تَوْظِيفُ مَصَادِرِ الْأَدَبِ فِي تَدْرِيسِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ

تَوْظِيفُ مَصَادِرِ الْأَدَبِ فِي تَدْرِيسِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ

د. محمد جمال صقر

[email protected]

1

رُوِّينا في تربية الأولاد: "لَاعِبْهُ سَبْعًا، وَأَدِّبْهُ سَبْعًا، وَصَاحِبْهُ سَبْعًا، ثُمَّ اتْرُكْ حَبْلَهُ عَلَى غَارِبِهِ"! وعلى رغم مَجازيّة السبع يجوز اعتبارها في ترتيب مراحل تربية الأولاد، لِتتنزَّل عليها مراحل تمكينهم من مصادر الأدب، على النحو الآتي:

1 سَبْع المُلاعَبة ورُجْحان التحفيظ،

2 سَبْع التَّأْدِيب ورُجْحان التفهيم،

3 سَبْع المُصَاحِبة ورُجْحان الإِيعاب.

في سبع السنوات الأولى ينبغي أن تكون مَشْغَلَة مُرَبّي الأولاد تحفيظهم متون مصادر الأدب؛ إذ هم عندئذ -وإن لم تكن لهم قدرة كبيرة على فهمها أو استيعابها- أقدر على حفظها منهم فيما بعدُ، على أن يتولى تحفيظهم مَنْ أُوتِيَ مع حُسْن تَحَبُّبه إليهم مهارةَ تَمْثيل الأداء؛ فعندئذ يخفّ عليهم الحفظ ويتعلقون به تعلقَهم بمُحفِّظهم. ولقد زرت مرة أحد إخواني، فدقَّ عليه بابَه بعضُ من يحفظهم من الأطفال ليُسَمِّع له غيرَ صابر إلى مُلتقاهم الموعود، على حين يسأل اللهَ غيرُهم أن يُصبِحوا على نَعي مُحفِّظهم!

 ثم في سبع السنوات الثانية ينبغي أن تكون مَشْغَلَة مُرَبّي الأولاد تفهيمهم ما حفظوا، فيمر بهم عليه، ويَقِفُهم على معاني مفرداته وعلى أفكار مركباته وعلى رسالة مراده، وربما وَقَفَهُمْ على دواعيه ونتائجه -حتى تَتَجلّى في فهومهم قيمتُه- على أن يَتولَّى تَفْهِيمهم مَنْ أُوتِيَ مع حُسن تَحبُّبه إليهم كذلك مهارة ربط الأشياء بعضها ببعض مؤتلفة ومختلفة في عبارات قريبة لطيفة.

ثم في سبع السنوات الأخيرة ينبغي أن تكون مَشْغَلَة مُرَبّي الأولاد إِيعابهم ما حفظوا وفهموا ليكونوا هُمْ وما حفظوا وفهموا شيئًا واحدًا يقومان معا كما يقعدان معا ويذهبان ويجيئان ويعيشان ويعملان، على أن يَتولَّى إيعابهم مَنْ أُوتِيَ مع حُسن تَحبُّبه إليهم مهارة تصنيف الأعمال وتوزيعها والمشاركة فيها وإدارتها؛ فَأَنْ تُصَاحِبَ عَالِمًا عَامِلًا خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَحْفَظَ مِئَةَ كِتَابٍ، كما قال مصطفى صادق الرافعي، رحمه الله، وطيب ثراه! وما أحسن في تمثيل بلوغ الغاية ما قالت أُمُّنا عائشة -رضي الله عنها!- في زوجها رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!-: "كَانَ قُرْآنًا يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ"!

2

واللغة العربية بُنيان فَنِّي وعُرْفِيّ باطنه التفكير العربي وظاهره التعبير العربي. بنيان ذو ستة أجهزة متواصلة متفاصلة:

جهاز الأصوات الذي يُنْتِجُ الأصوات والمقاطع، ويَدْرُسُهما في حالَيْهِما الفنية والعرفية علومُ العَروضِ والبديعِ والأصواتِ.

جهاز الصيغ الذي يُنْتِجُ صيغ الكلمات، ويَدْرُسُها في حالَيْها الفنية والعرفية عِلْما البديعِ والصرفِ.

جهاز المعاني الذي يُنْتِجُ معاني المفردات، ويَدْرُسُها في حاليها الفنية والعرفية عِلْما البيانِ والدِّلالةِ.

