هل النقد الأدبي الأوروبي عالميٌّ ومُلزِم للأمم؟

مقدمة 

نشأت الآداب الأوروبيّة متأثرة بالعقل الفلسفيّ الذي أبدعها وأفرزها، فهي تحمل نكهة البيئة التي خرجت منها، ولذلك فهي تمثل خصوصيّة البيئة والثقافة واللغة والعقل الذي أنتجها ضمن بيئات أوروبا المختلفة، التي يجمعها التراث المشترك للعقل الفلسفيّ، بالإضافة إلى النّكَهَات المحليّة لتلك البيئات. 

وحركة التطوّر والتجديد فيها لا تستقر على حال، لأنّ التطور المستمر الذي تقلبه الأدواء والمصالح والأحوال، هو ديدن العقل الفلسفيّ الملول المتقلّب، الذي تحركه عقيدة الحرّية المطلقة، فما أنْ تظهر حركة فنيّة أو فلسفة أو مذهب أدبّي على يد فرد أو مجموعة من المبدعين، وقبل أن تستقر أحوالها، حتى تكون مجموعة أخرى قد استعدّت لها بالمرصاد، لتكشف لها نواقصها وعوراتها، إنها فلسفات ومذاهب تُطارد بعضها كالرّمال المتحرّكة. 

أما الحركة النّقدية فلم تكن بعيدة ولا منفصلة عن مرجعيّتها الثقافيّة السابقة، بل شكلت هذه المرجعيات الرؤية الفكريّة للمذاهب الفنيّة والأدبيّة والنقديّة، ويمكن إعادة التنظير النقديّ في أصوله الفلسفيّة والفنيّة إلى مصدرين رئيسين هما: 

1-مصدر فكري: يعود إلى مجموع فلسفات العقل الأوروبّي، التي شكلت مرجعيّة تراكميّة من هذه الفلسفات، اجتمعت خلاصتها في العلمانيّة الحديثة التي تدور حول ( نفي الثوابت والحرية المطلقة للإنسان في النواحي الفرديّة والإبداعيّة جمالياً وفنياً، والتقلّب ا لمستمر الذي لا يستقر على حال). 

2-مصدر أدبي: وهي النصوص الأدبيّة والإبداعيّة من شعر ومسرح ورواية وغيره، حيث يتم استخراج المذاهب الأدبيّة والنقديّة من متابعة النص في تكوينه وتطوّره، ومن الموحِيات السابقة لفكر العقل الفلسفيّ. 

 

2-هل النقد الأوروبي عالميٌّ ومُلزِم للأمم؟ 

مما سبق تبين لنا أنّ النقد الأوروبّي نشأ في بيئة ثقافية لها مرجعيّتها (الفكريّة والأدبيّة) ونظرياته تحمل رؤية النقاد الأوروبيين المستخلصة من (الفلسفة والنص الأدبيّ) وهي تحمل تجارب الأوروبي في واقعة اليومي الجغرافي واللّغوي والفكريّ والفني، ولذلك فهو نقد محلي يجمل نكْهة البيئة التي وُلد فيها، وهو نقد له خصوصيّة وتاريخ وظروف وتجارب، تجمعه ثقافة لها همومها وفروقها وقواسمها المشتركة المخالفة للبيئات العالميّة. 

وهذا معناه أنّه ليس نقداً عالمياً، ولا مُلزماً للأمم الأخرى، لأنّ الأمم تتباين في مرجعيتها الفكريّة وفي نصوصها الإبداعيّة وأذواقها الفنيّة وتجاربها الحضاريّة. 

إذن ما هو سبب هذا الوهم الذي أوجد في عقولنا أنّ التجرِبة الأوروبيّة في الآداب هي حالة دائمة وعالميّة، ولا مَناص من قبولها وغير ذلك من الذّيول؟! 

مع أن ّهناك تجارب أدبيةً ونقديةً أخرى، لشعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، لم ينظر لها بهذا المنظار، لماذا صوروا لنا النقد الأوروبي كأنه قدر محتوم، لا بد من قبوله؟ وأوقعونا في فخّ الانبهار به، والخضوع له، ووصفوا نظرياته بأنها عالمية، وقابلها على الجانب الآخر هجوم رُمِيت فيه ثقافتنا بالضّحالة والضّعف والانتحال، أو أثير في وجهها عاصفة من الأسئلة الماكرة، طمسًا للحقائق أو الترويج لأفكار معينة، أو تضخيما لأفكار أخرى أو إنكارا أو سخرية أو… . 

