التاريخ.. بين الصراع وفلسفة الحقيقة للأجيال !

سهيل مناصر

[email protected]

وأنا أكتب في هذا المقال تحت عنوان: التاريخ بين الحقيقة وفلسفة الحقيقة للأجيال، أشعر بشيء من التخوف و ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقي... فانا أصغر بكثير ان أكتب حول موضوع بكل هذا الثقل ولكنني مستعد لذلك...

لقد مرضت لمدة ثلاثة أيام وأنا اقرأ كتاب " عميروش... حياة، موتتان، وصية" لكاتبه الدكتور سعيد سعدي، وقد حدث لي ذلك ربما لأنني تفاجأت كثيرا لما قاله حول الكثير من الشخصيات البارزة و الزعماء التاريخيين على غرار الرئيس السابق هواري بومدين، وربما لان عقلي الصغير لم يستطع استيعاب كل تلك الاحداث المفصلة في أكثر من 315 صفحة، استغرق لكتابته أكثر من أربعين 40 عاما من البحث و التدقيق و الاستماع للشهود و الاطلاع على الوثائق، خاصة وأن كل ما تضمنه الكتاب تعارض تماما مع الصورة المرسومة في ذهني كطفل... ! عن تاريخ الجزائر عامة وعن تاريخ تلكم الشخصيات خاصة، وقد فهمت ها هنا أن التاريخ شيء عجيب أكبر من أن تختصره بضع كلمات ولا مجموعة مؤلفات أو أفلام وثائقية تدون وتروي لنا التاريخ وغالبا ما يكون ذاك التاريخ الرسمي، الذي أؤمن بحق بمقولة أن " التاريخ الرسمي الذي يكتبه المنتصرون ليس كل الحقيقة "، وفي هذه الملحمة التاريخية ها هي صورة الصراع تتجلى في ثوبها... لتواجها بكل جرأة فلسفلة الحقيقة للأجيال.

" يعرف سعيد سعدي كيف يهز الضمائر... لأن الذاكرة في الجزائر دائما ساحة للمواجهة. و المعركة.. حقيقة وحامية." (لوموند)

هذا ما كتبته جريدة لوموند عن كتاب سعيد سعدي، وهذا ما هزني حقا... وجعلني أطرح العديد من الأسئلة فهل حقا ما كتبته الجريدة الفرنسية أن الذاكرة في الجزائر دائما ساحة للمواجهة؟.

كل هذه الأسئلة التي لا استطيع أبدا الإجابة عنها، حقا قد هزت ضميري وجعلتني أحاول تبين مسؤولياتي كشاب من الجيل الخلف للسلف من المجاهدين البسلاء و الشهداء الأبرار الأوفياء، ولكن ما أؤمن به أن التاريخ بحلوه ومره يجب أن يخضع لفلسفة الحقيقة للأجيال، فالتاريخ آن الاوان له أن يكون ساحة للاستدراك وعدم تكرار نفس الأخطاء و الاستنباط من حقائقه وأحداثه فالخطأ التاريخي قد حدث في حين حاضره و التاريخ في واقع الأمر ليس ساحة للحساب أو المحاسبة ليكون ذلك - الذريعة – من أجل انتقاء الذاكرة وصياغة تاريخ رسمي فيوازيه آخر غيره، وبالرغم من أن موضوع الذاكرة يتقبل في واقع أمره عديد الروايات و القراءات و الأقوال و المشاهد إلا أن دور التأريخ ها هنا ليؤرخ للحدث بين كل هذا وذاك، وهنا تستوقفني عبارة قراتها على غلاف كتاب "عميروش"، هي: فهو - أي الكتاب - إذ يسائل الذاكرة يخاطب المستقبل. وها هنا أتنفس...

إن الصراع في حد ذاته هو التجاذب بين الآراء و الأفكار المتفاوتة الحدة في ما بينها وقد يكون الصراع ناعما كما قد يكون قويا وحادا وبين ذلك وذاك ينبغي الاقرار أن الصراع حالة صحية عادية إلى حد ما وهو أيضا عامل إيجابي في شق من شقوقه، إلا أن حدة الصراع ومع دخول الحسابات الشخصية والجهوية و ... وحسابات اخرى ربما تتعلق بالمصالح الطبيعية أو ربما بأشياء أخرى قد يشكل بذلك حالة صداعية مرضية، ليكون بذلك عاملا سلبيا قد يأثر من جهة أو أخرى.

