هل أهداف الجماهير العربية : كرسي وزارة ، وكأس في خمّارة !؟

ثمّة قصة حقيقية ، طريفة قصيرة ، ومعبّرة عن واقع الكثيرين ، من الساسة الذين يحشدون الجماهير في الساحات العامّة ، تظاهراً واعتصاماً وهتافاً وهياجاً..! حدثت القصّة في النصف الأول من القرن العشرين المنصرم ، أيام الاستعمار الفرنسي لسورية ..

تقول القصة : خرجت إحدى المظاهرات في شوارع حلب ، ومرّت في باب الفرَج ، مركز المدينة ، لتتّجه نحو السراي ، حيث مقرّ المحافظ ، والمسؤول الفرنسي الأعلى في المدينة . وكانت في منتصف باب الفرج خمّارة صغيرة ، لرجل أرمني اسمه (أبو جريج) . وحين وصلت المظاهرة أمام الخمّارة ، خرج من باب الخمّارة رجل متوسط في العمر، تبدو عليه الأناقة والرصانة ، يرتدي بدلة جديدة ، ويضع على رأسه طربوشا أحمر، وحول رقبته ربطة عنق ثمينة ، وينتعل حذاء جديداً، ويسير بهدوء ووقار! وحين رأى المظاهرة توجّه إليها، ودخل بين صفوفها ، ولا يعرفه أحد من المتظاهرين ، ولا يعرف أحداً منهم . وقد لفتت شخصيته (الأكابرية!) أنظار بعض الشباب في المظاهرة ، فقدّموه إلى الأمام ، ثم قدّمه الآخرون ، ثمّ الآخرون .. حتى صار في مقدمّة المظاهرة ، وهو لا يعرف لمَ خرجت المظاهرة ، ولا إلى أين تتّجه! وحين وصلت المظاهرة إلى غايتها، أمام مبنى السراي ، خرح إلى الشرفة المحافظ ، والمسؤول الفرنسي ، وكبار الموظفين في السراي، ووجّهوا إلى المتظاهرين سؤالاً عن مطالبهم ، فأشار بعضهم إلى الرجل الوقور الأنيق ، قائلين إنه مفوّض بشرح مطالب المتظاهرين . وحين استدعي الرجل إلى السراي، ليشرح مطالب المتظاهرين، سئل عن هذه المطالب، فصمت قليلاً، وقال : إن الخمّار (أبا جريج) يتقاضى ستّين قرشاً ، ثمناً لزجاجة العرق الواحدة ، ولا يقدّم لزبائنه سوى الخمر ، دون أية (مازة !) ونتمنّى أن تأمروه ، بأن يبيع بطحة العرق ( أي الزجاجة) بخمسين قرشا : أي نصف ليرة سورية ، وأن يقدّم شيئا من (المازة) لزبائنه ، كيلا يحرق العرق أمعاءهم .. ولو كان ذلك بعضَ حبّات الفستق، أو قطعاً صغيرة من المخلّل !

نظر الحاضرون ، بعضهم في وجوه بعض ، ثم سألوه : أهذه هي مطالب المتظاهرين!؟ فقال: نعم. فقيل له :إذا لبينا لكم هذه المطالب تتفرّق المظاهرة؟ فقال: نعم . فخرج القوم إلى الشرفه ، وأخرجوا معهم المندوب المفوّض عن المعارضة ، وأخبروا المتظاهرين بأن مطالبهم قد تحققت ! وليسألوا مندوبهم الذي فوّضوه بالحديث عنهم . وحين سأل بعض المتظاهرين المندوب، عن صحة الكلام، هزّ رأسه موافقاً ، وقال: تفرّقوا .. لقد تحقّقت أهدافكم . وتفرقت المظاهرة !

 *) فكم في الناس اليوم ، مَن يَسير وراءه الناس، مِن أمثال ذلك الرجل الأنيق الوقور، رجل المهمّات الصعبة ، والمفاوضات الناجحة الرائعة !

 *) وكم عدد المستوزرين ، الذين يحشدون الناس في الشوارع، ويحرّكونهم في مظاهرات حاشدة ، للضغط على أصحاب القرارات في بلدانهم ، حتى إذا حصلوا على موقع وزاري ، أو منصب رفيع، صرَفوا الجماهير (المناضلة!) ، وجلسوا يستمتعون بما حقّقوا ، من أهداف وطنية (نبيلة)!؟ /أمّا المخلصون من أصحاب القيم والمبادئ ، الذين يتصدّون لقيادة الجماهير، وتوجيهها نحو أهداف سامية نبيلة .. أمّا هؤلاء فمحاصَرون أساساً ، مضيّق علبهم ، في أكثر الدول المحكومة بأجهزة القمع والقهر..! وحين يتحركون ويحركون الناس ، تستقبلهم سياط الجلاّدين وعصيّهم ومسدساتهم.. فلا تلبث المظاهرة الصغيرة أن تتحول إلى ساحة معركة ، وإلى مجزرة أحياناً! ولو تمكنوا من الإمساك بالمفاتيح الحقيقية التي تحرك الجماهير، من قادة شعبيين، وعلماء، ونقابيين، وغيرهم.. لاستطاعوا كنس أعتى الأنظمة، بزمن أقصر، بكثير، من الزمن الذي يصرَف في العمل العشوائي المرتبك! وهذا ماتحسب له الأنظمة الفاسدة المتسلطة ألف حساب!/. وكثيراً ما تختلط الأمور، حين تحشد في الشوارع جماهير مختلفة الأهداف والنيات وعناصر التحريك ، فلا يميز المرء بين صاحب مبدأ وصاحب مصلحة ، وبين واعٍ يعرف تماماً ما يريد ، وغافل مستغفَل ، يتحرّك بإشارة من محرك ، لا يعرف مَن هو، ولا مِن أين جاء ، ولا إلى أيّة غاية ، يدفع بالحشود التي يحركها !/.

 *) وإذا كان أصحاب المطامح الشخصية ، لا يلامون على تحريك الناس لتحقيق أهدافهم الخاصّة.. وإذا كانت الجماهير الساذجة التي تحرّكها الشعارات ، لا تلام كذلك ، لأنها لا تملك الوعي الكافي، الذي يحصّنها ضد الاستغفال والاستغلال.. فعلى من يقع اللوم في هذه الحالة !؟ هذا السؤال مطروح ، على القوى الحيّة المخلصة الواعية ، في كل مجتمع ودولة ، بمن فيها النخب السياسية والثقافية والتربوية، التي وضعتها أقدارها ، في مواقع القيادة والريادة ، والتوعية والتوجيه ..! ولقد قال الشاعر:

ومَن رعَى غنَماً في أرضِ مَسبَعةٍ ونام عنها، تولّى رعيَها الأسد!

وسوم: العدد 744