ولقد زال العجب عندما عرفنا أنّ جيشاً من المستشرقين، وجيشاً من تلاميذهم من المغربين، كانوا يمهدون الطريق لثقافة المستعمر، جنباً إلى جنب مع جيوشه العسكريّة، نعم كان سبب ذلك أنّ الثقافة الأوروبيّة ومنها الثقافة النقديّة دخلت إلينا تحت حِراب الاستعمار وحمايته. 

وإذا عرفنا أنّ العقل الفلسفيّ الأوروبّي لا يؤمن بنظرية (التعارف البشريّ) الإسلاميّة ومعارضها التي ذكرنا، ولكنّه يؤمن بتذويب الآخرين ويستعمل (القوّة والقسر والتخطيط والخديعة) في إذابة خصائص الأمم الأخرى وإخضاعها، إنّها ليست تبادلاً حضارياً، ولكنها عملية أشبه بعملية التذويب الكيميائي. 

وهكذا وصل إلينا النقد الأوروبي عن طريق الترويض الثقافي؛ لأنه ثقافة إجباريّة أدخلت إلينا حين مارسنا الانفتاح مرغمين ومجبرين، استقبلناها بعمى المبهور ونفسية المغلوب على أمره. 

هذا من جانب ( ومن جانب آخر لا ننسى أن العلوم التجريبية، لا يوجد فيها علم كيمياء أمريكي، وآخر ياباني، وآخر عربي، وكذلك الأمر في علم الفيزياء لا يوجد علم فيزياء إسلامي وآخر مسيحي وآخر يهودي؛ لأنّ حقائق المادة تلوي عنق المؤمن والكافر للإيمان بها، فحالات المادة: الصلابة والسيولة والغازيّة لا تجامل أحداً، ولذلك نخضع لحقائقها حتى تتعلم وتستفيد منها) فهي علوم عالميّة تصدر وتستورد ،وهي ميراث عالمي لجميع الأمم، رغم أنها لا تخلو خلال صياغتها من التأثير الفكري لمن صاغها. 

أما في علوم (الظاهرة الإنسانية المعقدة فالأمر مختلف تماماً، فهي علوم محليّة ذات خصوصيّة وتميّز بين الأمم، والخلاف والتمايز فيها هو الأصل، ومع وجود نسب من التماثل والاتفاق بحكم النواحي الإنسانيّة المشتركة بين أبناء الجنس البشري، لكنّ الاختلاف والتباين أوسع وأعمق بحكم اختلاف العقائد والأفكار والثقافات واللّغات والبيئات وغيرها، هذه العلوم: كعلوم التاريخ والسياسية والاقتصاد والاجتماع والنفس والتربية والفنون والآداب ومنها النظريات النقديّة، فكلها علوم محلية بيئيّة، تعبّر عن خصائص الأمم وأفكارها وشخصيّتها وتميزّها؛ لأنها علوم أو فنون تعالج الظاهرة الإنسانيّة في مجتمع معين ومحدد، والإنسانيّة ليست واحدة في عقائدها، ولا في أفكارها، ولا في أذواقها، ولا حتى في عقدها وأمراضها، لأنها ليست موحدة كالظاهرة الماديّة وسنن الكون. 

 

تنظيف الرّكام: 

ومن القضايا المهمة في تنظيف الرّكام عن هذا العقل المسلم أن تشير إلى الدور التخريبي الذي مارسه الاستعمار على هذا العقل، حيث وضع الاستعمار خططه المبكرة، للسيطرة على الوطن العربيّ منذ أواسط القرن الثامن عشر، وكان الاستعمار الثقافّي يسبق الاستعمار العسكريّ ويمهّد له، ضمن مراحل كل مرحلة تُفضي إلى الأخرى وضمن المسار التالي: 