جهاز المركبات الصغرى الذي يُنْتِجُ التعابير والجمل، ويَدْرُسُهما في حاليهما الفنية والعرفية عِلْما المعاني والنحو.

جهاز المركبات الوسطى الذي يُنْتِجُ الفِقَر والنصوص، ويَدْرُسُهما في حاليهما الفنية والعرفية عِلْما النقد والنص.

جهاز المركبات الكبرى الذي يُنْتِجُ الكُتُب والجَمَاهِر(الأعمال الكاملة)، ويَدْرُسُهما في حاليهما الفنية والعرفية عِلْمُ الفلسفة.

ولا بد في تقديم الفن على العرف من التنبيه على تقدم الحركة اللغوية الفنية على الحركة اللغوية العرفية، وسبق اللغوي الفنان لِلغوي العرفي إلى كل إنتاج لغوي.

3

منذ رُوِّيتُ: "الْإِنْسَانُ بُنْيَانُ اللَّهِ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ هَدَمَ بُنْيَانَهُ"، لم يَقَرَّ لي على غيره قَرارٌ، بل مضيتُ قُدُمًا أَدَّعِي اتصاف آثار الإنسان المتقنة كلها بصفة البُنْيانِيَّة نفسها، التي اتصف بها في أصل خلقته، فكان كيانا مركبا باطنه روحه وظاهره جسمه. ومن هذه الآثار المتقنة لغته التي تَتَجلَّى بُنْيانِيَّةُ كِيانِها في مُرَكَّبِها من التفكير الباطن والتعبير الظاهر.

ولقد ينبغي ألا يغفل متأمل اللغة الإنسانية عربيةً وعجميةً، عن أن أول نشاط الإنسان لها إنما هو عمل فني خالص، يُبادر إليه أحدُ الفنانين تفكيرا وتعبيرا، ثم يتبعه عليه غيره، حتى يتعارفوا عليه جميعا؛ فيتأصل فيما بينهم، لِيُبادر إلى غيره، وهكذا دَوَالَيْكَ، حتى إذا لم  يَبْقَ فنانٌ جَمَدَت اللغة على أعرافها!

وكما يَتكوَّن بنيان الإنسان الروحي والجسمي من أجهزة مختلفة مؤتلفة، يَتكوَّن بنيان اللغة التفكيري والتعبيري؛ فينشط مثل أنستاس الكرملي لكتابه "نشوء اللغة العربية ونموها واكتهالها"، ومثل جرجي زيدان لكتابه "اللغة العربية كائن حي"؛ فيشغب عليهما مَنْ يُميِّز تعاقبَ أعمال أجهزة البنيان اللغوي مِنْ توازي أعمال أجهزة البنيان الإنساني، وبَقاءَ البنيان اللغوي من فناء البنيان الإنساني.

4

أولُ أجهزة بنيان اللغة العربية الستة إذن جهاز الأصوات الذي ينتج الأصوات الصامتة والصائتة وغيرهما، مستقلةً بنفسها أو متركبةً في مقاطعها، وفنيةً ثائرة مدهشة يبحث عن أمرها عندئذ علما العروض والبديع، أو عرفيةً هادئة مألوفة يبحث عن أمرها عندئذ علم الأصوات.

وثاني هذه الأجهزة جهاز الصيغ الذي ينتج صيغ الأسماء وصيغ الأفعال وغيرهما، فنيةً ثائرة مدهشة يبحث عن أمرها عندئذ علم البديع كذلك، أو عرفيةً هادئة مألوفة يبحث عن أمرها عندئذ علم الصرف.

وثالث هذه الأجهزة جهاز المعاني الذي ينتج المفردات المترادفة والمتضادة وغيرهما، فنيةً ثائرة مدهشة يبحث عن أمرها عندئذ علم البيان، أو عرفيةً هادئة مألوفة يبحث عن أمرها عندئذ علم الدلالة.

ورابع هذه الأجهزة جهاز المركبات الصغرى الذي ينتج التعابير المَوْصوليّة والإضافية وغيرهما والجمل الاسمية والفعلية وغيرهما، فنيةً ثائرة مدهشة يبحث عن أمرها عندئذ علم المعاني، أو عرفية هادئة مألوفة يبحث عن أمرها عندئذ علم النحو.

وخامس هذه الأجهزة جهاز المركبات الوسطى الذي ينتج الفِقَر المُتآلفة والمُتخالفة وغيرهما والنصوص المُتعارفة والمُتناكرة وغيرهما، فنيةً ثائرة مدهشة يبحث عن أمرها عندئذ علم النقد، أو عرفيةً هادئة مألوفة يبحث عن أمرها عندئذ علم النص.

