كائناتُ السّياسةِ

محمد الهجابي

[email protected]

كائناتُ السّياسة تخبطُ الأزقّة الفرعية في المجيء والذّهاب،

على مدار الفصول، ولا تتعبُ،

ولا تملُّ.

يا لخسارة أحذيتها اللامعة،

إذ تلبطُ بها الرصيفَ من غير أن تدلفَ إلى حانات الشارع في الجانب،

فلربّما تقافزتِ الكؤوسُ ذات القائم الواحد الممشوق، فوق السطيحة الطولانية للكونطوار، حالما تعلن عن بهاء طلّتها عند الباب.

ولربّما مسحتِ البارميدُ على جلدتها بأنامل رقيقةٍ؛

أنامل مطليّة الأظافر بأحمرٍ قانٍ،

وغمَرتها برُضاب.

يا للخسارة الفادحة لهذة الأحذية،

وقد أضاعت خيطَ الرّجعة، فبدت كضفادع مستنقعاتٍ تزنخُ بروائح الاختناق.

كائناتُ السّياسة عند النواصي تنشرُ محفظات النقود وحسابات البنك على المكشوف كالمومسات،

وتغمزُ،

وتكشرُ،

وتطرطقُ العلك بصوت عالٍ، ثمّ تمجّه، بعد حينٍ، في فقاعاتٍ لأشرطةٍ مصوَّرةٍ توجّ بكلامٍ للاستمناء،

يا لخسارة ألسنتها، وقد استهلكتِ الأسَلةَ، وصار حرفُها رافعةً لرياضة التزحلق، شتاءاً على الجليد، وصيفاً على كثيبِ الرمل، وما بينهما على البطن.

ما همُّ بطنها الدحلة إن رُكّبت للقرْع والنفير.

ما همُّ أشداق هذه الكائنات إنْ تورّمت،

ثمّ سُوّيت، تجميلاً، بمساحل للافتراس.

تباً، لوقتٍ شطّ عن الحاجة،

وبات غرضاً من الأغراض التّافهة للمزاودة في سوق النِخاسة،

أو غسيلاً مستعمَلاً لحبالٍ فوق السطوح،

وفي الشرفات.

لَهفي الحارقِ على هذه المخلوقات اللطيفة، الفانتاسطيكية،

وهي تستلقي في مساقط حُبابات الكهرباء،

تتلوّى على الجنبيْن.

ترتفقُ الرأسَ،

وتفرقُ بين الفخذيْن.

ترفعُ العقيرة بالغواية،

على سعة خارطة الضحكة الممتدّة ما بين الفسحة الرحيبة لمقهى «باليما»* وبين خرم القبّة المحدّبة، في الوزان،

كما لو تتقرّى نظرةَ حنين،

وطبطبةَ كتفيْن.

لَهفي عليها، وهي تتغذّى بمُصالةٍ موصولةٍ بأنبولاتٍ من دم الهامش.

تتوزّعها بالتقسيط المُمعن، وعلى مهلٍ،

قطرةً، قطرةً،

لحظةً، لحظةً،

نغمةً، نغمةً.

كائناتُ السيّاسة لا تتعبُ،

ولا تملُّ،

يا لنفَسها الطويل.

يا لجَساراتها المدهشة،

حينما تعتلي الركح،

وتؤدّي دورها وفقَ المطلوب.

يا لفتنها الماحقة كلّما جعلت تتغنّجُ وتتدلّعُ وتتدلدل.

يا لروعتها، إذ تشرعُ في شلح ما علق بها من عريٍ،

وتفعلُ كما عند كلّ وصلةِ ستريبتيز،

وتفعلُ بدافع الرّغبة الماجنة،

وتفعلُ في كلّ حين.

كائناتُ السّياسة هذه وُلدت في المجاري،

وتناسلت في الإردبّات.

كائنات الدهاليز والأقبية، هي.

لَهفي على مقار لتجميع ضروب الأشْنات.

لَهفي على منظر اصطفاف حاويات الزّبالة في المنصّات.

لَهفي على أوداجٍ مستنفرَةٍ، بالقدر الذي يجب، وبالملمتر تماماً، كما أوداج شَدقمٍ،

أو بائعٍ دوّار.

كائناتُ السيّاسة الخارقة هذه لا تني تتجنّب الشارع العريض.

يا لكسائها الشيْهم،

يا للسانها الحرباء كيف يطول منها الجسمَ كلّه وأزيد،

يا لفشيش مرورها، فيما هي تُلقم الفمَ الأهتم َالأُصبعَ الأصغر،

يا لأقنعتها التنكريّة المتقنة، التي لا تفصح،

يا لزجاج بصرها المظلّل،

يا لحلَجها في المشي وتفخّتها الآسر،

يا لدهائها الباذخ،

يا لنزَقها الصارخ،

يا لرعونَتها الغامرة.

كائناتُ السيّاسة، سيان إن تكوْسجَت، وتسوّكت بسواكها أو بسواك غيرها،

أو تملّطت، وتعطّرت،

وتليّنت أو تنمّرت،

وتسالمت أو تثعلبت،

سيان، إن ارتدت سراويل قواميس الأسماء جميعها،

وصارت تفقهُ قمصان اللغات، وتلهجُ بقفازات الإشارات،

وتجيدُ العزف على حبال العنق، وتمهرُ في استعمال أبواق الأصوات.

سيان، إن جمعت الأصابعَ في الإضمامة، أو أدارتها أنصاف دوائر، أو بسطتها. أو لمّت رؤوسَها كاملةً، أو فرجتها.

سيان، إن صرفت الإبهام على الوسطى والسبابة، أو وازت السبابة والإبهام ثمّ حوّرتهما أماماً.

هي حركاتٌ، حركات.

سيان، إن أفردت، أو قلَبت، أو عقفت، أو أرتبت، أو قعدت،

أو خطَت إلى الأمام، أو خطَت إلى الوراء،

حركاتٌ، مجرّد حركات،

لا تُغنمُ أثراً،

ولا تُورثُ صنيعاً.

كَائناتُ السّياسةِ لن تبارحَ أزقّتها المعتمةِ.

فهي لا تتعبُ،

ولا تملُّ.

_____________

* مقهى معروف بقلب العاصمة الرباط (المغرب).