والصراع التاريخي شكل من أشكال الصراعات التي ظهرت لسبب أو لآخر وبين أن يكون عاملا إيجابيا لتأريخ الاحداث و الوقائع والمجرى الطبيعي للتاريخ الذي يكتبه المؤرخ، فبالتالي حالة صحية، وبين أن يكون حالة صداعية مرضية وأن يكون أيضا ساحة لاستدراك الأخطاء و تخطيط المستقبل من رصيد الماضي وتحديات ورهانات الحاضر وبين أن يكون كذلك ضدا من اضداد الحقيقة، تبقى الحلقة مفقودة... وتبقى الحقيقة أسمى واكبر من اي صراع، قد يرهن المستقبل ويعكر الحاضر ويشوه ذاكرة الأمة لتكون الذاكرة بحق ساحة للمواجهة.

" أغلب من كتبوا مذكراتهم حرفوا الحقائق التاريخية، ومنهم المؤرخ المعروف محمد حربي، خالد نزار وغيرهما، وعلى سبيل المثال، فقد وردت في مذكرات نزار أن بومدين أعطاني رسالة، عندما كنت أشتغل ملحقا عسكريا بسفارة الجزائر، لتسليمها للمصريين في السنوات الأولى للاستقلال ليأخذوا الأسلحة المتبقية هناك، وهذا ليس صحيحا، إذ لا توجد رسالة أصلا، وهنا أراد خالد نزار ضرب عصفورين بحجر واحد، لأن بومدين أتى به من باريس وبعثه إلى بشار، وعمار بن عودة كان له موقف من حزب فرنسا ... فهل هذه كتابة تاريخ؟" 

هذا ما قاله بالحرف الواحد المجاهد الكبير عمار بن عودة، أحد رواد الثورة التحريرية وإطارات جزائر ما بعد الاستقلال في حوار اجرته معه جريدة الخبر الجزائرية.

قد يكون تصريح مثل هذا، شيء جميل، وشيء مهم، وشيء رهيب في نفس الوقت من شانه أن يعطي خيوط الحقيقة للأجيال ومن شانه أن يصحح مسار الذاكرة، ويجسد مبدأ الراي و الرأي الآخر، فماذا لو عمل كل واحد بحق الرد؟ ليصحح بذلك ما قد يرد من الخطأ او ربما شيء آخر... ولكن المؤسف في ما يشابه الأمر أننا قد لا نجد من يتسلح بالشجاعة الكافية او ربما قد لا يجد المبررات اللازمة ليدخل نفسه في مواجهة لا يرى لها أهمية... ليتنكر بذلك الواجب الوطني نحو الأجيال بحقهم في الحقيقة و الحقيقة فقط، فالتاريخ كما قد سبق وأن قلت سالفا ليس ساحة للحساب و المحاسبة بقدر ما أنه ساحة للاستدراك فالتاريخ هو الذاكرة و الذاكرة بحلوها ومرها تبقى أنها التاريخ، وقع الحدث في حين حاضره وليس للحاضر ان يحاسب الماضي إنما عليه أن يفكر في المستقبل مستنبطا من رصيد الماضي ومستشرفا المستقبل في ظل تحديات ورهانات الحاضر، فالتاريخ بوجه آخر هو تجربة. وما دام في الحياة قلب ينبض نبض الثواني و الدقائق فغن الحياة مستمرة وهناك دوما أمل في كل صباح مع كل اشراقة شمس...

والحقيقة في فلسفتها تدل على عدة معان، فهي الصدق في تعارضه مع الكذب، وهي الواقع في تعارضه مع الوهم. فـالحقيقة أحد الإشكالات الكبرى في مجال نظرية المعرفة وفلسفة العلم. فحينما يؤكد المرء وجود أو حدوث أمر ما، فهو يعتبره حقيقيا. وفي هذا السياق، تهتم فلسفة المعرفة بالبحث عن حلول للعديد من المسائل الفلسفية المتعلقة بموضوع "الحقيقة".

