رواية «غالية»

مفيد نحلة

حيدر قفه

"غالية" الرواية الثانية للكبار التي يصدرها مفيد نحلة، القاص والروئي الأردني، بدعم من وزارة الثقافة الأردنية، وتقع في مئة وخمسين صفحة من القطع الوسط، وهي تصنف من الروايات الواقعية الطبيعية، بما ترصده من معاناة الطبقة الدنيا في المجتمع الأردني عامة، والنساء منها خاصة، وتمركزت المعاناة في الرواية بشكل أساس حول بطلتها"غالية".

تدور أحداث الرواية في أحد أحياء عمان"وادي الحدادة"وهو معروف بناسه الفقراء"البسطاء"، وبطلته"غالية فهمي الجداوي"طالبة في المرحلة الثانوية، تعيش مع أمها "زينة" في منزل مستأجر دون المتواضع، يسافر أبوها لطلب الرزق في"هولندا" ليخرج أسرته الصغيرة من وهدة الفقر. أمها "زينة" شابة جميلة يحاول الرجال الذئاب الاقتراب منها مستغلين حاجتها وفقرها، منهم"سند المجدلاوي" قريب من بعيد لزوجها، وصاحب دكان في المنطقة، و"درويش السيد" صاحب المنزل الذي تقطنه هذه الأسرة.

تنقطع رسائل الأب، وتعمل"زينة" في البيوت خادمة، وجمالها يسبب لها العنت، فكثرة تردد "درويش" على المنزل بحجة طلب الأجرة، وكذلك"سند المجدلاوي" بحجة تفقد أسرة قريبه الذي سافر إلى"هولندا" تثير الريبة في سلوك زينة"، ويساهم "سند المجدلاوي" والنسوة الفارغات في الحي في ترويج الإشاعات ضدها، فتكثر هذه الإشاعات حتى تودي بها إلى القتل، وتُسجل الجريمة ضد مجهول، ويأخذ "سند المجدلاوي" "غالية" لتعيش مع أسرته بحكم القرابة ولو من بعيد.

تقيم"غالية" عند "سند"وأسرته، لكن زوجته "سعدة" تستغلها في أعمال المنزل أسوأ استغلال، و"سند"يخطط للاستيلاء عليها، فيصد كل من تقدم للزواج منها، و"غالية" تصاب باليأس من"حسيب"الشاب الذي يبادلها النظرات والحب الصامت

"الرومانسي" فهو حبيب حالم رومانسي لا يملك فعلاً إيجابياً. يتقدم "الطيب زناتي" الرجل الصالح لخطبتها لابنه بعد أن رشحتها زوجته"زهرة الحمدان" التي تحب

"غالية" وتحدب عليها، يوافق"سند"على الخطبة مكرهاً تحت ضغوط زوجته

"سعدة" التي تريد التخلص منها، وإلحاح"الطيب زناتي"، ولما أحس"سند" أنها ستفلت من يده، حاول اغتصابها ليلاً، ولما افتضح أمره ولم ينل وطره، طردها من بيته بعد منتصف ليلة باردة ماطرة.

تخرج في هذا الجو، وتلقي بنفسها في أول سيارة أجرة (تاكسي) تجدها، ويعلم السائق (عزيز) قضيتها فيأخذها إلى منزل ما، يخبئها هناك، ويحاول تخويفها من الخروج، ومن ثم يحاول الاستفراد بها واغتصابها، فلما شعر أنها عَصِيَّةٌ على الانحراف تزوجها، إلا أن محاولاته لبيع جسدها لأصدقائه لم تنقطع، وهي أبيّة على هذا الانحراف، حتى أنجبت له ولداً (سعد) ورغم ذلك ظل يساوم الرجال على جسدها، ولما عجزوا عن نيل مرادهم خطفوا طفلها منها للضغط عليها.

أحدثت هذه المحاولة منهم جلبة استدعت مجيء الشرطة، فقادتها إلى السجن بتهمة الدعارة، لأنها وُجِدَتْ في بيت مشبوه، وإنكار (عزيز) أنها زوجته!! وعاشت في السجن وعالمه الغريب، حيث امتدت أصابع العصابة إلى داخله، تديره من الداخل (فتحية) إحدى السجينات القديمات، وعندما يُفرج عن"فتحية" تأمر السجينات بطاعة "غالية" لأنها الرئيسة أو الزعيمة بعدها داخل العنبر.

