اللهو الخفي اسمه.. !

المسالة واضحة فنحن في المجمل ضعفاء البنية نعاني من سوء التغذية، والبلهارسيا تسبح في دماء معظم الفريق مما يجعله مهدود الحيل مثلي تماما، فضلا عن غياب فكرة اللعب الجماعي. من تصل إليه الكرة يريد أن يصل لمرمى المنافس، ولكنه لا يصل أبدا!

تذكرت هذا وفريقنا القومي يقابل منتخبات دول إفريقية ليصل إلى مسابقة كأس العالم في موسكو المقرر انعقادها العام القادم 2018م. تنفق السلطة العسكرية الحاكمة منذ ستين عاما أو يزيد عشرات بل مئات الملايين من الجنيهات على النوادي الرياضية أو كرة القدم سنويا، وكان القادة العسكريون في عهد البكباشي يكادون يتفرغون لرئاسة الأندية الرياضية، فالمشير عبد الحكيم عامر قائد الجيش يرأس اتحاد الكرة الذي يشكل المنتخب القومي، والفريق عبد المحسن مرتجي قائد القوات البرية يرأس نادي الأهلي، والفريق صدقي محمود قائد سلاح الجو يرأس نادي الطيران، والفريق سليمان عزت يرأس نادي البحرية، وهكذا في بقية الأندية يرأسها قادة عسكريون ويمنحونها اهتماما كبيرا لعله يفوق اهتمامهم بالخطط العسكرية لمواجهة العدو، وهو ما تجلت نتائجه في هزيمة 1967 المذلة.

وأذكر أن صحفيا كبيرا اقترح على البكباشي إنشاء جريدة مسائية ( المساء) عام 56 لتكون بديلا عن الحياة السياسية التي دفنها سيادته ليتسنى له الانفراد بأم الدنيا، ولا ينغص عليه حزب أو جماعة سياسية مزاجه العام؛ فكانت المساء الجريدة التي رأسها الصاغ خالد محيي الدين بعد عودته من منفاه في سويسرا. وقد اهتمت الجريدة ومازالت بكرة القدم، حيث خصصت لها صفحات عديدة على عكس الصحف اليومية التي كانت تكتفي بصفحة واحدة أو صفحتين، وتركز على الشئون المحلية والخارجية وقضايا الرأي وغيرها. وحققت المساء نسبة توزيع عالية بسبب كرة القدم، ونجحت في تحويل الرأي العام إلى الانتماء إلى أحد حزبين: الأهلي أو الزمالك، فكان ذلك تعويضا عن إلغاء الأحزاب السياسية مثل: الوفد والأحرار الدستوريين والحزب السعدي والكتلة ومصر الفتاة والحزب الوطني، والأحزاب الشيوعية وغيرها...

صارت كرة القدم هي اللهو الخفي- العلني الذي يشغل الناس عن قضاياهم الكبرى والمصيرية، واذهب إلى مجلس تجد من فيه يتثاءبون أو يتقبلون الكلام من بعضهم بغير اهتمام، وتكلم عن أبو تريكة أو محمد صلاح أو خيشة أو... تجد العيون قد لمعت فجأة، وانحلت عقدة الألسنة، وبدأ أفراد المجلس يتسابقون إلى الحديث. كل يريد أن يدلي بدلوه، ويقنع الآخرين برأيه، وساعتئذ يعلو الصوت والضجيج، فقد سرت الحيوية في دماء الجالسين جميعا لأن الحديث في كرة القدم ونجومها.

لا تسلني ماذا سيفعلون عندما تحدثهم عن الأسعار والغلاء والفواتير وانقطاع المياه، والدروس الخصوصية، وسد النهضة، والديمقراطية، والمحاكمات الاستثنائية، وأحكام الإعدام والمؤبد والمشدد، وبناء السجون، وتجاوز سجناء الرأي والسياسة سبعين ألفا من اشرف الناس وأنبلهم، وانهيار التعليم والصناعة والزراعة والتصدير، وانحطاط الثقافة ووضاعة الإعلام...إلخ.

