صراع الحضارات أدبياً

د.أحمد محمد كنعان

بين الحين والآخر أعود إلى دفاتري القديمة ، أبحث في مكتبتي عن قصة أو رواية أو ديوان شعر يسرّي عني بعض الغضب الذي يعتريني كلما سمعت نشرة للأخبار عن الوضع المأساوي في عالم اليوم ، الذي باتت تتحكم بمصائره أمم كبيرة في إمكانياتها المادية ، صغيرة في أخلاقها التي بلغت درجة من الانحطاط لم يسبق لها مثيل عبر التاريخ .

وبينما كنت أفتش اليوم في زوايا مكتبتي القديمة الجديدة امتدت يدي إلى رواية فريدة كان لها يوم أن نشرت لأول مرة عام 1966 وقع الصاعقة في الأوساط الأدبية ، لما اتصفت به من رصانة في السرد ، وبناء فني جديد على الرواية العربية ، وهي رواية تحكي حكاية الصراع بين الحضارات الذي أصبح منذ أواخر القرن العشرين وحتى اليوم شاغل الناس ، ومالئ الدنيا ، سياسياً وفكرياً وأدبياً .

وبالرغم من أن نخبة من الروائيين الكبار قد سبقوا إلى طرح هذه الإشكالية الحضارية إلا أن هذه الرواية عالجتها بأسلوب أدبي جديد ، تلك هي رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للأديب السوداني المبدع "الطيب صالح" ، تلك الرواية التي صنفها النقاد بين أفضل مائة رواية نشرت في القرن العشرين ، وهي عمل أدبي مدهش ، يأخذك في دوامة من السحر الفني والفكري ويصعد بك إلى آفاق عالية من الخيال الروائي العظيم ، وتشعر وأنت تلتهم سطورها بطرب حقيقي لما فيها من غزارة شعرية ونفحات فلسفية تذهب بك بعيداً في رحاب الأسئلة المصيرية المحيرة ، وكيف لا وهي رواية تعالج مشكلة حضارية ذات بعد تاريخي عميق الأثر في العلاقة بين الشرق والغرب !

ومعلوم أن عدداً من كبار الأدباء العرب قد سبق أن عالجوا هذه الإشكالية ، منهم توفيق الحكيم في روايتـه "عصفور من الشـرق" ، ويحيى حقي في "قنديل أم هاشم" ، وسهيـل إدريـس في "الحي اللاتيني" ، وعالجها من الأدباء الإنكليز شكسبير في "عطيل" ، والفرنسي ألبير كامو في "الغريب" ، وغيرهم ، وتحكي لنا هذه الأعمال الأدبية الكبيرة حكاية الصراع المزمن الذي بدأت بوادره قبل ألف عام تقريباً بين شخصيات آتية من الشرق وشخصيات آتية من الغرب ، فهي أعمال أدبية تحكي ثنائية الأضداد التي قال عنها الأديب الإنكليزي "روديارد كبلنغ" ذات يوم : الشرق شرق ، والغرب غرب ، ولن يتلقيا . وسماها الأمريكي "صموئيل هنتنغتون" قبل سنوات "صراع الحضارات" ، وهذا لا يعني بالضرورة أن الطيب صالح من أنصار الرؤية السلبية لعلاقة الحضارات بعضها مع بعض كما قدمها الآخرون ، بل تبدو روايته هذه أشبه بنداء شجي من الأعماق للخلاص من عقم العلاقة بين الحضارات ، ودعوة ملحة إلى محبة الإنسان لأخيه الإنسان أينما وجد على ظهر هذه البسيطة ، ذلك الأمل الذي يبدو عصياً على التحقيق ، على الأقل حتى يومنا الحاضر .

وقد قدمت كل من الروايات التي أشرنا إليها آنفاً رؤيتها الخاصة لكيفية مواجهة هذا الصراع التاريخي بين الشرق والغرب ؟ وكيفية معالجتها والتصرف فيها ؟ وطرح كل منها جملة من الأسئلة الحائرة : فهل تترك شعوب الشرق ماضيها كله وتستسلم للحضارة الغربية المهيمنة اليوم على العالم وتذوب فيها وتقلدها تقليداً كاملاً ؟ أم ترجع هذه الشعوب إلى ماضيها فتلوذ به وترفض الحضارة الغربية جملة وتفصيلاً وتعطيها ظهرها وتنكرها إنكاراً لا رجعة فيه ؟ أم تتخذ موقفاً آخر ؟ وما هو هذا الموقف ؟

تلك هي المشكلة المحورية التي تعالجها هذه الروايات من زوايا مختلفة ، إلا أن رواية الطيب الصالح قاربتها من زاوية جديدة أشد حساسية ، وأرهف حساً  ، حيث كان "الجنس" عنصراً أساسياً من عناصر الحدث في الرواية ، لكن المؤلف وظفه توظيفاً فنياً بارعاً دون إسفاف ولا إثارة للغرائز للتعبير من خلاله عن فاجعة سوء التفاهم بين الأمم .