تخرج"فتحية" إلا أنها تظل تتردد على السجن لزيارة غالية، مُطَمْئِنَةً إياها على أنها ستبحث لها عن ابنها، لكننا نكتشف أن "فتحية" هي رئيسة العصابة التي تعمل على الإيقاع بالنساء والفتيات لاستغلال أجسادهن، وسبب نكبة"غالية". فلما تخرج "غالية" من السجن تعرض عليها "فتحية" العمل مع العصابة، فترفض وتترك البيت. تبحث عن سجينة أخرى أحبتها في السجن"أسرار"وتسكن معها، وتتفقان على استثمار ما تعلمتاه في السجن من حياكة وتطريز. فتسمع بهما امرأة مجهولة، فتعرض عليهما المشاركة لفتح محل"بوتيك" وعند تقسيم الأرباح ترفض هذه المرأة أخذ حصتها، وتعلمان أنها محسنة كريمة أرادت أن تساعدهما على الاستمرار في الطريق المستقيم.

تيأس"غالية"من العثور على ابنها "سعد" فتنصرف عن التفكير في ذلك، وتتزوج زميلتها "أسرار" وتعود "غالية" لتلتقي"بحسيب" فيحيا الحب القديم من جديد ويتزوجان. وتنتهي الرواية.

هذه أهم أحداث الرواية، ولسنا في حاجة للتعليق على شخوصها، أو توضيحها فالسرد السابق كفانا مؤنة ذلك، وإن كان بصورة مبسطة. بَيْدَ أننا لا بد من أن نقف عند أبعاد أخرى في الرواية تحتاج إلى تجلية وتعليق.

البعد الزماني:

كان البعد الزماني في الرواية باهتاً، ولم يشكل في وجدان القارئ أهمية تذكر، والإشارة فيه إلى"تشرين"ورياحه الهوج الباردة، أو الليلة الماطرة الجليدية ص 66 التي قُذف"بغالية"فيها إلى الشارع، لم ترق إلى درجة التأثير الفاعل، وظلت مجرد إشارة لإطار يحتضن الحادثة، ففي"تشرين"إشارة جانبية لمقاساة أهل بيت"غالية"شدة الريح التي لا يستطيع بيتهم المتهالك صدها، فتنفذ إليهم من خلال الشقوق وأبواب الصفيح. وفي الليلة الجليدية التي طردت فيها غالية من بيت"سند المجدلاوي"خلفية لصورة القسوة التي تسكن قلبيّ"سند" و"سعدة". وغير ذلك لا أثر للبعد الزماني.

البعد المكاني:

أما البعد المكاني، فقد جلاّه"نحلة"تجلية رائعة، بوصفه الدقيق لبعض أحياء عمان القديمة، وتجلى أكثر ذلك في وصف"وادي الحدادة"وبيوته الواطئة المسقوفة بالزينكو، وبطن الوادي الذي تتجمع فيه سيول الأمطار أو مياه البيوت بعفنها ورائحتها الكريهة.

ولم يقتصر على ذلك، بل أخذ وجداننا معه إلى أحياء أخرى من عمان، كـ "ماركا" وجبل "اللويبدة"ومقبرة "أم الحيران".

بَيْدَ أنَّ التجلية الرائعة الثانية للبعد المكاني فكانت في وصف عنبر السجينات في سجن النساء بعمان، وما فيه من قسوة الجدران والظلام، وما يحويه من أثاث ورياش لا تتعدى البُرش المتسخ الذي بالت عليه السجينات خوفاً ورعباً سنين طويلة، وسطل الماء، وعبث السجينات على جدران العنبر في محاولة لتخليد ذكراهن في هذا المكان، أو الشكوى من قسوة الإنسان.

وكان للظلال التي أضفاها البعد المكاني لسجن النساء أثره في حفز مشاعرنا للشفقة على"غالية"والتعاطف معها في هذا الجو الموحش. ولقد ذَكَّرَنِي وصف مفيد نحلة للسجن بالصورة المحفوظة عن السجون المصرية بالذات، والتي نراها في الأفلام، وتذكرت التجربة الثَّرةَّ التي عايشتها الأديبة الصحفية"تريز حداد"في السبعينات، عندما انتحلت صفة سجينة بعلم ومساعدة كبار ضباط القيادة في الأمن العام، وعاشت في السجن أربعة عشر يوماً تراقب وتسجل.

