستوي عند الله عمل المسلم وغير المسلم في إقامة الحياة..؟بكل تأكيد هم سواء من حيث الجزاء في الحياة الدنيا..فالله سبحانه يعدل بين المسلم وغير المسلم في التمتع بالحياة الدنيا حيث يقول الله تعالى:"كُلًّا نُّمِدُّ هَـٰؤُلَاءِ وَهَـٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا "ويعدل جلّ شأنه فيعطي كل جهدٍ بشري يُبذل في عمارة الأرض وإقامة الحياة حقه كاملاً غير منقوص ودون تمييز في الحياة الدنيا حيث يقول تباركت أسماؤه:"مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أما الجزاء في الآخره فهو قطعاً مرتبط بالحالة الإيمانية مع الله تعالى إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً " وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ".والشريعة في الإسلام هي انتظام شؤون الحياة وتصريف مصالح الناس وإقامة العدل بينهم..وهذا يأتي في سياق قيم الإسلام ومبادئه التي تدعوا إلى عمارة الأرض وإقامة الحياة الحرة الكريمة الآمنة.فالإسلام باختصار شديد هو إقامة الحياة وتحقيق مصالح العباد وهذا هو أساس شرعة الله. وعلماء الإسلام وفقهاء الشريعة وضعوا قاعدة ذهبية تقول: "حيثما تكون المصلحة فثمّ شرع الله".فالشريعة ملازمة لمصالح الناس وأحكامها تدور مع مصلحة الإنسان. فمصلحة الإنسان في أمنه العقلي،وفي أمنه الديني،وفي أمنه الحياتي،وفي أمنه الصحي،وفي أمنه الأخلاقي،وفي أمنه الاجتماعي،كل ذلك من مهام الشريعة ومن كليات مقاصدها الجليلة.ومرة زارني أخ كريم فقال لي: إنني أتشرف بزيارتك بتشجيع من أستاذي المشرف على إعداد رسالتي لنيل شهادة الدكتوراه وموضوعها (تطبيق الشريعة الإسلامية) حيث طلب مني أن أعرض رسالتي عليكم لإعطاء رأيكم بشأنها. وهنا أنوه بأنني لا أعرف الأخ الكريم الأستاذ المشرف على الرسالة ولم يسبق لي شرف الالتقاء به وكذلك لا أعرف الأخ صاحب الرسالة. فرحبت به وشكرته وأستاذه على ثقتهم واختياري لإبداء الرأي بالرسالة وموضوعها الجليل، وطلبت منه أن يحدثني عن الرسالة ، فتحدث وشرح لي فصول الرسالة ومضامينها،فلمست من خلال عرضه لمادة الرسالة أنه ينحو منحاً تقليدياً يتسق مع ما يطرحه القائلون بشأن تطبيق الشريعة على الصعد السياسية من أصحاب التنظيمات والأحزاب الإسلامية،وهو المنحى الذي يلغي كل جهد قائم في المجتمعات القائمة لتصريف حياة الناس ومصالحهم،وأن الشريعة وتطبيقاتها شيء آخر يحقق لناس مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر،وكما هو معروف يتغنى أصحاب شعار (الإسلام هو الحل) بهذه الغيرية دون تقديم مفهوم دقيق لمعنى هذه العبارة الصحيحة الجليلة،ودون طرح مشروع موضوعي يقدم للناس معنى وجدية ما يقصدون بشعار (الإسلام هو الحل) ويصرون على أنهم الأجدر والأولى بتطبيق الشريعة دون غيرهم من الناس،فهم المؤتمنون حصراً على قيمها ومبادئها والأجدر في أداء آليات تطبيقها وإنفاذ قيمها ومقاصدها.فبعد أن انتهى من عرضه للرسالة.قلت له:لو طلب منك سائل تعريفاً مختصراً لمعنى عبارة (تطيق الشريعة ) فما هو جوابك..؟قال:إقامة الحدود.قلت:إذاً رسالتك تدعو إلى عدم تطبيق الشريعة.قال:كيف ..؟قلت:الحدود عقوبات قررها الشارع بشأن جنايات محددة ثم طلب من المسلمين التماس الشبهات لدرء تطبيقها والحيلولة دون تنفيذها  أليس كذلك..؟قال:بلى قلت :عندما تقرر أن تطبيق الشريعة هو إقامة الحدود،فأنت بذلك تحشر نفسك ورسالتك في مسألة جزئية نحن مطالبون قدر الإمكان بعدم تطبيقها أليس كذلك ..؟قال:بلى..