أنقذونا من هذا الشعر

شاركت قبل ايام بندوة صغيرة، ساهم فيها شاعر لم يسبق لي التعرف عليه او على انتاجه الشعري. قرأ بلا توقف مقاطع من شعره، وأعلن انه أصدر عدة دواوين شعرية ولدية اربعة دواوين شعرية جاهزة للنشر.

ما لاحظته ان كل قصائده الشعرية على منوال واحد، تفتقد للصور الشعرية، بل وتفتقد للقدرة على اثارة اهتمام القارئ او المستمع، مجرد شعارات وطنية صاغها صاحبنا بشكل موزون، مثبتا انه حقا متمكن من لغته العربية ومن بحور الشعر العربي. عندما تحدث عن نفسه، تبين انه قضى جل عمره معلما في سلك التعليم، وفقط بعد تقاعده برزت شاعريته. وهذا ليس اول شاعر او كاتب او ناقد اتعرف على كتاباته، اكتشف قدراته الأدبية بعد التقاعد فقط، وطبعا بعد ضمان المعاش التقاعدي.

عندما سؤلت عن رأيي حاولت ان اكون موضوعيا. قلت ان هذا الشعر يذكرني بسنوات الستين والسبعين مع انتشار الشعر المنبري في ثقافتنا الفلسطينية داخل اسرائيل، الذي كان شعرا مهرجانيا يلقى بالاجتماعات الشعبية، وقدمت نماذج لمطلع قصائد منبرية لمحمود درويش وسالم جبران وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم. ولم أحب ان اضيف ان شعرنا المنبري كان ارقي بمضامينه وصوره الشعرية من الشعر الذي اتحفنا يه في تلك الجلسة "شاعرنا الجديد".

الشعر ليس شعارات واعلان مواقف قومية، بعد زوال خطر الفصل من التعليم، الذي ساد لسنوات طويلة في مجتمعنا بعد اقامة دولة إسرائيل وفرض الحكم العسكري على الجماهير العربية الباقية في وطنها، وتقييد سلك التعليم عن طريق سيطرة المخابرات واقرار منهج تعليمي بلا افاق انسانية او وطنية للمدارس العربية، وطرد العديد من المعلمين الوطنيين او الذين تجاوزوا التضييقات الأمنية على التعليم العربي، عمليا فرض جو من الإرهاب على التعليم العربي وحصار ثقافي منع التواصل مع الثقافة العربية، وكانت رقابة شديدة على كل كتاب يطبع. الى جانب التضييق على معلمين لم يفصلوا والتزموا الصمت مرغمين، ضمانا للقمة الخبز، وهذا أمر لا اراه سلبيا، لكنه من باب "مكره أخاك لا بطل".

لا استوعب ان انسانا يعشق الشعر وكتابة الشعر يصمت دهرا قبل ان تتفجر قريحته الشعرية بسن الشيخوخة. الموضوع ليس اكتشاف الموهبة الشعرية أو الأدبية بعد  التقاعد. اذ تبين لي انه لم يستوعب ايضا ما قلته عن الشعر المنبري ومضمونه الثقافي والسياسي. رغم انه استعمل بجوابه هذا الاصطلاح ولكن ليس بمكانه وبدون فهم مضمون ما طرحته عن قيمة شعرنا المنبري الثقافية والسياسية بنفس الوقت، بينما ما نستمع اليه ليست له قيمة ثقافية ولا سياسية رغم اكتظاظه بالشعارات السياسية. ان شعرنا المنبري، عندما كشفه الشهيد غسان كنفاني للعالم العربي، أحدث ضجة ثقافية مثيرة جدا، نفتقدها اليوم في معظم ما يكتب من شعر في بلادنا، منبريا كان او غير منبري!! 

حسنا، لا أنكر انه ضليع ببحور الخليل بن احمد، او بمحيطه العربي والأطلسي، وكل ما سمعته، صيغ بمبنى القصيدة الكلاسيكية وموزون تماما. لكن هل هذا يعني انه شعر ام مجرد صياغة بقالب شعري يفتقد للحرارة وللجاذبية وللتأثير على مشاعر المستمع؟

وهنا يطرح السؤال الجوهري: ما هو الشعر اذن؟ هل هو الوزن؟ بينما المعنى أصبح خبرا لكان؟

مثلا قصيدة منبرية لمحمود درويش ذكرتها كنموذج وهي عن مقتل الشباب العرب الخمسة في بداية سنوات الستين، التي فجرت غضبا جماهيريا قل مثيله في تاريخنا. يقول درويش في المقطع الأول من قصيدته التي الهبت غضب الجماهير وابكتنا:

يحكون في بلادنا

يحكون في شجن

عن صاحبي الذي مضى

وعاد في كفن

*

كان اسمه..