البعد الإنساني

ورغم القسوة الظاهرة في الرواية، والتي تدفع مشاعرنا باتجاه التشاؤم والخوف، إلا أنَّ مفيد نحلة رَطَّبَ هذا الجو بِرَشَّاتٍ من العطر الإنساني، عندما أبرز بعض العادات الاجتماعية (الجاهة في طلب العروس وعدم شرب فنجان القهوة قبل الموافقة ص 62) أو لحظات العطف التي كانت تلقاها"غالية"من"زهرة الحمدان" زوجة "الطيب زناتي". حتى داخل عنبر رقم 3 في سجن النساء، وجدنا بعض البصيص من الجوانب الإنسانية عند تعاطف الرئيسة مع سجينة جديدة أفزعتها دهشة المكان الغريب، والوجوه المتربصة بها، فتلقي عليها ملاءة حمياتها من السجينات  وارتفعت وتيرة البعد الإنساني في الموقف النادر (شبه المستحيل) من المرأة المجهولة التي ساعدت "غالية" وزميلتها "أسرار" في فتح محل لبيع الملابس والمطرزات "بوتيك"بدعوى الشراكة، ثم غيابها عند تقسيم الأرباح، وتنازلها عن حصتها، لتكتشف الزميلتان أنها محسنة كريمة لا أكثر.

البعد الأيديولوجي:

لم ألحظه هنا، ولا من أي اتجاه، فكأن همَّ مفيد نحلة كان منصباً على واقعية الأحداث في بيئة مسحوقة، كان الظلم فيها السيد المسيطر، ابتداءً من اختلاق الشائعات الظالمة وترويجها، إلى استغلال فقر الناس، إلى استثمار هذا الفقر بشكل يثير مشاعر القلق عند أشد الناس قسوة.

البنية السردية:

اعتمد الروائي في بنيته السردية على استخدام ضمير (الأنا) وهو استخدام يمنح العمل قدراً كبيراً من الحميمية الجاذبة لقلوب القراء، إذ أنَّ الضمير (أنا) فيه شيء من البوح الداخلي الأقرب للاعتراف، والناس بطبعها تميل إلى هذا النوع من الحديث طبعاً وجِبِلّةً، فإن كان البوح من مبتلى؛ كان بوحه أكثر صدقاً، وإثارةً للمشاعر من غيره.

إلاّ أنّ هذا الاستخدام للضمير (أنا) – وعلى قدر ما يمنح الراوي شيئاً من القدرة على الوصف الداخلي – يحرمه الحرية في الانطلاق لرسم انفعالات الشخوص الأخرى، والكشف عما يعتمل في داخلها، ولذا رأينا الروائي يتدخل في السرد بالوصف من بعيد دون أن يقحم نفسه إقحاماً مخلاً، فكان يبادل في السرد بين ضمير

الــ (أنا) والــ (هو) مثلما حدث في ص 135"وقبل أن أضع يدي على الطعام، رأيت (شدفان) واقفاً أمام البيت. شَعَرَتْ (غالية) بالشكوك تستيقظ في داخلها... إلخ العبارة"وهذا تدخل من الروائي في سياق الأحداث.

وإذا كانت العبارة السابقة مقبولة، إلا أنه ليس كذلك في كل المواضع التي تَدَخَّلَ فيها الروائي بشكل سافر. كما لم يحالفه التوفيق في بعض النقلات الموضعية، فبينما القارئ يتابع حواراً أو وصفاً لأحداث تتم داخل البيت، إذ يجد نفسه فجأة في حوار ووصف يتم داخل المحل"البوتيك"دون إشارة أو سابق إنذار أو تنبيه كما حدث ص 145 – 146.

اللغة:

استخدم مفيد نحلة لغة سردية جيدة في الغالب، تكثر فيها العبارات المعتادة المألوفة، وقد طعَّم لغته بالموروث من الأمثال العربية القديمة (صبية أضاعوها بين البطان ص 70) أو الشعبية المتداولة عند البسطاء (أفيقي قبل أن يحفر ثراك ص 41). وكان توظيفه لهذه الأمثال موفقاً لا خلل فيه.

ونلحظ أن اللغة الشاعرية قليلة في بنائه، إلا أننا نظفر بعبارات رائعة منها (كان النوم يغلق عليّ ملف الحلم ص 46) (خيوط الظلام تعبر الصبح ببطء ص 46) (اختفى في شارع مضيء!! ص 71). وهناك عبارات شاعرية تأملية مثل (ليلة حملتني أمواجها إلى الزبد الأبيض، تخطيت أول ثنية هادرة، رمت بي إلى شط متعرج، التفّتْ حول عنقي ألياف طحلبية ص 79).