ولكن بذلك تكون قد ألغيت رسالتي.قلت:جوابك وما عرضته عليّ من مضمون الرسالة هو الذي يجعل رسالتك موضع مراجعة وتصحيح.قال:ما هو الجواب الصحيح من وجهة نظركم لتساؤل السائل ..؟قلت:إقامة الحياة وتصريف مصالح الناس بالعدل والقسط. ولمزيد من التوضيح سألته:ما هي وسيلة النقل التي أتيت بها إلى جدة..؟قال الطائرة.قلت:هذه من الشريعة،والمطار الذي اقلعت منه الطائرة ،والمطار الذي هبطت إليه ،وما استمتعت به من خدمات وهواء بارد نظيف هو من الشريعة،والسيارة التي استخدمتها،والشوارع الممهدة الذي سلكتها من منزلك إلى المطار ومن مطار جدة إلى منزلي،وما تحف به من خدمات هو من الشريعة،الجسور والأنفاق التي مررت بها هي من الشريعة،ورجال المرور والإشارات الضوئية التي تنظم سير الناس وسلامتهم هو من الشريعة،ورجال الأمن الذين يحرسون على أمن الناس هو من الشريعة،والجامعات والمعاهد والمدارس هو من تطبيق الشريعة،وكل ما ييسر حياة الناس ويؤمن حاجاتهم ويصرف مصالحهم هو من الشريعة،فالشريعة يا أخي هي إقامة الحياة.قال:ولكن كل دول العالم تقوم بذلك فهل عملها من الشريعة..؟قلت:بكل تأكيد هو من الشريعة.قال:وهل عمل غير المسلمين بنظرك من الشريعة..؟قلت:بكل تأكيد هو من الشريعة. ولك أن تقول:هل يستوي عمل المسلم وعمل غير المسلم في الجزاء عند الله..؟لقلت لك:من حيث الجزاء الدنيوي فهم بكل تأكيد سواء،أما من حيث جزاؤهم في الآخرة فالأمر مختلف لأنه متعلق بطبيعة العلاقة مع الله تعالى أهي علاقة إيمان وتوحيد وعبودية خالصة..أم أنها علاقة جحود وشرك وعدم عبودية له سبحانه..؟فمع الإيمان بالله والعبودية الخالصة له سبحانه يتكامل الجزاء في الدنيا والآخرة،ومع الكفر والشرك والجحود ينقطع جزاء الدنيا عن جزاء الآخرة بل ينقلب الجزاء في الآخرة إلى عقوبة وعذاب حيث يقول الله تعالى " مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" قاإذا الغرب بنظرك يقيم الشريعة..؟قلت:الغرب وغير الغرب وكل مجتمع يبذل جهداً لإقامة حياة الناس وينظم شؤونهم ويحقق مصالحهم وأمنهم هو بكل تأكيد تطبيق لشرعة الله،فالشريعة تتكون من شقين:شق اعتقادي وقيمي وأخلاقي،وشق مادي وإداري ووسائل ومهارات. فالغرب بكل تأكيد على درجة رفيعة في تطبيق الشريعة من حث شقها الدنيوي بكل متطلباته ، أما من حيث الشق الديني فبكل تأكيد لديهم خلل وخلل كبير،مثلما نعاني نحن من خلل كبير في أداء الشق الدنيوي من الشريعة،فلدينا خلل ولديهم خلل. وقلت له: لقد زارني وفد أمريكي رفيع المستوى على رأسه نائب وزير الخارجية الأمريكية والسفير الأمريكي في الرياض،وكان الحوار حول مسألة تطبيق الشريعة ، ودام الحوار ما يزيد عن ساعتين سجلت تفاصيله في كتابي (تعالوا إلى كلمة سواء)فقال لي رئيس الوفد:كم يحقق نظامنا في أمريكا من تطبيق الشريعة بنظركم..؟قلت: 80% .فوقف ليقول بأعلى صوته:أحق هذا( Realy ? ).قلت له:بكل تأكيد،وهذا ليس كرم عربي.قال:أين ذهبت ال20%من الشريعة لدينا..؟قلت:بسبب خلل في العقيدة والقيم والسلوك والأخلاق.وهنا دخلنا بتفصيلات لا يتسع هذا المقال لها. فمن أراد الاطلاع فليراجع كتاب(تعالوا إلى كلمة سواء).ثم قلت لضيفي الكريم صاحب الرسالة:الم تسمع بعبارة الشيخ محمد عبده يرحمه الله تعالى عقب زيارته للغريب في مطلع القرن العشرين حيث سُئل كيف رأيت الغرب..؟قال:رأيت إسلاماً ولم أرى مسلمين.فقال ضيفي:ولكن ما هو الدليل الشرعي من الكتاب والسنة على هذه اللفتات الجميلة لمعنى ( تطبيق الشريعة)..؟قلت:الدليل من القرآن في قوله تعالى:

" هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ". " لكل منكم جعلنا شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلقون ". " ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات ". " يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيم التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ". " ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ".

أما الدليل من السنة ففي قوله عليه الصلاة والسلام:

" خير الناس من نفع الناس ". " الخلق كلهم عيال الله فأحب خلقه إليه أنفعهم لعياله" " اذهبوا إلى الحبشة فإن فيها ملك لا يظلم عنده أحد ".

وخلاصة القول:أن شرعة الإسلام هي إقامة الحياة وتحقيق المصالح وإقامة العدل بين الناس، فمن يحقق هذه الكليات أو يقترب منها فهو على شرعة الله بصرف النظر عن هويته ونوع انتمائه فالله سبحانه وتعالى يحاسب الناس في الدنيا على الأعمال والنيات ولا يحاسبهم على نوع الهويات والانتماءات،لذا لابد أن يدرك الناس ( من المسلمين وغير المسلمين ) أن شريعة الإسلام ذات دلالة موسوعية تتسع لكل جهد إيجابي يبذل لعمارة الأرض ويستثمر مكنوناتها لصالح حياة الإنسان وكرامته،وتتسع لكل ما يحقق للإنسان صحته وغذاءه وأمنه واستقراره،وتتسع لكل ما يعزز تنمية آمنة وتقدم علمي نافع وارتقاء حضاري راشد. أجل الشريعة الإسلامية مع كل جهد بشري يبذل لبناء المجتمعات وتنظيم شؤون الناس وتصريف مصالحهم وتشجيع طموحاتهم ويحقق آمال أجيالهم ، الشريعة الإسلامية لا تبخس جهود الآخرين ومهاراتهم وارتقائهم في بناء مجتمعاتهم،وليست هي ناسخة - كما يظن البعض - لإبداعاتهم ومهاراتهم الحضارية بل الشريعة الإسلامية تشجع الآخر وتبارك جهود الآخر وتتعاون مع الآخر في كل عمل يحقق الخير والأمن والأمان والسلام للمجتمعات،الشريعة الإسلامية تدعو إلى عمل بشري جماعي للنهوض معاً بمهمة التكليف الرباني المشترك لعمارة الأرض بل لعمارة الكون وإقامة حياة إنسانية كريمة راشدة.الشريعة الإسلامية ترفض وتنكر الإساءة إلى الآخر وانتهاك حرمة الآخر والعزلة عن الآخر،الشريعة الإسلامية ترفض وصف المجتمعات المسلمة والدول المسلمة بأنها مجتمعات ودول (جاهلية) فهذه عبارة جانحة لا تستند إلى سند شرعي وتفتقر إلى العدل والإنصاف والحكمة،وتنتهك قيم الإسلام وأخلاقه ومقاصد رسالته السمحة في التعامل بين الحاكم والمحكوم، لأن مجتمعاتنا مجتمعات مؤمنة مسلمة والقائمون على أمور دولنا مؤمنون مسلمون،والخلل في السلوكيات والانحراف في الأداء الإداري والفساد في المعاملات بكل تأكيد خطايا يرفضها الإسلام ويمقتها،ولكنه لا تخرج صاحبها من ملة الإسلام ليوصف المجتمع من بعد بأنه ( مجتمع جاهلي ) فعبارة (جاهلي وجاهلية) تسقط شرعية المجتمعات وتلغي سيادتها وحرمتها،وهذا ما يستند عليه بعض الأفراد والتنظيمات في تشريع فقه الخروج على الحكام والدول ومحاربتها وتغييرها بالقوة،ويجعلون ذلك واجباً شرعياً بل هو من مقتضيات صحة الإيمان والاعتقاد والولاء والبراء،وهذا هو مصدر ظاهرة الفوضى والعنف والاقتتال والترويع والتدمير الذي يمارس باسم الله نصرة للإسلام إعزازاً لمكانة المسلمين. نعم الإسلام يمقت الظلم ويحارب الفساد ولكن بقيمه وآلياته وضوابطه ووسائله المعروفة والمحددة من قبل أهل العلم والدراية،وليس الأمر متروكاً للأهواء والنزوات والمبررات الفكرية والنزاعات السياسية بحال من الأحوال.ومرة سمعت أحد قادة التنظيمات الإسلامية يردد عبارة ( الدول العربية دول جاهلية ساقطة الشرعية ). فقلت له:يا أخي العزيز إن هذه العبارة تحتاج منك إلى مراجعة،فمثل هذا الإطلاق يترتب عليه أحكام خطيرة.قال:وما هي العبارة البديلة بنظرك ..؟قلت:العبارة المناسبة هي ( دول ناقصة الرشد ) فالرشد حالة نسبية،وهي بنظري عبارة تفي بالغرض المنشود من الإصلاح الذي لا يرفضه أحد. فاطرق الأخ الكريم رأسه متأملاً ما سمع. فقال شخص من الحضور:أي رشد هذا الذي تتحدث عنه يا دكتور فاعي ..؟إنها دول جاهلية بل هي أعتى في جاهليتها من الجاهلية الأولى.ودخل المجلس في هرج ومرج بين مؤيد ورافض،ولكن الشيء الجميل أن القائد المشار إليه سمعته من بعد- ولله الحمد - يردد عبارة :( دول عربية ناقصة الرشد) فذاك بكل تأكيد من الرشد الذي فاء إليه الأخ الكريم وفقه الله لكل خير.

وسوم: العدد 742