قراءة في روايتي محمود شقير: فرس العائلة... ومديح لنساء العائلة

تمثل رواية "مديح لنساء العائلة" لمحمود شقير الجزء الثاني لروايته "فرس العائلة"، وهما تشكلان معاً حلقتين من تاريخ عائلة العبداللات البدوية في قالب روائي، وقد دخلت "مديح لنساء العائلة" في القائمة النهائية "القصيرة" للجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2016، التي هي النسخة العربية لجائزة "بوكر" العالمية للرواية.   

وهذه الورقات تتجه لقراءة روايتي "فرس العائلة"، و"مديح لنساء العائلة" قراءة سريعة، مولية أهمية خاصة للنص الموازي، حيث إنها تحاول أن تدخل إليهما من خلال عتبات العنوان، وتسبر أغوارهما من خلال الغلاف والإهداء، وكذا البدء والختام، مع التعريج على الساردين وتسمية الشخصيات والجانب الأيديولوجي، راصدة بعض الثوابت في الروايتين وعدداً من التطورات والتغيرات بينهما باعتبارهما فصلين من رواية أكبر. 

v    عتبة العنوان

المكتوب يقرأ من عنوانه... هكذا بكل بساطة... سواء أكان العنوان مباشراً سلساً أم مراوغاً ماكراً، وفي العربية فإن الاسم يقودنا إلى السمة والعلامة أو الميزة والخاصية والعلو والسمو، والعنوان هو عتبة الباب التي يُدخل من خلالها إلى النص، وهو المرشد الأول للقارئ والذي من شأنه دفع  لمتابعة القراءة من خلال إثارته لعدد من التساؤلات التي يدفع الفضول من أجل الإجابة عنها.

قراءة العنوان تستدعي ملاحقته في الرواية التي حملت اسمه، وكذا اشتقاقه اللغوي، وأيضاً دلالته في علم النفس التحليلي من خلال رمزيته في الأحلام، وربما الاستئناس بالروايات والأعمال الأدبية الأخرى التي استخدمت بعض مفردات العنوان، سواء منها الفلسطينية أو العربية أو العالمية.

يتحدث محمود شقير في روايتيه عن العائلة التي هي القاسم المشترك بين الروايتين، أو يؤرخ لها، ويؤرخ للقدس وفلسطين والقضية من خلال سرده لحكاية عائلته، فالأولى تؤرخ من أواخر العهد العثماني، وحتى إرهاصات نكبة 1948، والثانية تكمل التأريخ حتى العام 1982.

1ِِ) فرس العائلة: بداية فإن الفرس في الحلم ترمز إلى العز والسلطان والمجد والشرف والملك، والعيش الآمن من الأعداء، وسنجد تجليات ذلك في قصة فرس العائلة وقصة العائلة معها.

وأول حديث عن الفرس في الرواية هو الحدث الدموي الذي يقتل فيه سيد العشيرة الشيخ عبد الله: " فبينما كان الشيخ عبد الله يركب فرسه ويقترب من بئر الماء على مسافة من مضارب عشيرته، برز له عدد من فرسان الفرارجة واشتبكوا معه فأردوه قتيلاً، ثم لاذوا بالفرار... كان العداء مستحكماً بين العشيرتين بسبب المراعي وموارد المياه .. سقط الشيخ صريعاً، وظلت فرسه تحمحم بالقرب من جثته، وحينما اشتمت رائحة دمه المتخثر راحت تشب رافعة قائمتيها الأماميتين إلى أعلى كأنها تطلب النجدة، وحينما لم يصل أحد، انطلقت تعدو مثيرة النقع خلفها، ولم تتوقف إلا أمام مضارب العشيرة، أبصر محمد فرس أبيه تعود من دونه فأدرك أن أمراً فادحاً وقع" (فرس العائلة: ص 35).

والشيخ عبد الله ليس أي رجل؛ فيكفي لمعرفة قيمته أن (مهيوبة)، التي كانت الأكثر تألقا بين بنات جيلها، قليلة الكلام حازمة في مواقفها، قد "تقدم لها منذ بلغت الرابعة عشرة خطاب من أبناء عشيرتها ومن عشائر أخرى، ولم تقبل أياً منهم؛ ظلت مصرة على أنها لن تتزوج إلا من رجل فارس مقدام، وكان الشيخ عبد الله هو ذاك الرجل، منذ أن رأته عند بئر الماء اندلعت في قلبها رغبة جامحة، وقالت: هذا هو، وتزوجته" (ص37).