واستخدامه للعامية في الحوار قليل، ويُتَجاوز عن ذلك كونه حواراً مع شخوص غير متعلمة أو مثقفة، فأنطقها بلغة توافق مقتضى الحال، وهذا لا بأس به عندي (راح المسكين في شربة ميّ ص 37).

بَيْدَ أنّ ما يؤخذ عليه في هذا المضمار أنه يعتمد على تعبيرات قديمة لا تناسب زمن الرواية (فاق السهم ص 42) (أن خلالي قد سقط ص 102) مما اضطره لشرح هذه المفردات في الهوامش.

وأحياناً يستخدم مفردات لا تتناسب وثقافة مستعملها، ولا منسجمة مع الوضع العام للوسط الاجتماعي للشخوص (وحين قارب الرشاء عنقي ص 102) فهل السجينات يقلن: (الرشاء)؟ وما عليه لو استخدم كلمة (الحبل) وهي فصيحة مألوفة؟ ومثلها أيضاً (أنا لست امرأة قفعاء!! ص 63).

ومما أضعف الرواية أنه استخدم عبارات خطابية أحياناً، كما في أول ص 104 وآخر ص 109 وأوائل ص 110 على سبيل المثال.

كما ضَمَّنَ الرواية عبارات لا معنى لها، ووجودها لغوٌ لا فائدة منه في الرواية (ورحت ابني على الطريق جسراً آخر، يمتد على حوافي الزمن بدءاً من أيام الكنعانيين، والفينيقيين، وانتهاءً بزمني هذا... إلخ العبارة ص 148).

الأفكار التي طرحها الروائي:

وكما هو معلوم فإن الرواية ميدان رحب لعرض أفكار الروائي الخاصة، ورؤاه لما يجري حوله من أحداث وأمور، وكما أسلفت في البعد الأيديولجي فإن الروائي لم يهتم بأدلجة روايته تلك، بيد أنه طرح عدة أفكار اجتزئ بعضها.

فهو يرى أن الإنسان لا يولد مجرماً، وإنما تحيط به ظروف تؤدي به إلى هذا الطريق، وكأنه يقول: إن المجتمع هو المسؤول المباشر عن انحراف أبنائه، ودفعهم إلى الجريمة بشكل أو بآخر.

كما يرى الروائي أن المجتمع يسيء التعامل مع المرأة على جميع مستويات وظائفها الاجتماعية الحيوية التي تؤديها وفي جميع مواقعها ابنةً، أو أختاً، أو زوجةً، أو أماً، أو جدة ص 117 والمرأة في مجتمعاتنا العربية مسحوقة تماماً، وهذا هو الهدف العام لروايته، إذ يريد لفت الأنظار لذلك ص 93.

ونحن إذ نوافقه على ما قال في بعض توصيفه لعذابات المرأة، إلا أننا لا نُقِرُّ أن كل النساء عندنا مثل غالية وسعدة وفتحية، ولا كلهن مظلومات مسحوقات تحيط بهن ظروف الدفع نحو الانحراف، وإِلَّا كان مجتمعنا كله فاسداً، ولا يقول بذلك أحد، بل الغالبية العظمى أسر مستقرة ونساء سعيدات، وهذه الحالات الشائهة استثناء من القاعدة، والتركيز عليها من العقلاء لعلاجها لا لتعميمها وجعلها الأساس كما يحلو لبعض أصحاب الهوى فعله أو ترويج أمره.

كما طرح الكاتب قضية هوان المواطن العربي في وطنه ص 117 وعدم اهتمام حكوماتنا العربية به كفرد مثلما يحدث في الدول الأوروبية المتقدمة مثلاً، وهذا أمر ملموس لكل من يسافر للغرب ويشاهد حياتهم هناك، وقد فعلها مفيد نحلة أكثر من مرة في سفره إلى هولندا، التي أحب فيها"أمستردام"حتى العشق، ولذا وظف اسمها في عمله هذا، وبث عشقه في كلمات حالمة على لسان"غالية"المسحوقة هنا، حيث كانت"أمستردام"رمزاً للخلاص من عذاباتها كلها.

