مفردات غنائيَّة.. وثقافة الفنَّان!

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

رُؤى فنيَّة

يقول العامَّة في بعض لهجات جنوب الجزيرة العربيَّة، كلهجات جبال (فَيْفاء): «يا سِيْن على فلان!»، بمعنى: «سلام عليه!».  في معرض الإطراء والمديح.  والتعبير مستعملٌ في (اليَمَن) كذلك، كما في الأغنية الشعبيَّة، التي مِن أشهر مَن غنَّاها: (محمد مرشد ناجي)، و(أيوب طارش عبسي):

نَعـمْ  نَعــــــمْ ذي سُـنَّــــةِ المـحــــبّـينْ  **  لهـمْ مطامـعْ  في الهـوَى مساكـينْ

يا سِـينْ مِن حِـمل الغرام يا ســينْ  **  الله فـي حِـمـــل الهـــوى عَــــــوِيْـــنِي!

فما أصل (سِيْن)؟  وماذا يقصدون بدعائه هكذا: «يا سِيْن»؟

نحن نجد أن (سِيْن) في التراث السامي القديم، والتراث العربي، هو: القمر، أو القمر الإلٰـه، أو الإلٰـه القمر.  بصيغة أخرى: كان اسمًا للقمر بوصفه إلاهًا.  وقد كان القمر أحد الأقانيم الثلاثة المقدَّسة في شِبه الجزيرة العربيَّة: القمر، والشمس، والزُّهرة.  وقد يُطلق عليه أيضًا: (سن)، وأحيانًا (سبن).  عَبَدَه السبئيُّون في اليَمَن و(حضرموت).  كما ذُكِر تقديسه والانتساب إليه في (العراق) خلال الألف الثالثة قبل الميلاد.  وقد تَسمَّى به الملك الأكدي (نارام سين)، حفيد سرجون الأول، (2507- 2452ق.م) تقريبًا. ومعنى اسمه: «محبوب سين».  وكذا (ريم سين)، الملك الآشوري، (الألف الثانية قبل الميلاد).  ومن هذا الاسم اشتُقَّ اسم جزيرة سيناء.  

فهل التعبير اللهجي بـ«يا سِيْن»، على علاقة بتلك الجذور الميثولوجيَّة؟

لا يُستبعد ذلك.  ولاسيما أننا لا نعرف أصلًا دِلاليًّا آخر لهذا التعبير.   

وعبارة «الله عَوِيْنِي»: أي الله مُعِيْني.  يقول أحدهم بلهجة فَيْفاء، متذمِّرًا من النهوض بعمل يستثقله: «الله عَوِيْنِي، مِنْذَ عَدْ يَدْيَهْ؟!»  أي: «أعان الله على القيام بهذا العمل!  ومَن ذا عادتْ له يَدٌ أو قُوَّةٌ على القيام به؟!»  أو يقول: «الله عَوِيْنِي عَوْنٍ شديدٍ وقَوْيٍ!»، أي: «أعانني الله عونًا شديدًا وقويًّا!»

والتعبير مستعمل في اليَمَن كذلك، كما في الأغنية الشعبيَّة، المشار إليها.  على حين غنَّاها المغنِّي البحريني (خالد الشيخ) بخطأٍ لَهَجي؛ إذ يقول: «الله فـي حَـمل الهـوى عْـوَيْـنِي!»  وكذلك فعل الفنّان (محمَّد عبدُه) في أحد أداءاته، وحرَّفها في أداء آخر إلى: «الله فـي حِـمل الهـوى يعيني!»  ومع أن المعنى مستقيم، لكنه بخلاف الأصل الذي قاله الشاعر، بحسب لهجته، وهو «الله عَـوِيْـنِي»، كما بَيَّـنَّا.  وأغلب الظن أن التغيير جاء عن جهل باللهجة، بدليل أن أبناء اللهجة نفسها (كناجي وأيوب) أدَّوا العبارة على نحوٍ صحيح.

أمّا عبارة «عُـوَيْـنِي»، فلها معنى مختلف عن «عَوِيْنِي»، وإن اشتركتا في أصل الاشتقاق.  فهي تعني التَّحنُّن، وطلب الإشفاق.  كأن يقول أحدهم: «عُـوَيْـنِي»، أي: «ارحمني وأَشْفِقْ عَليَّ»، أو «عُوَيْنْجَ/ عُوَيْنَك»، أي: «شفقةً بك»، أو «عُوَيْنُوْ/ عُوَيْنَه»، أي: «إنه ليستحق الإشفاق والرحمة بحاله».  وهو تعبيرٌ مستعملٌ في لهجاتٍ أخرى من لهجات الجزيرة العربيَّة. 

نخلص من هذا إلى أن الغِناء ثقافة لغويَّة ومعرفيَّة، سواء أكان بالفصحى أم بالعامِّيَّة، لا يكفي فيه جمال الصوت ولا الموسيقى، ما لم يكن الفنان على وعيٍ ثقافيٍّ بما يغنِّي، وإدراكٍ لغويٍّ لدلالات ما يشدو به من كلمات.

وسوم: العدد 803