فهناك فارس قتل غيلة، وهناك فرس لم تستوعب حادثة مقتله، وبالتالي يمكن أن نفهم دلالة العنوان: "فرس العائلة"، حيث الفرس هنا تعبر عن افتقاد الفارس المقدام والفروسية والبحث عنهما، ترمز إلى التطلع إلى الزعيم الذي يقود جماعته للمجد والسؤدد، وقد عانت العشيرة، كما أظهرت الرواية أزمة قيادة حقيقية، بمقتل الشيخ عبد الله، ولم يتمكن ولده الشيخ محمد، ولا حفيده من بعده الشيخ منان، من لم شتات العائلة ولا من إعادة أيام عزها ومجدها.

وقد أسقط أبناء العائلة على الفرس رغباتهم وأمانيهم ومخاوفهم، ورأوها أو تخيلوها في يقظتهم، مثلما داهمتهم في أحلامهم وكوابيسهم.

وإذا كان بعض ما يلاحظه مجتمع الرواية على تلك الفرس صحيحا، بالنسبة لجنس الخيل، والأصائل منها على وجه الخصوص، فإن كثيراً منه يمثل هواجس الناس ووساوسهم وما يدور في نفوسهم،: "وما زالت مهيوبة تذكر كيف تغيرت طباع الفرس، ظلت تقف في مربطها أياما وهي ساهمة واجمة".. "تحدق ببلادة نحو الأفق كأنها تحاول أن تستذكر ما حدث للشيخ، بعد ذلك أخذت تحمحم وتخبط الأرض بقوائمها، وذات مساء قطعت مرس الكتان وانطلقت تعدو عبر المضارب مبتعدة إلى حيث قبر سيدها، وقفت تحفر ترابه بحافرها، ثم لم تلبث أن رفعت رأسها إلى السماء... وبعد أن اعتراها اليأس عادت إلى مضارب العشيرة مطأطئة الرأس، لتراقبها النسوة متأسيات، يسارعن إلى ربطها، يقدمن لها التبن والشعير، تقف مهيوبة بالقرب منها، تمسد على رقبتها، وتتأمل جسدها، تغمر الفرس رأسها في عليقة الشعير، ثم ترفعه في عصبية وتمعن في الصهيل الذي يستمر إلى ساعات الليل المتأخرة. مرت على الفرس فترة هدوء، وبدا أنها نسيت كل شيء، فلم تعد النسوة يسمعن صهيلها إلا في أوقات متباعدة، ولم تستمر على هذه الحال، قطعت المرس ذات ليلة، وانطلقت تعدو، وفي الصباح افتقدتها العشيرة، بحث عنها الرجال في الفيافي والقفار، سألوا عنها العشائر الأخرى، ولم يعثروا لها على أثر، استمر بحثهم سبعة أسابيع، اعتقدوا أنها ماتت، فتأسوا عليها، وبكتها مهيوبة" (ص39).

 وحينما شاع قرار الرحيل من البرية، صارت الفرس تأتيها في المنام، تطلق صهيلها الملحاح كما لو أنها تحتج على أمر ما (ص 41).

وتبلغ سيطرة الفرس على نفوس أبناء العائلة حداً يجعل بعضهم يتخيلها تحت أحد فرسان جيش الاحتلال البريطاني الذين دخلوا مضارب العشيرة، حيث: "وقفت مثيلة قرب مدخل بيتها ترنو واجفة مقطوعة الأنفاس، خمنت للوهلة الأولى أنها ترى فرس العائلة تحت أحد الفرسان" (ص69)، والطريف أن يحدث ذلك من مثيلة، وهي إحدى زوجات منان؛ فهل أسقطت ما جرى معها من قبل التاجر الغريب الدجال حميد، على فرس العائلة؟.

وهل أراد الكاتب الجانب الرمزي في هذا المشهد المكثف والذي يُعرّض ببعض الذين قد يتخيلون أن بلوغ المجد والعزة يمكن أن يتم من خلال سيادة الغزاة؟

وتظل الفرس هاجس العائلة ورمز العز البائد، والمجد الآفل، والأمل القادم، والحلم الدائم، ونداء اليقظة والنهوض، ولم الشتات وجمع الشمل، وبالذات لدى جيل الكبار حتى نهاية الرواية، فهذه مثيلة أيضاً: "خمنت أن صهيل الفرس قادم من ناحية بئر العائلة، مضت نحو البئر، مشت خطوة أو خطوتين، ثم توقفت وأصغت بكل حواسها، ولم تتوقف الفرس عن الصهيل والنداء: اصحوا من نومكم يا العبداللات، اصحوا، وجدت نفسها تردد من خلف الفرس: اصحوا يا العبد اللات اصحوا" (308).

وفي المشهد الأخير نجد والدته صبحاء وهي تحتضر تقول بصوت خافت:" هاتوا لي فرس العيلة. بدي فر...س... العي...، ولم تستطع مواصلة الكلام، دخلت في غيبوبة".