مآخذ على الرواية:

إذا تجاوزنا عن الأخطاء المطبعية التي لا يكاد يخلو منها كتاب، والتي توقع القارئ في حيرة التفريق بين إن كان خطأً مطبعياً أو كلمة جديدة عليه متجذرة في معجم الأديب نفسه، ففي الأولى الذنب ليس على الكاتب، وفي الثانية الأمر قابل للبحث، لكن في كلا الأمرين العنت حاصل للقارئ، والتساؤل يفرض نفسه عليه، في ظل هذا كله وجدت كلمات تحتاج إلى التنويه، فعلى سبيل المثال يقول ص 6: "في هذا الجدر العالق بذاكرتي"، ما الجدر؟ وهل هي خطأ مطبعي أو كلمة مقصودة؟ وعندئذ ما معناها؟ ووردت أيضاً كلمة "جودلة"ص 44، ص 139 وربما تكون كلمة معروفة على نطاق ما عند قطاع من الناس في بيئة معينة، لكنها ليست كذلك عند الجميع، أفما كان من حقها التفسير في الهامش، وقد فعل الكاتب ذلك في بعض الصفحات؟

فإذا تجاوزنا عن مثل هذه المفردات، وجدنا تعبيرات في حاجة لإعادة نظر، فالكاتب يقول: "وتحول دوني والوقوف على المرآة" ص 52 ويقول ص 73: "رتبت شعري، ووقفت على المرآة"والتركيب بهذه الصياغة خطأ، فالمرء لا يقف على المرآة، بل "أمام المرآة" أو "إلى المرآة"، فالوقوف عليها تعني وضعها تحت القدمين، ولا أظن أن الكاتب يقصد ذلك.

وقد يقول قائل: فما قولك بقولهم:"الوقوف على الأطلال"؟ أقول: إن الأطلال آثار لائطة بالأرض بعد تقويض القوم لخيامهم والرحيل عن موطنهم، وهي إما أن تكون آثار نار، أو آثار أعطان الإبل وأرباض الغنم، أو أوتاد الخيام... إلخ، فكلها لاصقة بالأرض غير مرتفعة، والشاعر الذي ابتدأ هذه المقولة مرّ عليها وهو راكب ناقته أو حصانه، أي أنها كانت تحت أقدام ركوبته، أي تحته هو، فقولهم"الوقوف على الأطلال" صحيحة حساً ومعنى. حتى بعدما تحولت إلى مَثَلٍ يُحاك عليه، ويتداوله الشعراء، قُبل منهم ولو كانت الأطلال عمائر وأبنية شامخة البنيان، كإيوان كسرى، وخرائب البرامكة وغيرها، لأن التعبير أخذ حُكم المثل، والحال (مع المرآة) مختلف تماماً.

أما قولهم"وقفت على الأمر"بمعنى اطَّلَعْتُ عليه، فلا يشبه قوله"وقفت على المرآة"وهذا ظاهر لا يحتاج إلى شرح أو توضيح!!.

واستخدم الكاتب كلمة (بولي) ص 91 وهي كلمة غير عربية من جانب، ومن جانب آخر غير متداولة – حتى على المستوى الشعبي – في الأردن!!.

واستخدم كلمة الإفك"هو الإفك يا غالية ص 100"بمعنى الفجور، وهي غير ذلك إلا إذا قصد الافتراء، وأظنه متأثر بالتعبير القرآني في سورة النور، فالإفك لغة هو الكذب والافتراء، فلما كذب المنافقون على عائشة (رضي الله عنها) وافتروا عليها، سماها الله (أي الحادثة) بالاسم الحقيقي (ﭑ ﭖ)   [النور: 11]، وعُرفت في السيرة والأحاديث بـ"حديث الإفك"فارتباط الكلمة بتهمة الزنى في ذلك الحادث لا يجعلها ترتبط بكل حادث فجور لغةً، كما وقع فيها الكاتب.

أما إيراده لكلمة (من غير صوت ص 141) في جملته"كان القماش الحريري يتطاير ويداعب كاحل قدمي من غير صوت"فكلام زائد لا فائدة منه، ولا يصلح توكيداً لفظياً، فمتى كان لحركة الحرير على الجسد صوتاً؟! وما موضع"من غير صوت"في الجملة ولزومها في الصورة أو الحدث؟! لا شيء على الإطلاق.