ونحن نتحدث ونتناول موضوع الحقيقة - التاريخية - يتبادر في ذهن كل عاقل سؤال من المسؤول عن إيصال هذه الحقيقة للأجيال؟ فبالتالي الأخذ بأيديهم نحو المستقبل ونحو بناء الذاكرة فبالتالي بناء الهوية ومعرفة الجذور.

وقد يكون جواب هذا السؤال أن من عايشوا الأحداث و شهدوا لها يتحملون مسؤولية كبيرة ملقاة على عاتقهم لسرد حقيقة الحدث، ولكن أمام نزعة "الانا" و ضغط المصالح ونقص الشجاعة الكافية للتسليم بالخطأ قد نشكك في حقيقة الأحداث التي يضمنها البعض في مذكراتهم، وفي ذكر هذا الأخير نتبين أهمية كتابة المذكرات.

وبالرغم من ان المذكرات تبقى أنها شخصية وتتحمل دائما إمكانية تناول الوقائع من منظور شخصي بين ضوابط ضمير "الانا"، إلا أنها تسمو لتكون واجبا وخطوة نحو التأريخ و تبيان خطوط الحقيقة، ووضع المادة الخام لدى من هم أهل لتناول التاريخ بموضوعية بعيدا عن كل مزايدات شخصية.

وهنا قد يتبادر إلى الذهن أن هذا الشخص الذي سيجعل من المذكرات مادة خام لتناول التاريخ بموضوعية أنه هو المؤرخ الذي قد يتحمل بدوره جزءا كبيرا من مهمة إيصال الحقيقة للأجيال.

- والتأريخ في فلسفته وحقيقته قائم على مبادئ معنوية، تستهدف فهم الحقيقة، والفصل بين الحق والباطل - وسرد الأحداث وصياغة ذاكرة الامة وسرد الحقيقة دون سواها.

وفي شأن المؤرخين قد أكون وعقلي اصغر بكثير للتطرق في جوانب هذا العلم القائم بحد ذاته... وفي جوانب شؤون من أعلم مني وأكبر مني عقلا وعلما وشانا، إلى انني سأكتفي فقط بسرد خواطر خوالجي، ونداء الضمير الذي جعلني كشاب جزائري إذ يحاول تبين مستقبله وهنا تستوقفني كلمة قلتها كنت قد القيتها في إحدى المؤتمرات التأسيسية لإحدى الأحزاب السياسية التي قد حلت نفسها بنفسها في ما بعد شرفوني باستضافتي وتقبلي ضيفا بين مؤتمريها، إذ قلت: "بودي اليوم أن أخاطب فيكم حسكم الوطني وقيمكم الإنسانية ورؤيتكم الاستشرافية لمستقبل بلدي الجزائر... إنني في هذه اللحظات.. خائف.. خائف من مستقبلي لأنني اليوم بينكم طفلا وغدا أكون رجلا.. و أكون واحدا من بين الجيل الذي سياتي ليخلفكم أنتم اليوم..."

وكنت بذلك اقصد توجيه رسالة ضمنية مفادها أن مصير مستقبل أجيال اليوم يتحملها الكبار من أبناء هذه الأمة، وهذا الأمر حقا ما جعلني اطرح إشكالية: اي مستقبل للأجيال !، في ظل كل التحديات و الرهانات التي تعيشها الشبيبة المسؤول المباشر بتحمل مسؤولياتها التاريخية في حمل المشعل لطرح نفسها وجعل كيانها قوة في الطرح لاسيما أنها أكبر فئة من العريضة شعبية...

وكقناعة شخصية لا تحيد أبدا عن سكة المسار الذي اخترت ان اسلكه وكمبدأ بالبند العريض من بين مبادئي التي أعيش وأناضل من أجلها فإن مستقبل الأجيال الذي إذ أساءله بين ثنايا سطور عملي هذا... أن التاريخ جزء لا يتجزأ من المستقبل بل أن التاريخ إذ أعتبره نقطة الانطلاق والبدء في مسار بناء الإنسان - ودعوني أقول بالتحديد - في مسار بناء الإنسان الجزائري الذي سوف تربطه علاقة وطيدة بين الأجيال المتعاقبة بالمعنى الحقيقي لمفهوم "تواصل الأجيال"، إذ أنه من حقه، أن يعرف التاريخ ويساءل الذاكرة ويفتخر بأمجاد وبطولات اسلافه البررة في قالب "الحقيقة" التي سوف نحتاج لشيء من الشجاعة لقولها. كما أنه من واجبه، أ ن يبحث عن تاريخ وطنه ويستنبط من عبقرية اسلافه ويعمل على نسج خيوط الحقيقة ليدرك تاريخه الحقيقي ولا يكون عرضة لمزايدات من يستغل هذا فراغ الحقيقة لأغراض ولأخرى ولان الحقيقة شيء طبيعي والشيء من المسلمات فإنه لا يتقبل الفراغ.