يلفت الانتباه وبالأخص في المشهد الأخير من فرس العائلة، أن مثيلة وصبحاء من بين نساء العائلة ظلتا حتى آخر لحظة متذكرتين للفرس، فالأولى تتخيل الفرس تصهل وتدعو العائلة للنهوض فتردد النداء من خلفها، والثانية تطلب إحضار الفرس وهي تحتضر.

 فهل كان إحساس مثيلة بالإثم والضياع هو دافعها إلى ذلك؟ وهل كان انخداعها بالتاجر حميد الذي أصبح "ولياً" له مقام يزار هو محركها لتستنهض عائلتها كي يفيقوا من الخرافات والأساطير التي تتحكم بهم؟ هل كانت تحس أنها كالفرس ضائعة وأن الحل هو أن ينهض قومها؟ وهل هذا الإحساس بالمماثلة بينها وبين الفرس هو الذي جعل الكاتب شقير يسميها مثيلة، أو لأن العدوان عليها من حميد هو بمثابة المُثلة؟

ومن جهة ثانية هل كان شعور صبحاء بالمسؤولية تجاه العائلة، كونها زوجة شيخ العشيرة السابق، ووالدة مختارها الحالي هو دافعها لطلب إحضار فرس العائلة وهي في النزاع الأخير، كأنها ترى نفسها تلك الفرس التي غاب فارسها فهي تريد استعادة فارس العائلة وفروسيتها ومجدها، سيما وأن اسم صبحاء مما يطلق على الأفراس؟.

لكننا سنجد في الجزء الثاني من الرواية، أي في مديح نساء العائلة، أن ذكر هذه الفرس سيتراجع جداً، بحيث لا يكاد يظهر سوى في مرات قليلة متناثرة متباعدة، على ألسنة بعض كبار السن والنساء غالباً، أو في أحلامهم وتخيلاتهم، وسنجد أن صورة فرس العائلة التي كانت صافية ملهمة آمرة زاجرة، قد أصابها الكثير من التشويش، وأضحت لدى الكثيرين أقرب إلى الخرافة والأسطورة.

2) مديح لنساء العائلة... العنوان يثير العديد من الأسئلة... هل نقرأ العنوان ابتداء بذهن خال نسبيا؟ أم نقرؤه بناء على قراءتنا للجزء السابق من الرواية وهو فرس العائلة؟ هل نبحث عن المواطن التي تضمنت مديحاً للنساء في الرواية؟ أم هل نبحث عن العبارات التي وردت فيها ألفاظ مديح النساء حرفيا أو مرادفاتها؟ وما السر في اختيار المديح الذي هو، في ثقافتنا على الأقل، ألصق بالشعر وأليق، منه بالرواية؟

العنوان كأنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذا، أي هذا مديح لأجل نساء العائلة، فهل أراد أن يقول بأن الرجال قد نالهم مديح كثير، فيما هضم حق النساء فأراد أن يخصهن بهذا المديح لإحداث شيء من التوازن؟ أم إن أولئك الرجال قد تخلوا عن واجبهم وتخلفوا عن مواكبة التحديات ومواجهتها، بينما تصدت النساء للمهمة وأدين الواجب فاستحققن الإشادة والاختصاص بالثناء؟ حيث إننا كثيرا ما نرى النساء، عندما يتغيب الرجال أو يُغيبون، يتقدمن الصفوف ويحملن الراية ويملأن الفراغ، وبالتالي فهل نفهم العنوان على أن: هذا مديح مخصص لنساء العائلة وليس لرجالها؟

ثمة العديد من الأعمال الأدبية العربية والأجنبية التي ابتدأت باسم (مديح)، لكن لا يبعد أن يكون الكاتب قد استبطن في وعيه أو لاوعيه (مديح الظل العالي) لمحمود درويش، فـ(المديح) مشترك بين النصين، ثم (العائلة) هنا تكاد تطابق (العالي) هناك، و(نساء) العائلة يقبعن عادة في (الظل) والهامش، وكما أن ملحمة مديح الظل العالي جاءت بعد خروج الفدائيين من لبنان، ومذبحة صبرا وشاتيلا، فكذلك الأمر بالنسبة لمديح نساء العائلة؛ حيث إن مشهدها الأول وكذا نهاياتها، تتعلق بالحرب على المقاومة في تلك الفترة والخروج من بيروت.