وسادس هذه الأجهزة جهاز المركبات الكبرى الذي ينتج الكتب المُتآلفة والمُتخالفة وغيرهما والجماهر المُتعارفة والمُتناكرة وغيرهما، فنيةً ثائرة مدهشة أو عرفيةً هادئة مألوفة، يبحث عن أمريها جميعا عندئذ علم الفلسفة.

ولا يعمل جهازُ المركبات الكبرى حتى يفرغ من عمله جهاز المركبات الوسطى، ولا هذا حتى يفرغ من عمله جهاز المركبات الصغرى، ولا هذا حتى يفرغ من عمله جهاز المعاني، ولا هذا حتى يفرغ من عمله جهاز الصيغ، ولا هذا حتى يفرغ من عمله جهاز الأصوات. ومهما تداخلت هموم المفكر المعبر فلن يضطرب جَرَيانُ نظام التعاقب على أعمال الأجهزة الستة كلها.

5

ومصطلحُ التدريس (تعليم المواد اللغوية) أدقُّ في هذا المقام من مصطلح التعليم، وهو مما شاع في العامة تمييزه؛ إذ يتحمل بذخيرته المعجمية دونه ثلاثة المفاهيم المتكاملة الآتية:

1 التَّبْيِين،

2 والتَّرْوِيض،

3 والتَّوْجِيه.

فأما التبيين فتوضيحٌ لا يترك فيه المدرس شيئا من غوامض المادة اللغوية حتى يوضحه، وكأن لم يكن قطُّ غامضًا، مستغلقا كان أو مُحيِّرًا. ثم أما الترويض فتَذْلِيلٌ لا يترك فيه المدرس شيئا من نوافر المادة اللغوية حتى يُذَلِّلَهُ وكأن لم يكن قط نافرا، رائغًا كان أو مُتفلِّتا. ثم أما التوجيه فإِعْمَالٌ لا يترك فيه المدرس شيئا من مهملات المادة اللغوية حتى يعمله، وكأن لم يكن قط مهملا محتقرا كان أو مجهولا.

ولن يقدر المدرس على توجيه المادة اللغوية إلى حيث يَسْتَحْسِنُ حتى يُرَوِّضها، ولن يروضها فتكون أطوع له من يمينه حتى يُبيِّنها تبيينا يَتَسَابَقُ معه إلى الاستيعاب باطنُها وظاهرُها.

6

وفي حرف الجر "في" (رابط توظيف مصادر الأدب بالتدريس، المستعمل في العنوان)، تنبيهٌ على ثلاث علاقات ينبغي أن تستقر بين مصادر الأدب وتدريس اللغة العربية:

تَعْمِيق عمل هذه المصادر،

وتَوْطِين هذا العمل،

وتَمْكِينه.

ومُقْتَضَى تَعْمِيق عمل مصادر الأدب في تدريس اللغة العربية، أن تكتمل مادتُها المستشهد بها في مُعْتَمَداتها، ولا تُجْتَزَأ فتَتَشَوَّه ويَسْخر منها مُتلقّوها. ومُقْتَضَى تَوْطِين عمل هذه المصادر أن تستقرّ مادتُها في مُعتمَداتها، ولا تَقلق قلق الغريب الطارئ على غير وطنه فيَنْفِر منها مُتلقّوها. ومُقْتَضَى تَمْكِين عملها أن تستولي مادتها على معتمداتها، فلا يكتمل شَرْحُ فكرةٍ حتى تتجلى فيها فيؤمن متلقوها بأنها هي الفكرة المشروحة قد انتشرت حية تسعى.

7

وما الأدبُ هنا غير فنون الكلام العربي، التي تُنِير نتائجُها بَصيرةَ مُستوعبها، وتُهذِّب سلوكه، فتَزيد إنسانيَّتَه، وتَحفظ عُمرانَه؛ فيحيا بها حياةً أطيبَ من التي حييها قبلها، وهي:

1 القُرْآن الكَرِيم،

2 والشِّعْر النَّفِيس،

3 والنَّثْر الشَّرِيف.