وبين حق الأجيال في معرفة الحقيقة وبين واجب المبادرة لمعرفة الحقيقة و مساءلة الذاكرة، يبقى أن الطبيعة لا تقبل الفراغ !.

خلال السنتين الماضيتين ألمت على الجزائر مصائب مسلسلة قد سلمنا بها ما دامت قضاء الله وقدره، فقد فقدت الجزائر رجالات من المقامات التاريخية الكبيرة وذات الوزن الثقيل.. وبعيدا عن كل الحسابات الجانبية فإنني حقا تألمت لهذا الأمر وشعرت بشيء من الجرح العميق لأنني أشاهد مقامات التاريخ ترحل عنا أو بالأحرى أشاهد أن الحلقات من مسلسل التاريخ وأمجاد جيل نوفمبر الخالد، تمر علينا ونحن لم نستفد من ذاكرتها كما يجب ولم نعرف أن نستغل وزنهم لمعرفة الحقيقة للأجيال، وشعرت بشيء من المسؤولية ايضا، فأظن أنه ليس من المعقول أن يغادرنا الكبار دون ان يتركوا لأبنائهم الصغار شيئا من رصيدهم وذاكرتهم التي حقا ستأبى النسيان ما سردت... ولان اجيال الجزائر لا تتنكر لصناع تاريخها فإن ذاكرة الكبار بالرغم من كل شيء سوف تكون دائما الوصية التي ستتوارثها أجيال الجزائر على مدى حلقات التاريخ الذي سوف يذكر وبكل فخر أن الجزائر قد كانت ولا تزال أمة الأحرار...

وفي هذا المقام، بودي ان ألا أتنكر لمجهود بعض تلكم القامات التي اجتهدت على الأقل لكتابة وسرد جزء من ذاكرتها وتتركها للأجيال وإن كانت قد تركت كرة معرفة الحقيقة في ملعب قد أقول عنه أنه مجهول - إن صح القول -.

وفي ختام مجمل ما أقوله في سطور هذا الفصل، أنني قد لمحت وكتبت كثيرا عن تاريخ الثورة الجزائرية إلا أنني أؤمن أيما إيمان أن التاريخ الذي علينا أن نسرده للأجيال ليس فقط هو ذاك الذي يتضمن بطولات وأمجاد وسلسلة حلقات مسار تحرير الجزائر، إنما أدرك أيما إدراك أن الأجيال التي ستأتي في المستقبل ستبحث عن الحقيقة التاريخية لتاريخ حاضرنا الذي نصنعه اليوم وإذ سوف تساءل عن الحقيقة لما عايشته الجزائر من كل أحداث أليمة كانت أم سعيدة وإن تحدثت في الحاضر عن رموز حلقة ما من حلقات مسلسل التاريخ فتأكدوا أنه سيأتي من قد سيطرح نفس السؤال الذي أتساءله اليوم وربما سوف أكون حينها واحدا من الكبار الذي يجب ان يأخذوا بيد الصغار نحو معرفة الحقيقة وربما انه حينها سأكون جزءا من التاريخ وأتحمل مسؤولياتي في سرد الحقيقة وإن كانت علي !، وحينها ايضا سأسرد حقيقة الموقف لأن موقف التسلح بالشجاعة لسرد الحقيقة أدرك أنهل ليست بالأمر الهين والسهل بما كان، إلا أنه من الواجب ومهما طال الزمن ان تعرف الحقيقة ويملئ الفراغ... فتجري الطبيعة بما جادت في مسارها الطبيعي.

وإن تحدثت في الحاضر أن حلقة من حلقات مسلسل التاريخ حري بنا أن ندرك أنه قد مرت في سنة 2013، خمسون سنة من الاستقلال فأفما آن الأوان لمعرفة الحقيقة؟