أم تراه يقول: إن هذا النص مديح للنساء وليس مثل سابقه، فرس العائلة، ذماً لهن؛ حيث قد يرى رجالٌ ونساء عديدون من العائلة وغيرها أن روايته السابقة عن العائلة تضمنت إسرافاً ومبالغة، وجنوحاً مسيئاً شمل العائلة جميعها وبالأخص نساءها حيث إنه وهو ينحو بالرواية منحى الواقعية السحرية، قد جعل أفراد العائلة لا يختلفون كثيراً عن باقي بهائم البرية التي يسكنون فيها وبالذات من حيث ممارساتهم الجنسية، فلهم فيها هديل، وحمحمة وصهيل، وقد يقع بعضهم على بعض بين الأغنام في الحظائر، ويصدر عنهم بعبعة كبعبعة التيوس، أو يلتحم جسدا راعيين في الوقت الذي تختلط فيه أغنامهما.

 ومثله تعريضه بعدد من نساء العائلة أنهن كن يقمن علاقات مع التركي علي أوغلو طمعاً في أبناء طوال القامة بيض البشرة زرق العيون، ثم يدّعين أن تشابه المواليد معه إنما سببه وحامهن أثناء الحمل.!! فهل أراد بهذا العنوان تكفيراً عن الرواية السابقة واعتذاراً لأولئكم النسوة عن تلك المذمة والإساءة فكانت قصيدة المديح هذه؟ احتمال.

وإذا بحثنا عن عبارة مديح النساء وجدناها وردت في مرة يتيمة[1]، وقد تفهم عند التمعن بها بطريقة مخالفة حيث يقول الكاتب: "فهن في نهاية المطاف نساء طيبات جديرات بالمدح لا بالذم، وما اشتغالهن باستغابة الناس سوى تعبير عن فراغهن وبؤس أحوالهن" (ص 160)، فهؤلاء النسوة اللاتي يتحدث عنهن غير أولئك اللاتي أشاد بهن، وهو تحدث عن القابلية للمدح لا استحقاقه في الواقع، وبالتالي فإن المدح مؤجل حتى إشعار آخر، أو أن هذا المديح لأجل النهوض بنساء العائلة حسب وجهة نظره.

إن عين القارئ للرواية لا تكاد تخطئ أمراً آخر حرص الكاتب على بثه في ثنايا الرواية ونثره بين جنباتها، ألا وهو قضايا المرأة، وكأن الكاتب كان منشغلاً، وهو يؤرخ لعائلته في قالب روائي، في المذهب الأدبي والمضمون الأيديولوجي، فقرر أن يجعل الجزء الأول منهما وفقا للواقعية السحرية[2]، على غرار رواية مائة عام من العزلة، فيما أتى بقضايا النسوية ووزعها على صفحات الجزء الثاني، بأسلوب يذكرنا أحياناً بالأعمال الدرامية التي تنفذها بعض الإذاعات والتلفزيونات لحساب المؤسسات النسوية. وبالتالي نفهم السر وراء هذا العنوان الشاعري للرواية، وهو أن الكاتب كان يريد أن يقول قصيدة مدح، لا في نساء العائلة، ولكن لصاحبة الجلالة: النسوية.

وذلك ما يصرح به الكاتب نفسه على لسان البطل الرئيس في الرواية والسارد الأكبر لأحداثها: محمد الأصغر حيث يقول: "سأكتب قصة طويلة مسلسلة أزلزل بها أركان مجتمعنا الأبوي الذي يظلم النساء، ويهينهن ويتنكر لحقوقهن ولكرامتهن، كنت أربط بين ظلم النساء وضياع البلاد، وأقول لبعض الأصدقاء: لن نتمكن من تحرير البلاد ما دمنا نظلم النساء ... وفي فترة لاحقة اعتقدت أنني أستطيع كتابة قصة سينمائية لفيلم يصور الظلم الواقع على النساء" (ص90).

وقد لوحظ بشكل واضح كيف أن الرواية احتفت بعدد من النسوة مثل مريم الشيوعية التي أنقذت محمد الكبير، وسناء زوجة محمد الأصغر، وفلحة ونوال ورسمية، وجميعهن يمثلن بشكل أو بآخر، قضية أو أكثر من قضايا النسوية.

ويعزز ذلك أيضاً قول وضحا والدة محمد الأصغر، بعد لقائها الأول بسناء إنها "جديرة بالثناء"، والثناء مرادف للمدح تقريباً، ومع أن هذا التعبير فوق المستوى الثقافي لوضحا، إلا أنه يمثل إلى حد كبير فكًا لشيفرة العنوان، سيما وأن سناء هي رمز القضية النسوية لدى السارد.