وكما تَميَّزَ الشعرُ النفيس من النظم تميز القرآن الكريم من النثر. وكَرامتُه عظمتُه وجَلالُه على قائلِهِ -حتى لقد أَقْسَمَ به- وعند المسلمين، حتى لقد احتكموا إليه، واستغنوا به. ونَفَاسَةُ الشعر جَوْدَةُ معناه ومبناه جَوْدَةً واحدةً مُتفرِّدةً لا تَلْتَبِسُ ولا يُفَرَّطُ معها فيه. وشَرَفُ النثر رِفْعَتُهُ وظُهورُه على سائر النثر ظُهورًا ثَبَتَتْ له به الإِمامَةُ البَيانيَّةُ.

وليس أَلْطَفَ من تَوارُد القرآن الكريم والشعر النفيس والنثر الشريف، على الرسالة والمقدار أَنْفُسهما؛ فإنه إذا كانَ وتُؤُمِّلَ حَقَّ تَأَمُّلِهِ تَجَلَّى فَرْقُ ما بين فنون الكلام العربي وموضع بعضها من بعض.

8

وليس من فنون الكلام العربي المرادة بالأدب هنا، مُتُونُهُ المجموعة في معاجمها المنقسمة على ثلاثة أقسام:

1 مَعاجِم الأَلْفَاظ،

2 ومَعَاجِم الأَسَالِيب،

3 ومَعَاجِم الشَّواهِد.

إذ مُتونُ الكلام العربي كلُّها في فُنُونِه، وليستْ فُنونُه كلُّها في متونه؛ فما معاجمُ الألفاظ غيرُ مَجامِعَ مَرْصُودَةٍ لاستقصاء ما يتيسر من الكلمات المنفردة المؤتلفة والمختلفة، وترتيبها، وتمييز بعضها من بعض بما يتيسر من مميزات. ومن أهمها "لسان العرب" لابن منظور.

وما معاجمُ الأساليب غيرُ مَجامعَ مَرْصُودَةٍ لاستقصاء ما يتيسر من التعبيرات المُجْتَزَأة المُؤْتَلفة والمُختلِفة، وترتيبها، وتمييز بعضها من بعض بما يتيسر من مميزات. ومن أهمها "أساس البلاغة" للزمخشري.

وما معاجمُ الشواهد غيرُ مَجامِع مَرْصُودَةٍ لاستقصاء ما يتيسر من الجمل المنفردة، وتمييز بعضها من بعض بما يتيسر من مميزات. ومن أهمها "مجمع الأمثال" للميداني.

وعلى رغم جدوى متون الكلام العربي ينبغي ألا تلتبس بفنونه وألا تشغل عنها، بل تَعْرِض في أثنائها عُروضًا. ولا حُجَّةَ للانقطاع لها بعمل كبار أدبائنا ممن قَبْلَ أبي تمام والمتنبي والمعري إلى من بَعْدَ الرافعي والعقاد وشاكر؛ فإنهم إنما ركبوها موجةً في بحر استيعاب فنون الكلام العربي، ودفقوها صُبابَةً في سيله.

9

ومصادر الأدب هي ينابيعه التي تَتَدَفَّقُ منها للناهلين مادةُ فنون الكلام العربي، مثلما تتدفق مياه العيون الثَّوّارة الفَوّارة؛ فلا تمتنع عليهم، ولا تنقطع بهم. ولا تخلو من هذه الصفات الثلاث الآتية مجتمعة معا:

1 أَصَالة مادتّها فيها،

2 واسْتيعابها لها،

3 وكِفايتها بها.

أما أَصالةُ مادة فنون الكلام العربي في مصادر الأدب، فأَنْ تكون هي موطنَها الطبيعي، لا مَعْرِضَها الطارئ؛ فالمصحفُ هو موطن القرآن الكريم لا محاضرات الراغب الأصفهاني، والجامعُ الصحيح هو موطن حديث رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- لا سيرة ابن هشام، وديوانُ أبي تمام هو موطن شعره لا موازنة الآمدي.

وأما استيعابُ المصادر لمادة فنون الكلام العربي، فأَنْ تشتمل عليها كلها من غير أن ينقص منها شيء؛ فالمصحفُ والجامعُ الصحيح وديوانُ أبي تمام هي المصادرُ أيضا، لا الرُّقْية الشَّرْعية ولا الأربعون النَّوَوِيّة ولا المُختارات البَاروديّة.

وأما كفايةُ المصادر بمادة فنون الكلام العربي، فأَنْ تسُدَّ كل حاجة إليها من غير تقصير ولا تحريف؛ فديوان أبي العتاهية بتحقيق الدكتور شكري فيصل مثلا، أولى بالمصدرية منه بتحقيق غيره.

