مراجعات (4) النخب السورية و خطأ المسارات

أ.د.عبد العزيز الحاج مصطفى

المقدمة:

 كانت النخب السورية التي بادأها الحراك الوطني مع فجر الاستقلال، قد وجدت نفسها و لأول مرة، على محك من العلاقة مع ذاتها ( أولا) ، و مع الآخر ( ثانيا)؛ الذي كان يتطلب تعبيرا عن الذات يرتقي إلى المستوى الأعلى. فـ(زيد و عمرو) من الناس اللذان دخلا خانة العمل الوطني لم يكن بمقدورهما أن يكونا أكثر فاعلية، إلا إذا تعاضدا و تعاونا و عملا معا من أجل قضيتهما المشتركة. و كانت مسألتا( الانتماء و الالتزام) اللتان تعدان من موجبات العمل الوطني توجبان عليهما ذلك.

 و كان خلاف ذلك يعني انغلاقا على الذات، و قصورا في الفهم أديا إلى انحراف في الخيارات؛ بعضها عقلية، و بعضها حركية. و إلى أخطاء في المسارات لم يكن أحد يتصورها من قبل، و منها الاصطفاف مع الأعداء، أو الدخول معهم في تحالف واحد!!.

 و أخطاء المسارات أكثر ماتكون خطورة عندما تطال (المصلحة العليا) ، إذ أن الحيدان عن المصلحة العليا يؤدي إلى المفاهيم الخاطئة، و إلى السلوك الخاطىء. و المعروف أن الخطأ في المفهوم هو الذي يقود إلى الخطأ في السلوك. و بالتالي: تكون النتيجة حتمية و مدمرة.

 و الملاحظ – و المسألة ميدانية – أن النخب السورية حملت في ذواتها بعض الأمراض الموروثة، التي تعد من مخلفات القرون، و بعض الأمراض الوافدة، التي قذفها إليها التقليد الأعمى للأجنبي، كأن تكون تابعة له!!

الانتماء و الالتزام:

 وفي مواجهة ذلك كان لابد من القيم المستجدة التي توصف بأنها عليا، و التي تحول دون سقوط القيمة. و هذه القيمة هي التي يحتاجها الإنسان المنتمي و الملتزم. و (الانتماء و الالتزام) هما اللذان يوجبان التوقف عندهما، و التفصيل فيهما:

أولا – الانتماء:

 يعرف الانتماء بالمضاف إليه؛ كان نقول: بنو سورية، أو بنو العرب و يمكن أن يستعاض عن (بني) بـ(الأهل) فنقول أهل الحارة و أهل القرية إلى غير ذلك من صور الانتماء. و في هذه الحالة يتوالد لدينا معنيان: (المعنى الضيق). كأن نقول: الحارة و (المعنى الواسع). كأن نقول: الأمة. و عند هذه إما أن يرتقي الإنسان إلى المستوى الأعلى و الأوسع في تصوره، فيكون المفهوم لديه هو حاصل جمع كل هذه المكونات، و إما أن يهبط إلى مستويات أدنى، فيكون في مستوى الحارة و القرية. وفي هذه الحالة سيصطدم مع الأحياء الأخرى أو القرى الأخرى، أو المدن الأخرى و بالتالي سيؤدي اصطدامه إلى خلل في العلاقة بينه و بين الآخر، الذي تتطلب العلاقة معه رقيا في الأسلوب، و ارتقاء إلى ماهو أعلى في أصل الفكرة.

 ولانعدم المثل مع هذه الحالة؛ فعندما يشغل التفكير المناطقي في البلد الواحد أبناءه عن التفكير بالمصلحة العليا و ماتقتضيه من تضحيات أو بالأمة أو الدين أو بـ( القضية) بمعناها الأوسع تحدث العطالة، و يبدأ العد العكسي لوتائر التقدم، حتى تتدهدى إلى أسفل سافلين. فتخبط (السِفلَةُ) مع بعضها، و بالتالي: تكون الخسارة على الصعد الخاصة و العامة!!! إذ أن الإنسان مع هذه الحالة سينشغل بترهات الحياة و جزئياتها بدلا من كلياتها و بالتالي سيدخل في خصومة مع شركاء القضية، من أصحاب الأمس الذين كانت تجمعه و إياهم المصلحة المشتركة.

 و الخلافات التي طالت الاحزاب و الهيئات و الجماعات في سورية – على وجه التحديد – كانت مثيرة للجدل جدا وقد أدت إلى تصدع في جدار العمل الوطني، و إلى عطالة في الآليات الوطنية و بالتالي إلى تحجيم الدور الحركي، للحزب أو الجماعة أ الهيئة المختصة، أو بمعنى آخر الدخول في خانة السلبية. و هذا مايجب أن يعرفه المناطقيون بعامة: من أبناء الحارات و القرى و المدن المتصاغرة في طرحها. و بالتالي لايسمى الإنسان مع هذه الحالة منتميا؛ بل يخرج من الحانة، ليدخل بالصفة مع الوصوليين و الانتهازيين و ركاب الموجة، أو مع الذين حشروا في الخانة قسرا و دون إرادتهم. كأن تدفع به الوشاية إلى الهرب تجاه الآخر و هو ليس من خانته!! فيكون حضوره قائما على الغش و النفاق!! و صور ذلك مؤلمة و كثيرة.