وبذلك يتكامل العنوانان لدى الكاتب؛ ففي الأول كانت الأنثى ترى نفسها في الفرس الضائعة وتنتظر الفارس الذي يحميها ويعيد مجد العائلة، لكنها في الجزء الثاني أخذت زمام المبادرة فقامت هي وأخوات لها بالدور المطلوب.

v    صورة الغلاف:

 كيف يمكن أن نقرأ صورة الغلاف بين فرس العائلة ومديح نساء العائلة؟

في فرس العائلة وجه امرأة من العشيرة تلبس البرقع أو النقاب، لكن في مديح النساء ثلاث نسوة على الأقل متجاورات، والصورة توحي بشيء من الامتداد واللانهائية لعدد الجالسات على الكراسي، فالأولى تركز على البطولة الفردية، والثانية تركز على بطولة جماعة النساء أو المجتمع الأنثوي كافة، حيث تظهر الرواية الثانية التطور الطبيعي للمجتمعات الشرقية وبالذات القبلية الممتدة حيث تتمركز السلطة بيد الكبير والكبيرة، ثم إن رياح التغيير التي هبت على المنطقة أدت إلى تشظية تلك المجتمعات وسلمت الزمام للأجيال الجديدة، وبضمنهم النساء اللواتي تقدمن الصفوف.

في فرس العائلة كان الرأس والوجه، وفي مديح نساء العائلة غاب الوجه ولكن ظهر باقي الجسم إلى حد ما، وهذا من جهة إيحاء بتكاملية الصورة بين الجزء الأول والثاني، باعتبار الرواية الثانية مكملة للأولى ومتممة لها، ومن جهة ثانية فالرأس والوجه يرمزان إلى رؤوس القوم ووجهائهم أي إلى البطولة الفردية كما أسلفنا، بينما يوحي غياب الرأس والوجه إلى تقدم من في الصفوف الأدنى، والرأس يرمز إلى من يفكر ويقرر، وباقي الجسم يشير إلى من يعمل ويتحرك، ومن هنا كان بروز لساعدي اثنتين من نساء العائلة وأسفل الجسم الذي يتضمن باقي الأطراف ليوحي بالعمل والحركة.

ركزت الصورة في الرواية الثانية على الثياب الشعبية لنساء العائلة[3]، وكان ملاحظاً أن إحداهن قد أمسكت ثوبها بأصابعها كما لو كانت تريد أن تلفت النظر إليه[4]، ولعل ذلك يشير إلى دور المرأة في الحفاظ على جانب من جوانب الثقافة الفلسطينية، حيث كانت في كثير من الأحيان، هي الأكثر حرصاً ومحافظة على ثقافة المجتمع، وهي التي حافظت غالبا على تماسك العائلة في غياب الرجال بسبب السفر أو السجن أو الوفاة، وقد لاحظنا في فرس العائلة كيف كانت صبحاء هي التي تتولى مهمة الحكواتي لتاريخ العائلة، وسلمت الراية لكنتها وضحاء قبيل وفاتها، لتكمل المهمة في مديح نساء العائلة.

وهل كانت فرس العائلة تتحدث عن انقضاء زمن كان للعائلة فيه أفراس وفرسان وخيالة يكرون، فيما تراجعت الأجيال التالية وأصبحوا في موطن الدفاع وأصبح قصارى المطلوب هو المحافظة على ما تبقى من الذات والأرض وشيء من الثقافة والذاكرة التاريخية؟.

لكن "جلوس" النسوة في غلاف مديح نساء العائلة قد يشير إلى النسوة الفارغات العاطلات المشتغلات بالثرثرة والنميمة والغيبة، لا إلى النسوة اللاتي أشاد شقير بهن، فهل فهم الفنان صاحب لوحة الغلاف أن المديح مقصود به أولئك النسوة؟

v    الغلاف الأخير

وما دمنا في الغلاف فقد لوحظ أن الغلاف الأخير لفرس العائلة قد تضمن كلمة للشاعر والروائي إبراهيم نصر الله، بينما كان الناشر هو من كتب على الغلاف الأخير لمديح نساء العائلة.

فأما إبراهيم نصر الله فهو صاحب رواية زمن الخيول البيضاء، فالخيل مشترك، وهناك تقاطع في الفترة الزمنية التي تؤرخ لها الروايتان، وإذا كانت فرس العائلة هي الفصل الأول في ملحمة شقير، فإن زمن الخيول البيضاء هي الفصل الثاني في ملهاة نصر الله، فأين وافق اللاحق السابق وأين تمايز عنه؟

لقد رأينا فرس عائلة شقير تختفي وتضيع، كما أن فرس نصر الله – حمامة- أيضاً تتعرض للسرقة والضياع، ثم إن قريتي روايتي نصر الله وشقير كلتيهما قريبتان من القدس، وقد أسمى شقير المكان الذي أسكن فيه عائلته: "رأس النبع"، بينما سمى نصر الله قريته: "الهادية"، وفي المكانين رغد وصفاء عيش وهدوء، كما يحب الفلسطينيون المهجرون أن يتذكروا حياتهم قبل النكبة، وليس هذا محل مقارنة عمل شقير بالأعمال الأخرى ولكن اقتضاه حديث نصر الله على غلاف فرس العائلة.