1-المرحلة الأولى: اختراق الدولة العثمانيّة وإنشاء المدارس التنصيريّة والمدارس والمعاهد والجامعات التابعة لها، بهدف نشر التعليم باللغة العربيّة وإحياء الثقافة العربية، ليس حباً في العرب ولغتهم، وإنما بهدف مساعدة العرب حتى تنمو لغتهم التي أماتها العثمانيّون، حتى يصلوا إلى مرحلة نمو اللغة ونمو الشخصيّة القوميّة والشعور القومي لإقناعهم بالانفصال عن الدولة العثمانيّة، فعلى سبيل المثال كانت الجامعة الأمريكية في بيروت تدرس العلوم والآداب جميعها باللغة العربية منذ تأسيسها ،حتى إذا تمّ لهم انفصال الوطن العربي عن العثمانيين عادت الجامعة الأمريكيّة إلى تدريس المواد جميعها باللغة الإنجليزيّة ثم عاد المستعمرون إلى محاربة اللغة العربيّة وفرض لغاتهم علينا. 

2-المرحلة الثانية: قام جيش الاستشراق وتلاميذه من أبناء جِلدتنا بتوجيه عملية الإحياء اللغوي والثقافي للثقافة العربية، لإيجاد ثقافة عربية هشّة ضعيفة، تقوم على إحياء ثقافة التلوّث والضّعف خدمة لسياسات دولهم وحتى يضمنوا لدولهم عدم ميلاد ثقافة عربيّة إسلاميّة جادّة تقف في وجه ثقافتهم، وعمدوا إلى تضخيم بعض قضايا الثقافة العربيّة، بهدف التشكيك في مصادر هذه الثقافة مثل: قضايا الانتحال، والتحكم في الدراسات الأدبيّة وتاريخ الأدب، والتركيز على إحياء ثقافة العصر العباسي، المتأثّر بالثقافة اليونانيّة، وضخّموا ثقافة ذلك العصر ووصفوه "بأنه العصر الذهبي" للثقافة العربيّة الإسلاميّة لأهداف خبيثة، حيث قاموا بإحياء ثقافة الفِرق الباطنيّة والصوفيّة، وإحياء كتب الفلسفة الإسلاميّة اليونانيّة، وعلم الكلام، ثم التركيز على إحياء أدب اللهو والمجون والخمر والغناء، وتسليط الضوء على فِتن العصر العباسي ومَثَالبه، لزرع اليأس في قلوب أبناء الأمّة، ولإجاد مرجعية أصالة مزيّفة يُحتَجّ بها في خِداع العقل المسلم عن ذاته، عند التكلم عن الأصالة والمعاصرة، ثم تحقيق عدد من الأهداف البعيدة منها إبقاء المسلم المعاصر مشغولاً ومشدوداً خارج مرجعيّته الحقيقية مرجعيّة الوحي ( القرآن الكريم، السنة النبوية الشريفة) ثم الاكتفاء بثقافة التلوّث والتمزّق في العصر العباسي؛ لأن هذا العصر بما فيه من ثقافة فلسفيّة تعود جذورها إلى العقل الفلسفي اليوناني، تساعد نفسيّة هذا المسلم للقبول بالثقافة الأوروبيّة الحديثة لما بينهما من أواصر القربى في المرجعيّة. 

3-المرحلة الثالثة: حيث تجمع أبناء الطوائف القديمة التي صنعت ثقافة التلوث والانشقاق الثقافي في العصر العباسي ( الفرق الباطنية، النصارى، واليهود) وقد سنحت لهم الفرصة من جديد للقيام بنفس الدور السابق الذي قام به أجدادهم المؤسسون، لتشكيل وجه الثقافة العربية بتلوث جديد يضاف إلى ما صنعته فرقهم في ذلك العصر، وبعد أنْ ضعف دور الاستشراق حيث جاء دورهم في تغريب الأمة ضمن الأدوار التالية: 

1-الدّعوة إلى الانسلاخ عن تُراث الأمّة، والالتحام بالتراث الثقافي الأوروبي وتيارات الحداثة فيه، وإحياء ثقافة الحركات الصوفيّة والباطنيّة في العصر العباسي، واختراع نظريّات الفكر الإقليمي بإحياء الوثنيات القديمة ( الآشوريّة، والبابليّة، والفنيقيّة) لمحاربة الدّعوة للوحدة العربيّة، وكان لهذا الفكر دعاتُه من أبناء جميع الطوائف في بلاد الشام والعراق. 