وتتركز العقدة الأساسية في الرواية حول علاقة "مصطفى سعيد" بطل الرواية القادم إلى لندن من الخرطوم ، وزوجته "جين مورس" اللندنية التي ألقاها القدر في طريقه ليكون فيها هلاكه وهلاكها ، فكأن العلاقة بين هذين الزوجين تلخص علاقة الشرق بالغرب ، قالت له في لحظة مكاشفة تحمل الكثير من الرمز : "هذه الليلة لك أنت وحدك ، أنا انتظرتك منذ وقت طويل" فيما يناجي مصطفى سعيد نفسه قائلاً : هذه الليلة ليلة الصدق والمأساة . ويقتلها !

فما الذي أدى بهذين الزوجين إلى هذه النهاية المفجعة التي تبدو وكأنها تلخص مصير علاقة الشرق بالغرب ؟ يجيب مصطفى سعيد : "غرفة نومي ينبوع حزن ، جرثومة مرض فتاك ، العدوى أصابتهن منذ ألف عام ، لكنني هيجت كوامن الداء حتى استفحل وقتل" يقول مصطفى سعيد ذلك في إشارة مضمرة إلى واقع الصراع بين الشرق والغرب الذي مضى عليه زهاء ألف عام كانت حافلة بالمواجهة ، ويؤكد بطل الرواية هذا المعنى مرة أخرى وهو يتذكر ثلاث نساء انتحرن من أجله ، فتاتين هما آن همند ، وشيلا غرينود ، وسيدة متزوجة هي إيزابيلا سيمور ، لكنه لا يدان بانتحارهن ، إذ يتولى الدفاع عنه في المحكمة أستاذه : "ومضى بروفسور ماكسويل يرسم صورة فريدة لعقل عبقري دفعته الظروف إلى القتل في لحظة غيرة وجنون ، روى لهم كيف أنني عينت محاضراً للاقتصاد في جامعة لندن ، وأنا في الرابعة والعشرين ، قال لهم إن آن همند وشيلا غرينود كانتا فتاتين تبحثان عن الموت بكل سبيل ، وأنهما كانتا ستنتحران سواء قابلتا مصطفى سعيد أم لم تقابلاه .. مصطفى سعيد يا حضرات المحلفين إنسان نبيل استوعب عقله حضارة الغرب ، لكنها حطمت قلبه ، هاتان الفتاتان لم يقتلهما مصطفى سعيد لكن قتلهما جرثوم مرض عضال أصابهما منذ ألف عام" .

ويعلل مصطفى سعيد مسلكه هذا بمسلك الأوروبيين التاريخي ضد أمته ، ويحس نفسه غازياً جاء ليرد للأوروبيين الصاع صاعين ، فهو يقول في نوع من كشف الحساب التاريخي معهم : "البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز ، وسكك الحديد أنشئت أصلاً لنقل الجنود ، وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول "نعم" بلغتهم ، إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في السوم وفي فردان ، جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام ، نعم يا سادتي ، إنني جئتكم غازياً في عقر داركم . قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ . أنا لست عطيلاً ، عطيل كان أكذوبة" !

ويؤيد برفسور ماكسويل فستركين هذا المسلك من مصطفى سعيد معللاً إياه بجرثومة العنف الموروثة في الحضارة الأوروبية التي تشربها أبناؤها على مر العصور ، ونلاحظ أن موقف مصطفى سعيد اتخذ مظهراً سلبياً في البدء مع النساء الثلاث اللواتي انتحرن من حبه ، ثم تجلى بمظهر إيجابي حين قتل زوجته التي لم تكن الغيرة وحدها هي الدافع إليها ، وإنما ذلك الحقد التاريخي الذي عبر عن نفسه بتلك العلاقة المأزومة بين الزوجين !

أما كيف تجمع لدى مصطفى سعيد كل هذا الحقد التاريخي فالجواب هو أنه كان يمتلك ذاكرة جماعية تاريخية عبرت عن نفسها خلال محاكمته على قتل زوجته ، نجد ذلك في تعبيره عن شعوره تجاه المحلفين : "أنا احس تجاههم بنوع من التفوق ، فالاحتفال مقام أصلاً بسببي ، وأنا فوق كل شيء مستعمِر (بكسر الميم) إنني الدخيل الذي يجب أن يبت في أمره ، حين جيء لكتشنر بمحمود ود أحمد وهعو يرسف في الأغلال بعد أن هزمه في موقعة عطبرة ، قال له : لماذا جئت بلدي تخرب وتنهب ؟ الدخيل هو الذي قال ذلك لصاحب الأرض ، وصاحب الأرض طأطا رأسه ولم يقل شيئاً ، فليكن أيضاً  ذلك شأني معهم ، إنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة ، وقعقعة سنابل خيل اللنبي وهي تطأ أرض القدس" فالذاكرة الجماعية لكل عربي تحمل في أعماقها عن العنف الأوروبي صور إحراق قرطاجة على يد الرومانيين ، وما تلاه من استعمار استمر ألف عام للعرق السامي ، إلى أن حرره العرب على طول شواطئ المتوسط ، مثلما يحمل ذكرة مائتي عام من تدمير الحضارة العربية على أيدي الصليبيين ، ثم الاستعمار البرتغالي فالبريطاني والفرنسي للأرض العربية ، ولم يغادر هذا الاستعمار البغيض أرضنا إلا بعد أن غرس الورم الصهيوني في قلب الوطن العربي !