وقد تحدث إبراهيم نصر الله عن الزلزال الذي هز أركان حياة  تلك العشيرة البدائية المعزولة، جراء ارتطامها بالعالم الخارجي بعناصره الأربعة: المخترعات الصغيرة التي كان يجلبها أحد أبناء العشيرة إلى البادية، فوصول الإنجليز إلى مضاربها بعد هزيمة الأتراك، ثم مدينة القدس التي كان يزورها رجال العشيرة ونساؤها ثم استقروا في ضواحيها، وأخيرا الاصطدام بنذر المصير الذي يتربص بوطنهم.

أما الناشر في الغلاف الأخير لمديح نساء العائلة فقد تحدث عن ثلاثة عناوين رئيسة: أولها، "السفور" متمثلاً في قيام رسمية بارتداء سروال قصير بعد أن خلعت سروالها الطويل، وكذا ارتداء نجمة فستاناً بعد خلعها الثوب الطويل، وكشف سناء ساقيها عندما ذهبت إلى البحر، وما تبع ذلك كله من استجلاب ثرثرة نساء العائلة وغيبتهن للمذكورات، وهو العنوان الثاني. والموضوع الثالث توجس وضحا من الغسالة والتلفزيون المسكونين بالعفاريت!، وذكر الناشر هذا الموضوع هنا ليربط بين التقدم لعلمي وقضايا النسوية من جهة، ويربط من الجهة المقابلة، بين الجهل والتخلف وعدم مواكبة قضايا المرأة.

وأهمية ما سبق أنه يعزز استنتاجنا بأن قضية النسوية هي موضوع رواية مديح لنساء العائلة، ذلك أن قضية "السفور" كانت على مدى قرن تقريباً العنوان الأبرز لقضية "تحرير المرأة"، وأما موضوع ثرثرة نساء العائلة فيتصل بأمور منها وصف ردود أفعال المجتمع تجاه التغيرات الناجمة عن ارتطام مجتمع بدائي برياح المدنية المعاصرة، وبالتالي وصف الصعوبات التي واجهتها أولئك "الرائدات"، ثم استمرار الربط بين الروايتين مع رواية مائة عام من العزلة.

وقبل الغلاف الأخير وبعد الانتهاء من فرس العائلة، ألحق شقير بالرواية قائمة بـ(قراءات لها صلة)، تضمنت مجموعة من المراجع لتاريخ فلسطين والقدس وباديتها من العهد العثماني وما بعده، والحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية والتراث الشعبي، وذلك فيما يبدو رغبة من الكتاب في التأكيد لقرائه أن ما كتبه وإن جاء على شكل رواية، فإنه في الواقع تأريخ حقيقي للعائلة وفلسطين وليس نسيجاً من وحي الخيال، ولم يفعل شقير الأمر نفسه في مديح نساء العائلة، ربما اكتفاء بذكره في المرة الأولى، ولكونها تحدثت عن مرحلة زمنية تالية تاريخها قريب ومعروف.

v    الساردون

في فرس العائلة سارد واحد هو كما يبدو الكاتب نفسه، لكن في مديح نساء العائلة ثمة ساردون أربعة، أولهم وأهمهم محمد الأصغر بن منان، ثم هو يقدم الثلاثة الآخرين ويُنقّل "الميكروفون" بينهم، وهم: أخوه فليحان، وأمه وضحا التي تسلمت من الجدة صبحا مهمة الحكواتية، وأخوه عطوان الذي سافر إلى البرازيل ويبعث الرسائل إلى والده باستمرار، حيث يقوم بقراءتها محمد الأصغر نفسه.

فالرواية التي كان فيها زعيم واحد تأتمر بأمره العشيرة، كان لها سارد واحد، أما حيث تشظت العشيرة وصار فيها العديد من مراكز القوى فقد تعدد الساردون.

وقد برز دور المرأة إذ أصبحت ساردة، كما ظهر دور مَن في الشتات وفاعليتهم من خلال رسائل عطوان، وانعكس بالتالي في السرد.

 والطريف أن رسائل عطوان على مدى عقدين من الزمن، ظلت تتضمن أكثر من لازمة من مثل: "سلام سليم، أرق من النسيم.."، مما استمده من كتب تعليم الرسائل التي انتشرت آنذاك، وحيث توقف عن متابعة الحركة الفكرية في فلسطين والبلاد العربية بالسفر، فإن ثقافته العربية توقفت عند الفترة التي غادر فيها الوطن، ولم تواكب التغيرات الكبيرة التي حدثت بعده.