لا تذكروا اسمه!

خلوه في قلوبنا...

لا تدعوا الكلمة

تضيع في الهواء، كالرماد...

خلوه جرحا راعفا... لا يعرف الضماد

طريقه إليه. ..

أخاف يا أحبتي... أخاف يا أيتام ...

أخاف أن ننساه بين زحمة الأسماء

أخاف أن يذوب في زوابع الشتاء!

أخاف أن تنام في قلوبنا

جراحنا ...

أخاف أن تنام !!

اجل نحن هنا امام قصيدة منبرية، لكنها قصيدة بصور شعرية ورؤية انسانية تأسر السامع والقارئ. ولسنا امام كلمات مصاغة وزنا ولا تثير في المستمع او القارئ اي شعور انساني او غضب سياسي ردا على التنكر الاسرائيلي لحقوق شعبنا الفلسطيني مثلا. او قصيدة اخرى مشهورة بعنوان" سجل انا عربي"  من اشهر قصائد التحدي للحكم العسكري. سالم جبران ايضا له قصيدة قصيرة جدا لكنها تثير مشاعر عميقة وجمالية. يقول فيها:

كما تحب الأم

 طفلها المشوه

 أحبها

 حبيبتي بلادي

قصيرة جدا ولكنها تمس شغاف القلب بقوة تعبيرها وبالصورة الشعرية التي ترسمها وهي أفضل من ديوان شعر وطني لا شيء فيه يثير مشاعر القارئ الإنسانية. ايضا نقرأ للشاعر سميح القاسم قصيدة منبرية رائعة بمضامينها، أتذكر انه القاها بعد زيارة لقرية كفرقاسم التي ارتكبت فيها مجزرة نفذها حرس الحدود الإسرائيلي عام 1956ضد مواطنين عُزَّل، سقط ضحيتها 49 شهيدا بينهم نساء وأطفال وحكم على شدمي قائد فرقة حرس الحدود بقرش واحد، اشتهر باسم "قرش شدمي".يقول في مقطعها الأول:

أبداً على هذا الطريق !!

راياتنا بصر الضرير .. وصوتنا أمل الغريق

أبداً .. جحيم عدّونا .. أبداً .. نعيم للصديق

بضلوع موتانا نثير الخصب في الأرض اليباب

بدمائنا نسقي جنيناً .. في التراب

ونرد حقلاً .. ( شاخ فيه الجذع ) .. في شرخ الشباب

ونصبّ في نبض المصانع ..

للمربّى .. والحقائب .. والثياب

نبض القلوب المؤمنات..

بكل أقداس الحياة !!

وختاما لا بد من الإشارة لقصيدة للشاعر توفيق زياد كتبها على أثر نكسة حزيران، يقول في مقطعها الأول:

أيُّ أم أورثتكم يا ترى نصف القنال ؟!

أيُّ أمٍ أورثتكم ضفة الأردن,

سيناء .. وهاتيك الجبال؟

إن من يسلب حقاً بالقتال

كيف يحمي حقه يوماً, إذا الميزان مال؟!"

ملاحظة: قصائد "شعراء المقاومة" كما اشتهروا بشعرنا الفلسطيني، قادتهم الى السجون، والاقامات الجبرية، وتحديد التنقل واثبات وجود يومي في محطات الشرطة. وشاعر الوطنية الجديد وآخرين مثله، لا تكلفهم "ثوريتهم" أي ملاحقة.

طبعا الأهم اننا نجد الصور الشعرية التي تشدنا كقراء وتثير حماسنا كمستمعين، وليس مجرد شعارات سياسية لا تترك فينا اقل المشاعر. تلك النماذج اخترتها عشوائيا وهناك نماذج أكثر تأثيرا لهم ولشعراء آخرين ايضا، لكن جرى تجاهلهم سياسيا واعلاميا لعدم انتمائهم للتنظيم الشيوعي مثلا، وهم يستحقون دراسة خاصة تعيد ترتيب البيت الثقافي للجانر الشعري الفلسطيني داخل اسرائيل، آمل ان يقوم بهذه المهمة أحد نقادنا المطلعين على مراحل تطور شعرنا، الضرورية اليوم لترتيب بيتنا الشعري.

اما شاعرنا اياه وقصائده المكتظة بالوطنية والعروبة والمفاخر فانصحه ان يحنطها ويلقيها في قعر الفيسبوك، لعلها تجد من يطرب لها!!

وسوم: العدد 832