 و إذا ألقينا نظرة عجلى على تاريخ النخب السورية منذ الاستقلال و إلى الآن نزداد فجيعة. فبعض الاحزاب السورية – و عمدتها النخب - نشأت نشأة مناطقية خالصة، كما أن بعضها الآخر أوغل في المناطقية إلى ماهو أبعد ! إذ أن المركب الطائفي الذي ركبه الطائفيون منذ ماقبل الاستقلال، هو الذي أوصل سورية إلى ماهي فيه الآن. و قيل ماقيل عن الطائفية فهي (كوليرا الشعوب) ماتفشت في قوم إلا أتت على بيضائهم. و الذي يجب أن نعرفه - بالضرورة - أننا و طنيا أمام صورتين من صور الانتماء:

-        الصورة الأولى: مقيتة و بالية، و أكثر سلبية. و تعنى الانغلاق على الذات، و هضم الآخر و إقصاءه و التآمر عليه و فضلا عن ذلك، فهي تنحط إلى مستويات دونية من المناطقية و تشغل ذاتها بالمخططات العدوانية التي من شأنها أن تؤذي و تضر!!

-        و الصورة الثانية: عزيزة و غالية. و هي إيجابية. و تعني الانفتاح على الآخر، و عدم هضمه أو إقصائه، و التعاون معه. و فضلا عن ذلك فهي تحلق في مستويات أعلى و أسمى و أوسع دائرة. و بديهي جدا أن من ينتمي إلى الأمة و يجعلها محور تفكيره ليس كمن يفكر مناطقيا، و يجعل محور تفكيره الحارة أو القرية أو المدينة صغرت أو كبرت.

ثانيا – الالتزام:

 لايذكر الالتزام إلا يذكر معه المبدأ، و يذكر معه ( التغاير) و (التباين). حيث يتولد من ذلك (القيمة) و عن القيمة يتولد (الموقف) الذي يمتاز به الإنسان الملتزم من غير الملتزم. و في مواجهة ذلك، تبرز (المستجدات) التي يكون التعامل معها تبعا للموقف الذي يصدر عن القيمة. و المواقف أصالة و التزاما من ميادىء الأمة العظيمة، و من خصوصيات النخب المثقفة، التي تبني نظراياتها على أساس من من مواقفها، وليس كحاطب ليل اختلط غثّه بسمينه.

 و مع مطلع الخمسينيات – و هو عصر تكون النخب - لما كان التباين و التغاير غير راشد و كانت حركة النخب أسيرة تكوناتها الأولى التي توصف بأنها غير ناضجة، سقطت في أتون من الصراعات غير المنتهية مع الآخر الذي كان و مايزال يعد شريكا لها في الوطن رغم ذلك التباين.

 وهذه الحقيقة - و هي بديهية – اقتضت إعادة النظر في تلك المسارات التي سلكتها النخب المثقفة و في مآلاتها بعد! وقد أدى تباينها إلى (سيرة ذاتية) و سخة جدا لأولئك الذين تصدروا النخب أو رسموا لها منطلقاتها النظرية التي كانت منزلقة تجاه ماهو أسوأ على وفق المعايير البشرية التي يقاس عليها عادة في المستجدات.

 فـ( الأمة و مصلحتها) من حيث القيمة تتقاطعان مع (الوطن) و (أمنه) من ناحية، و مع (المستقبل) و (مستجداته) من ناحية ثانية حيث يشكل مركز التقاطع (أفقيا و عاموديا) الموقف الذي كان على النخب أن تقفه، و هو مالم تفعله! وقد ثبت خطؤه بعد ، و هو خطأ طالما زهقت به أرواح و سالت دماء، و هدمت أسواق و مستشفيات و دور عبادة، بل و مساكن على ساكنيها و على أساس من ذلك، فهو يرتقي إلى مستوى الجريمة، و هو ماتحاسب عليه القوانين الأرضية و الشرائع السماوية، و هو مايوجب الموقف الجاد من النخب بعامة.

 لقد كانت المسارات التي سلكتها النخب المثقفة (السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية)؛ الشحصية و العامة، منذ أيامها الأولى خاطئة! و هي توحي بأن العربة هي التي تجر الحصان!! و إذا عرفنا أن العربة مسيرة آليا (بالريموت كونترول) من قبل صانع تلك العربة أدركنا خفايا المسألة!. فالنظام الذي قام قياما متحكما فيه منذ أيامه الأولى، لم يكن أمامه إلا أن يتابع سيره، و أن يعمل على وفق الإملاءات. و هذا هو سر الحقيقة!!

 الخاتمة:

 و بناء على ماتقدم فإن موجبات العمل الوطني تحتم على الإنسان (المنتمي و الملتزم) العمل بمايلي:

 أولا – أن يرتقي إلى المستوى الأعلى فيكون انتماؤه لأمته مقدما على أية انتماءات أخرى.

 ثانيا – أن يكون تباينه و تغايره مع الآخر على أساس من الموقف المسؤول الذي يصدر عن القيم العليا.

 ثالثا – أن يعرف أن خياره في الحياة هو خيار شرف و كرامة: و ان الابتعاد عن ذلك جريمة. و ذلك قياسا على ماحدث و مايحدث حاليا في سورية، و هو غير خاف على أحد.

 رابعا - أن يعرف أن الانتماء و الالتزام – و هما خياران توجبهما المصلحة العليا للأمة – خياران مقدسان، و أن التفريط بهما خيانة للمقدسات، لايسلك سبيلهما إلا من فقد القيمة، أو فقد البصر و البصيرة، فضلّ و أضلّ!!!

أ.د.عبد العزيز الحاج مصطفى

رئيس وحدة الدراسات السورية

مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

وسوم: العدد 745