10

أما التوظيف نفسه (الذي في العنوان) فهو منهج معاملة مصادر الأدب في أثناء تدريس اللغة العربية، بثلاثة الأعمال الآتية:

1 إِشْراكها،

2 وتَرْتِيبها،

3 وتَثْبِيتها.

فبإشراكها في التدريس تَختصّ بجزء واضح من المباحث المقررة، لا يُستخفّ معه بها. وبترتيبها في التدريس تَختصّ بموضع مناسب مما قبلها ومما بعدها من المباحث المقررة، لا يَضْعُفُ معه تَأثيرُها. وبتثبيتها في التدريس تَختصّ بنصيب لازم من المباحث المقررة، لا يُستغنَى معه عنها.

إنها إنْ تَخْلُ مِنْ تَقاليد عَرْض المسائل العلمية الجارية في الكتب التعليمية، لم تَخْلُ من حَيويَّة التجارب الاستعمالية الطبيعية غير المتكلفة، التي تفتقر إليها الكتب التعليمية، ولا تَقدِر على عرضها عرضا صحيحا كافيًا.

وربما جاز هنا تَمْثِيل التوفيق إلى تَوْفِية أعمال الإشراك والترتيب والتثبيت التوظيفية، بصفحات إنترنتية مُوفَّقة مشهورة، درجت على تمييز بعض كلماتها المفتاحية دون غيرها مما في سياقاتها، باللون الأزرق المضيء المعروف، حتى إذا بَلَغَها القارئُ، فنَقَرَها- أَخَذَتْه إلى صفحات أخرى مصدرية، تُفَصِّل من شأن هذه الكلمات ما يعينه على استيعاب تلك السياقات.

11

ولقد أنعم الله علينا من وسائل حفظ مصادر الأدب ونقلها وعرضها، بما لم يخطر ببال سلفنا؛ فإذا كان المدرس منهم يعتمد على قراءته من حفظه أو من مكتبته الوَرَقِيّة فقط، فإن المدرس منا يعتمد مع ذلك على قراءته وإقرائه من مكتبته الرَّقْمِيّة المصورة وغير المصورة وكلِّ مكتبةٍ رقميةٍ أخرى مُتاحة على شبكة الإنترنت؛ فكما نهضت القراءة بالطباعة نَهْضتَها السالفة من ضيق الإملاء، تنهض بالرَّقْمَنَة نَهْضَتَها الخالفة من ضيق الطباعة، على أنه كما لم تستغن الطباعةُ قَطُّ عن الإملاء، لن تستغني الرَّقْمَنَةُ عن الطباعة أبدا.

ولقد رأيتني هذه الأيام أُدرّس لطلاب علوم العربية وآدابها بعض ما قُرِّر عليهم، فأَعْرِض بعض الكتب الرقمية، وأفتح صفحة كتابية، وأمضي في الكتاب ما شئت أقرأ وأقرئ، وأشرح على الصفحة الكتابية. وما شئتُ انتقلتُ إلى المكتبة الشاملة أو الموسوعة الشعرية المحملتين على حاسوبي المحمول، فنهلتُ منهما ما تيسر لي. وما شئتُ انتقلتُ إلى مواقع إنترنتية متخصصة. ثم أرسلتُ إليهم من ذلك على بُرُدِهم الإلكترونية.

ولقد بلغني من سنوات عن وزارة التعليم التركية أنها وَزَّعَتْ على طلاب بعض مدارسها حَواسِيب لَوْحِيّة (آيبادات)، فأعجبني ذلك كثيرا، لأنه يُساعد على توظيف مصادر الأدب في تدريس اللغة العربية ما لا يُساعده غيرُه؛ إذ الحاسوبُ اللوحيُّ نفسُه بين الأيدي، كتابٌ مطلق مدهش، تتحرك به وتقلبه وتتنقل فيه ومنه ما لا يكون في غيره.

ولا بأس فيما لا طاقة له بذلك أن تُتَّخَذَ في مجالس التدريس منه مكتباتُ مصادر أدبٍ، يُعَوِّل كلُّ مدرس على ما في مجلسِ تدريسه منها، ويُديرها على طلابه ما شاء، إن لم يمكن توزيع نسخ منها عليهم من قبل. وما أَحْكَمَ مَنْ اتخذ المكتبةَ نفسها مجلسَ تدريس! وهل كان مجلسُ محمود محمد شاكر أستاذنا أستاذ الدنيا -رحمه الله، وطيب ثراه!- غير مكتبة ضخمة، ترفده ما شاء، وترفدنا!