2-الدّعوة إلى فكر القومية العربيّة المنسلخة عن الإسلام، وتعبئة الفراغ الفكريّ الناجم عن هذا الانسلاخ باستيراد الفكر الرأسمالي، والحداثة والعلمانيّة والاشتراكيّة، وقد غلب على هذا التيار أبناء الطوائف النصرانيّة في بلاد الشام والعراق. 

3-استيراد الفكر الاشتراكي وتأسيس الأحزاب الشيوعيّة في الوطن العربي، وقد غلب على هذا التيار أبناء الطائفة اليهوديّة. 

4-الدّعوة إلى الانسلاخ عن العروبة والإسلام، والالتحاق بالحضارة الغربيّة وقد غلب على هذا التيار أبناء النصرانية في مصر. 

ورغم انضمام أعداد كبيرة من أبناء المسلمين إلى هذه التيارات، إلا أنّهم في أكثرهم كانوا تلاميذ وتابعين لأبناء تلك الطوائف، وقد لاحظ الناقد الكبير إحسان عباس الذي يمتاز "بالعلميّة الجادة" أنّ دوافع طائفيّة وراء الدّعوة إلى الانقطاع عن تُراث الأمّة وأشار إلى ذلك في كتابه ( اتجاهات الشعر العربي المعاصر) حيث يعزو سبب عزوف بعض الشعراء المعاصرين عن التراث إلى : (أن هناك من الشعراء أقلّيات عرقية ودينية ومذهبية في العالم العربي، وهذه الأقليات تتميز عادة بالقلق والديناميّة، ومحاولة تخطي الحواجز المعوّقة، والالتقاء على أصعدة (أيدلوجية) جديدة، وفي هذه المحاولة يصبح التاريخ عبئاً والتخلص منه ضرورياً، أو يتم اختيار الأسطورة الثانية؛ لأنها تعين على الانتصاف من ذلك التاريخ بإبراز دور تاريخيّ مناهض). 

وتمكنت هذه الفئات من تضليل شرائح كبيرة من النّخب الثقافيّة من أبناء المجتمع الإسلاميّ في طول الوطن العربي وعرضه، وبذلك دخلت إلينا (العلمانيّة الأوروبيّة) التي تفصل الدّين عن الحياة، وترضى بسيطرة العقل الفلسفي عليها، ثم تمّ تفصيل هذه العلمانيّة ليشمل الحياة بكاملها، فصل الدين عن الدولة، فصل الدّين عن الأخلاق، فصل الدّين عن الاقتصاد، فصل الدين عن العلم، تحت مبرر أننا لن نتقدم إلا إذا طرحنا الدين من حياتنا كما فعل الأوروبيون، وقد نسيَ هؤلاء أنّ مرض العداء للدّين هو قضية محليّة، تخص المجتمع الأوروبي وعلاقته مع الكنيسة؛ لأنهم لا يعرفون خصائص العقل الفلسفي الذي يتعامل مع (المسيحية) من منطق الفلسفة البراغماتيّة، فهو ينفصل عنها عندما تقف في وجه تطوّره، ولكنه يعود فيستعملها لخدمة مصالحه عندما يحتاج إليها في "تنصير" الشعوب لأجل استعمارها! 

ثم جاء دور (العلمانيّة الأدبيّة) التي تفصل الدين عن الأدب؛ لأنّ الدين كما يزعمون يتدخل في حرّية الأديب، ويقيّدها مع أنهم يرضون بسيطرة العقل الفلسفيّ على الأدب، ولا يرون ذلك عيباً. 

ولئن سألتهم، لماذا هذا المكيال الجائر؟ أليس الأدب: رؤية، وموقفاً، وبناءً فيناً؟ فلماذا تسمحون للعقل الفلسفي الضّالّ أنْ يتحكّم به؟! ولماذا ترفضون أنْ يتدخّل الإسلام في الأدب؛ مع أنّ الإسلام يشكل الرُّؤية والموقف للأديب، ثم تأتي قضيّة البناء الفني كقدرة وموهبة وخبرة للتعبير عن هذه التجربة؟! يتهربون ويلوون رؤوسهم؛ لأنّ المضبوع لا يعي شيئاً سوى اللّحاق بضابعه يسير إلى حتفه بظلفه.

وسوم: العدد 787