 

v    الإهداء

إذا جاز لنا أن نتكلم عن "نظرية" في الإهداء؛ فبالإمكان الحديث عن شعور لدى الكاتب بالشكر والامتـنان، لأشخاص كان لهم دور كبير في الإلهام لفكرة الكتاب، أو العون وتوفير الأجواء المساعدة، أو كان لهم فضل على شخص المؤلف، أو أسدى أحدهم معروفاً إليه، ولذلك يُخصّ بالأهداء الوالدان والأزواج والأساتذة والأصدقاء والإخوة وغيرهم.

 وكذلك فإن كثيراً من الكتاب لا يفرقون بين كتبهم التي يؤلفونها وأبنائهم الذين ينجبونهم، ومن الطبيعي أن يهدي الكاتب إلى أبنائه وأحفاده، وبالأخص إذا تزامنت ولادة أحد الأبناء أو الأحفاد مع صدور الكتاب، لتشابه مخاض الكتابة مع مخاض الولادة، ولشدة فرح الكاتب بإنتاجه الفكري واعتباره كتبه كأبنائه أو أعز، سيما وأن الكتب قد تمثل كاتبيها أكثر مما يمثلهم أبناؤهم الذين من أصلابهم.

في رواية فرس العائلة كان الإهداء إلى ابنته أمينة وحفيده محمود، فأما اسم حفيده فهو على اسمه، وأما ابنته أمينة فعلى اسم أخته أمينة التي توفيت وهي فتاة وتركت وفاتها في نفس محمود شقير جرحا غائراً[5]. وأما الإهداء في مديح نساء العائلة فقد وجهه محمود شقير: "إلى مهدي ... حفيدي الرابع عشر".

إن الإنجاب هو عنوان الوجود والفاعلية ثم البقاء والاستمرار من خلال الأبناء والأحفاد، ومثله الإنتاج الفكري، وقد رأينا من تفرغ للإنتاج الفكري مؤثراً إياه على الزواج والإنجاب.

 وليس غريبا أن يكون إهداء شقير روايتيه لابنته وحفيديه، سيما وأن الروايتين تهدفان إلى توثيق تاريخ العائلة  للحفاظ عليه بعد التشظي الكبير الذي أصابها، فاستمرار الإنجاب في العائلة ممثلا في أحد أبنائها هو استمرار للعائلة ذاتها، وقد أفاض محمود شقير في "فرس العائلة" في الحديث عن حرص العائلة على الإنجاب في صراعها مع القبائل الأخرى بعدما خسرت بعض معاركها، واضطرت راغمة إلى تجرع الإهانة والقبول بالصلح عقب مقتل سيدها الشيخ عبد الله لعدم مقدرتها على مقارعة القبيلة التي اغتاله رجالها وتعويض ذلك بالزواج والإنجاب... من مثل:

أن الشيخ محمد، خطرت بباله الرغبة في الزواج مرة سابعة، الأمر الذي قد يرجع إلى البلبلة التي سببها حواره مع الضابط التركي وظلت تطارده، وبالتالي الرغبة في تكثير الذكور في العائلة، حيث ابتلع إهانة الضابط الذي وصفهم بأنهم "جنكلة" بسبب الضعف الناشئ عن قلة العدد، وكذلك فإن ابنه منان هو الآخر قد رغب في الزواج ثانية كرد فعل على حالة الضعف التي ظهرت عليها العشيرة في الآونة الأخيرة (ص22). "رغم هذا الصلح، ظل الشيخ محمد بعد أن ورث الزعامة، يعتقد أن دماء أبيه ذهبت هدراً، وبات يؤرقه الإحساس بضعف عشيرته أمام العشائر الأخرى، فقرر الإكثار من الزوجات لاستيلادهن أعداداً كبيرة من الأولاد" (ص 36). وكان الفرسان الفارون يعودون إلى نسائهم في الليالي المعتمات، يأوون إلى فراشهن، يستولدونهن أولاداً وبنات، ولم يكُفّ المختار عن استيلاد زوجاته مزيداً من الأولاد (ص137)، وقد بلغت ذرية المختار منان قبيل وفاته نحواً من مائتين، كما ورد في الجزء الثاني.

أما في مديح نساء العائلة، حيث احتفى شقير بالحفيد الرابع عشر، فقد  تبنى فيها قضايا نسوية متعددة، ونظّر خلالها لحق الزوجين في تقرير عدم الإنجاب، أو تنظيم النسل والاكتفاء بولد واحد أحياناً، حيث اتفق بطله الرئيس محمد الأصغر وزوجته سناء على تأجيل الإنجاب خمس سنوات، كما أنه أقنع والده الشيخ منان الذي كان معنياً بأن يكثر ابنه من إنجاب الأولاد الذكور لتعزيز قوة العشيرة وتكون قادرة على مواجهة العشائر الأخرى، أن الزمن قد تغير (ص33)، أي أن مقومات القوة وأدواتها لم تعد بكثرة الأبناء.