أما الحوار في الرواية – وهو متصل اتصالاً وثيقاً بالمستوى الفني للرواية – فقد أتعب الكاتب قُرّاءَهُ، ذلك أنه كثيراً ما يخلط الحوار الخارجي بين شخصين (الديالوج) بالحوار الداخلي بين الشخصية ونفسها (المونولوج) دون فاصل، لدرجة التداخل بين النمطين في الحوار، مما أوقع القارئ في عنت (انظر ص 57، ص 59 على سبيل المثال).

كما أنه لا يراعي أصول الحوار المتعارف عليها في لغتنا، فالحوار له علامة ترقيم تواضع عليها العلماء، وأصبحت سمتاً مقبولاً ومفهوماً، وهي وضع الشرطة (-) قبل الكلام، وعند انتقال الكلام من شخص لآخر، ليوحي للقارئ بتحول الحوار وتبادله بين المتحاورين، فتفهم مضامينه وخلفياته، وتظهر انفعالات الشخوص وآراؤهم (انظر ص 76، ص 135، ص 146 عند قوله"وفيما نحن"فما قبلها كانت الأحداث تتم في المنزل، وما بعدها في المحل (البوتيك) دون إشارة أو تنبيه للقارئ، مما يحدث له صدمة ليست في مصحلة الرواية.

وكان عليه استخدام علامات الترقيم الخاصة بالانتقال في الحوار في الرواية كلها، لا سيما وقد فعل ذلك ص 78 بِنُدْرَةٍ واضحة.

وقد أشرت من قبل إلى أنه كان يُنْطِقُ شخوصه أحياناً بكلمات فوق مستواهم الاجتماعي، بل بكلمات مُعجمية لا تتناسب وثقافة الشخوص، مما جعل هذه الشخوص تبدو مُتَقَعِّرَةً في حديثها، وهذا يتنافى مع البناء الذي تصوره الشخصية، فكيف لغالية المسحوقة المظلومة أن تَتَقَعَّرَ في كلامها؟!

ورغم تماسك الرواية الفني في بدايتها، إلا أنني شعرت أن الروائي مفيد نحلة قد استعجل أمره في الفصلين الأخيرين (السادس والسابع) فعلت النبرة الخطابية فيهما، وظهر الهدف التعليمي بصورة صارخة أَخَلَّتْ بالجمال الفني الذي استقطب القارئ في البداية.

وزاد من السلبية أن الكاتب ضَمَّنَ روايته عبارات وكلمات أنطق بها شخوصه، وهي فوق مستواهم الثقافي ولا تتناسب مع وضعهم الاجتماعي، مما جعلها تبدو حركة تثاقف غير موفقة، ولا تشكل أهمية في بناء الأحداث (الدرامية) فانظر على سبيل المثال (الفقرة الأخيرة من ص 116)، وأواخر الرواية ص 148) فكانت عبئاً على الرواية.

أما التهمة التي أَتـَّهِمُ بها مفيد نحلة، فهي أنه كان السبب في دخول "غالية" السجن بتبنيه "لا منطقية" الأحداث، بحيث لم يستطع إقناعي – أنا على الأقل – أن هذا التصرف كان منطقياً. فعندما خرجت "غالية" الفتاة الصغيرة الغِرّة مطرودة من بيت "سند المجدلاوي" في ليلة باردة ماطرة... منطق الأحداث أن تذهب إلى المعلوم لا إلى المجهول، وكان المعلوم عندها، والأقرب إليها الرجل الصالح "الطيب زناتي" وزوجته الحنون "زهرة الحمدان" وقد حدبا عليها من قبل، بل هما قد خطباها في الليلة نفسها لولدهما وقُرئت الفاتحة، وهي تعرف بيتهما لأنه في الحيّ نفسه، فهل منطق الأحداث أن تترك هذا المعلوم الواضح الأقرب المنطقي، لتلقي بنفسها في عباب المجهول، فتركب أول سيارة أجرة (تاكسي) تقابلها، وتقول لسائقها: اذهب بي "إلى أي مكان ص 71" هكذا، فعل المنحرفات صاحبات السوابق؟!.

ورغم هذه المآخذ – التي لا تُنْقِص من قدر الرواية، وإنما تضيء للقارئ والروائي بعض الجوانب – فقد استمعت بالرواية، وعشت أحداثها بقلب يعتصره الألم، ولقد كان مفيد نحلة قاسياً على "غالية" وعلينا أيضاً، برسمه الدقيق لهذه المعاناة الإنسانية التي يوجد منها في المجتمع العربي الكثير، لكنها كثرة لا تخرجها عن دائرة الشواذ من القاعدة.