أردوغان في السودان

الاحتفالات الصاخبة ، شعبيا وةرسميا ، التي صاحبت وصول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى هناك كانت لافتة ومثيرة ، كما كان الاستقبال الذي حظي به الزعيم التركي في البرلمان السوداني ، وصيحات التكبير والتهليل ، تؤشر إلى أن أردوغان وصل إلى قلوب مفتوحة له قبل أن تفتح له أراضيها ومؤسساتها .

أردوغان في كلمته ، وتصريحاته ،كان ذكيا عندما ربط التاريخ بالحاضر ، ليس كسلطنة وخلافة ،وإنما كرباط أخوي بين الشعبين المسلمين ، التركي والسوداني ، وعندما ذهب إلى جزيرة "سواكن" التاريخية على البحر الأحمر ، لم يستحضر أنها كانت مرفأ عسكريا للقوات العثمانية ، وإنما تحدث عنها كمعبر تاريخي للمعتمرين والحجاج إلى ميناء جدة المقابل على ساحل المملكة العربية السعودية ، وأن المستثمرين الأتراك سيعيدون لها مجدها الديني كمعبر للعمرة بتقنيات حديثة ، كما تحدث بشيء من العفوية عن أنه يشعر أنه في اسطنبول وليس في الخرطوم ، من فرط الحفاوة وروح الأخوة التي ظللت لقاءاته .

أردوغان في رحلته إلى السودان اصطحب معه مائتين من رجال الأعمال الأتراك في مختلف المجالات ، صناعية وزراعية وسياحية وتجارية ، وكثيرا ما يفعل ذلك في سفراته الخارجية ، لأنه يفتح لرجال الأعمال الأتراك ـ أبناء بلده ـ أسواقا جديدة ، ويساعدهم على الانتشار ويدعم استثماراتهم بعلاقاته السياسية ، ويصنع لهم من حضوره جسرا إنسانيا واقتصاديا وسياسيا يساعدهم ويفتح لهم القلوب والأسواق معا ، لذلك يفوز أردوغان منذ خمسة عشر عاما بأي انتخابات يخوضها ، في مجالس بلدية أو برلمانية أو رئاسية ، إنه يقول لشعبه بصفة دائمة : أنا جئت لكي أخدمكم ، دوري هو أن أخدمكم ، وكان أمينا في كلامه ، وصدقه سلوكه وفعله .

زيارة أردوغان للسودان انتهت إلى شراكة استراتيجية بالغة الأهمية ،ومتشعبة ، فهي شراكة في مجال الاستثمار الزراعي الضخم ، حيث هناك مشروع يقضي بأن يتولى الأتراك زراعة مليون فدان محاصيل متنوعة ، وشراكة صناعية في أكثر من مجال منها مجالات صيانة السفن الحربية إضافة إلى تأسيس مصانع تركية في مجالات متنوعة ، وشراكة سياحية ،حيث تعهد بتطوير وتحديث جزيرة سواكن وجعلها قبلة سياحية عالمية ، كما كانت هناك شراكة عسكرية حيث اتفق الطرفان على تأسيس ميناء عسكري تركي سوداني على البحر الأحمر .

هذا الذي فعله أردوغان كان من المفترض بداهة أن يفعله الرئيس المصري ، فالسودان جزء من مصر ، تاريخيا وجغرافيا وشعبيا ولغة وثقافة وميراثا مشتركا ، شعب واحد في جوهره ، كان المفترض أن تكون تلك الشراكة الاستراتيجية هي مشروع مصر ، وليس مشروع تركيا ، وكان يفترض أن تكون السودان هي بوابة مصر الاقتصادية على أفريقيا وليس بوابة تركيا ، ولكن مصر ـ في زمن التقزم وغياب الرؤية وعقم الفكر الاستراتيجي ـ انشغلت بسباب البشير وسباب السودان والتحرش بالجار الشقيق والاستفزاز والعنجهية التي يحسنها إعلام فاشل وجاهل وفاسد ومفسد ، والتراشق بالاتهامات والتهديدات على خلفية قضية حلايب وشلاتين والاستعلاء البغيض في الموقف من المسألة الليبية رغم أنها تخص السودان بقدر ما تخص مصر ، عسكريا وأمنيا على الأقل ، وإبداء الإدارة المصرية حفاوة واهتماما بجنوب السودان على حساب العلاقة التاريخية بالخرطوم أو نكاية فيها ، وتجاهل الرئيس المصري زيارة الخرطوم أو دعوة الرئيس السوداني على برنامج عمل وشراكة شاملة ، فلم يحدث سوى زيارة قصيرة وخاطفة لها طابع بروتوكولي ، وكل ذلك مما صنع مرارات في النفوس وجعل الأبواب شبه مسدودة بين البلدين الجارين والشقيقين .

لن يفيد أن توجه الأجهزة "إياها"أدواتها الإعلامية لشتيمة أردوغان أو عمر البشير ، بعد ما جرى أمس ، وهو ما ظهرت بداياته في أكثر من منبر صحفي وإعلامي موالي ، فالأمر على نحو ما كانت العرب قديما تقول في تندرها : "أوسعتهم شتما وراحوا بالإبل" ، فهناك "حزام" سياسي واقتصادي وعسكري وثقافي تركي يتشكل في السودان الآن ، ويعزل مصر عن أفريقيا ، وستزداد تلك العزلة مع نجاح تركيا في الانطلاق من البوابة السودانية إلى وسط أفريقيا ، وهنيئا لنا بالهتافات والشعارات والأماني..

وسوم: العدد 753