هذه الذاكرة الجماعية تتجلى في سلوك مصطفى سعيد حقداً تاريخياً غير واع حيناً ، وحقداً تاريخياً واعياً حيناً آخر عبر النساء الإنكليزيات اللواتي مررن في حياته ، فنجده حين لقائه مع إحداهن يصف مشاعره على النحو التالي : "وتخيلت برهة لقاء الجنود العرب لإسبانيا ، مثلي في هذه اللحظة ، أجلس قبالة إيزابيلا سيمور ، ظمأ جنوني تبدد في شعاب التاريخ في الشمال" وقد تكرر منه هذا التوصيف وألحت عليه مرة أخرى صورة اللاشعور الجمعي فصور نفسه بصورة تاريخية حين تعرف على آن همند ، تلك الفتاة الغنية التي كانت تدرس الأدب ، فقد ركضت نحوه وهو يلقي بعض الأشعار على الجمهور الذي تحلق حوله في حديقة عامة ، وطوقته بذراعيها وقبلته ، وقالت له باللغة العربية : أنت جميل تجل عن الوصف ، أحبك حباً يجل عن الوصف" فيجاريها ، ويرد عليها قائلاً : "وأخيراً وجدتك يا سوسن ، إنني بحثت عنك في كل مكان ، وخفت ألا أجدك أبداً ، هل تذكرين ؟" فقالت بعاطفة لا تقل عن عاطفته حدة : "وكيف أنسى دارنا في الكرخ في بغداد على ضفاف نهر دجلة أيام المأمون ؟ أنا أيضاً تقصيت أثرك عبر القرون ولكنني كنت واثقة أننا سنلتقي" ، فهذا اللقاء بينهما لم يكن مناسبة لملء الفراش ، بل كان مناسبة للقاء تاريخي بين الشرق والغرب عمره ألف عام !

وقد تكرر التعبير عن هذا اللقاء لكن بصورة مفجعة حين كاشفته زوجته جين مورس بمشاعرها نحوه قائلة : "أنت بشع ، لم أر في حياتي وجهاً بشعاً كوجهك" وأكدت ذلك مرة أخرى قائلة : "أنا أكرهك حتى الموت" على الرغم من أنها ظلت ثلاثة أعوام تطارده قبل أن تقبل الزواج منه ، وحتى بعد الزواج ظلت متأبية عليه شهرين كاملين دون أن تمنحه نفسها ، وحين حدث ذلك لم يحدث في بيته بل في حديقة عامة على مرأى من قومها كأنما لتشهد القوم على جريمته ، ويرد مصطفى سعيد على هذا الموقف العدائي تجاهه والذي يرى فيه تعبيراً عن رفض المجتمع الأوروبي له ، فيقول : "وحلفت في تلك اللحظة ، وأنا سكران ، أنني سأتقاضاها الثمن في يوم من الأيام" وبالفعل يفي بقسمه فيتزوجها ، ثم يقتلها ، فلا غرابة إذن أن نسمع أستاذه البروفسور ماكسول فستركين يقول لهيئة المحاكمة في مرافعته عنه : "أنت يا مستر سعيد خير مثال على أن مهمتنا الحضارية في أفريقيا عديمة الجدوى ، فأنت بعد كل المجهودات التي بذلناها لتثقيفك كأنك تخرج من الغابة لأول مرة" !

فهل أراد الطيب صالح من هذه النهاية المأساوية بين الزوجين أن يؤكد حتمية الصراع بين الشرق والغرب كما فعل الروائيون الذين سبقوه إلى مقاربة هذه الإشكالية الحضارية ؟ أم أراد شيئاً آخر ؟ في تقديري أن الطيب صالح أراد شيئاً آخر ، فهو بتقديمه هذه الصور المتقابلة ، والمشاعر المتضاربة ، والمواقف الصريحة المتبادلة بين شخوص روايته ، يريد منا أن ننظر إلى هذه الإشكالية الحضارية بين الشرق والغرب بأكثر من عين ، ومن أكثر من زاوية ، بغية الوصول إلى علاقة مثمرة بين الطرفين ، تكون أكثر جدوى ، وأكثر واقعية ، علاقة تقوم على التفاعل الخلاق بيننا وبين الآخر ، لكن دون تفريط بملامح هويتنا كما يؤكد الراوي في أكثر من موقف ، وبذلك يمكن أن نرتقي إلى تحقيق وجودنا المعاصر الذي باتت الحضارة الغربية مهيمنة عليه ، لعلنا نستعيد مكاننا تحت الشمس من خلال تفاعلنا مع هذه الحضارة تفاعلاً واعياً ، كما فعل أصحابها ذات يوم حين تفاعلوا مع حضارتنا فحققوا حضارتهم ... أم ماذا ؟