يفترض أن تكون كرة القدم فرصة لبناء الأجسام والعقول والأخلاق الكريمة، ولكن الشباب لا يلعبون، لأنهم لا يجدون ملاعب، بعضهم يلعب في الشارع، أو يتشاركون ويجمعون بعض الجنيهات ليستأجروا ساعة أو ساعتين في ملاعب بناها بعضهم على الأرض الزراعية الجيدة التي صارت بورا من أجل الكسب العاجل!

لا الفرق المشهورة في كرة القدم، ولا الفرق المغمورة تملك صناعة إنسان قوي متسامح، ولا جمهور يستمتع كما ينبغي ويتأثر بأخلاق الرياضة وروحها. إنهم متعبون، ومهدودو الحيل مثلي لأسباب شتي. نادر هو اللاعب الذي يملك المقومات الصحية والذهنية ورغبة التعاون مع زملائه في اللعب الجماعي، ولذا تجد عجبا في تفسير الهزائم أو الحصول على النصر.

اتهام الحكام صار أمرا سائدا في كل مباراة تجري فيها هزيمة، أقصى ما يطلبه الفريق ألا يمنى بهزيمة ساحقة، بل يتعادل ويحفظ ماء وجهه، هناك من يلجأ إلى الدجالين والعرافين لعمل أحجبة أو صناعة عمل (سحر)، من أجل الفوز، أو خسارة الفريق الآخر، من لا يصلي ولا يذكر الله في حياته اليومية، يدعو ربه من أجل الفوز أو التعادل ليصل إلى الدور النهائي أو قبل النهائي. وتستمع إلى المذيع الرياضي صاحب الحنجرة الميكروفونية وهو يجأر بالدعاء: يا رب.. يا رب.. يا رب.. ويدعو الجمهور إلى ترديد الدعاء من أجل الوطن والنصر.. مثل الأم التي تدعو لابنها الطالب الذي لا يذاكر وتدعو الله أن يساعده على الغش.. "غشّشه يا رب!".

وأطرف أو أعجب ما تسمع وتقرأ أن "الإخوان المسلمين " وراء هزيمة المنتخب، أو أن شماتتهم كانت من وراء الخسارة 6/1 أمام غانا، أو أنهم لا يحبون أن يفرح الشعب بوصول المنتخب إلى موسكو! ونسي الانقلابيون الفاشلون في كل شيء حتى في اللعب أن الإخوان في السجون المكتظة، وأنهم لو كانوا خارجها ما استطاعوا أن يحوّلوا فريقا متهالكا يعتمد على لاعب واحد إلى فريق قوي منتصر! 

ثم إن القوم يتجاهلون أن الحكم العسكري الدموي الفاشي يكسر النفوس ويفتت القلوب، فليس فيها مكان للفرح الحقيقي، أو الإحساس بلذة الفوز على فريق من بلاد أخرى. إنه يحول الفرد إلى كائن جبان خائف مذعور منافق يرضى بالدنية ولا يبدع!

لقد كانت كرة القدم بحق ملهاة جعلت المصريين في حجاب عن ممارسة حياتهم مثل بقية الشعوب التي تملك إرادتها، وتنفذ اختياراتها، وتشارك في صنع حاضرها ومستقبلها. وللأسف فإن انتصار فريقنا القومي على الفرق الإفريقية لا يؤهله بالضرورة للفوز على الفرق التي تتنافس في موسكو لأن قدراته محدودة وإمكاناته متهافتة، فضلا عن فقدان الدافع القومي في جمهورية الخوف الذي يطيح بكل بارقة أمل في مجالات الحياة، باستثناء إنجازات العبودية والحفر والخرسانة. ولله الأمر!

الله مولانا. اللهم فرّج كرب المظلومين. اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!

وسوم: العدد 748