وبالتالي فإن من المثير للعجب أن يهدي روايته إلى حفيده "الرابع عشر"!، إذ يتناقض الإهداء بهذا الشكل مع الموقف الفكري للكاتب في الرواية، حيث إن ذكر الرقم (14) يشير إلى احتفاء الكاتب بكثرة الإنجاب، فهل تغلبت ثقافة الكاتب الشرقية وتربيته البدوية وطبيعته البشرية، على الرداء الفكري الذي حاول أن يتزيا به؟ أم إن إدراكه ومعايشته لواقع الصراع الديمغرافي في فلسطين، والقدس على وجه الخصوص، هو الذي استفز لاشعوره وعقله الباطن فذكر الإهداء بهذا الشكل؟ أم لعلها فرحته بحفيده التي تزامنت مع فراغه من كتابة الرواية قد أنسته ما كتبه فيها؟

ربما كانت فرس العائلة أحق من أختها بالإهداء المحتفي بكثرة الإنجاب، وكان الأولى إهداء مديح نساء العائلة لأخته أمينة التي تعد حكايتها، أنموذجا للظلم الواقع على النساء في مجتمعنا، كما حدثنا هو ذاته في بعض ما كتب سابقاً، ولعلها هي ذاتها عزيزة أخت محمد الأصغر التي توفيت مبكراً، وفي تسميتها عزيزة ما يشي بمقدار غلاوتها عند الكاتب، وشعوره تجاهها وحزنه عليها.

v    البدء والختام

تبدأ رواية فرس العائلة بقول الكاتب: "للبرية أعرافها التي ابتدعها أبناء بسطاء. منان هو أحد هؤلاء الأبناء، والبرية لم تعد كما كانت من قبل، أو هذا ما يعتقده منان، فالريح التي تقبض على الغيوم من أذيالها لتأخذها إلى شتى البقاع جالبة معها المطر لا تحضر إلا لتعيث خرابا في مضارب العشيرة، والمطر منقطع أو هو شحيح في أحسن الأحوال، والأغنام جفت ضروعها، وسبل العيش أصبحت أكثر صعوبة، وعسكر الإنجليز لا يغيبون عن العشيرة حتى يهروا في أفقها من جديد ... منان اتخذ بعد طول تفكير قراراً بالرحيل، وبالتوجه غربا إلى مشارف المدينة، هناك يمكنه أن يحقق ما تصبو إليه نفسه من رغبات، ويمكن لأبناء عشيرته العثور على فرص شتى للرزق، ولم يكن قراره سهلاً، فهو ولد في البرية وعاش طفولته وشبابه فيها، وهو الآن كهل وله فيها ذكريات. بعض رجال العشيرة لم يرقهم قرار منان، تهامسوا في ما بينهم واتهموه بأنه يضحي بأمن العشيرة من أجل أطماعه الخاصة".

تتضمن البداية إطاراً وخلفية للبيئة المكانية والاجتماعية والسياسية، ثم التعريف بمنان الذي يواجه مشكلة صعوبة البقاء في البرية، فيتخذ قراراً بالرحيل إلى مشارف المدينة التي سنعرف لاحقا أنها القدس، وحيث إنه في الموقع الذي يتيح له اتخاذ القرار فهو الزعيم أو مختار العائلة وشيخها بعد أبيه الشيخ محمد وجده الشيخ عبد الله كما ستظهره قابل الصفحات، وسنتعرف فيما بعد أن هذا القرار كان في منتصف العقد الرابع من القرن العشرين إبان الانتداب البريطاني على فلسطين.

التركيز في هذه البداية على البيئة الجغرافية والفضاء المكاني للرواية– البرية- التي لها أعرافها، غرضه فيما يبدو التأكيد على إغراق هذه المجموعة البشرية في البدائية من خلال وصفهم بأنهم أبناء بسطاء، تذرعًا بسطوة المكان وإكراهات الجغرافيا على أبناء البرية، من أجل تسويغ (الواقعية السحرية) التي أراد الكاتب أن يتماهى فيها مع رواية (مائة عام من العزلة)، حيث سيسوي في أحيان عديدة، خاصة في الممارسات الجنسية، بين أبطال روايته، والبهائم التي تعيش معهم أو يعيشون معها في البرية.

ومما يعزز ذلك للمثال لا للحصر، حديث الرواية عن تأثير سكنى البرية حتى على التركي علي أوغلو في إشعال كوامن الجنس لديه، والذي: "كانت طبيعة الحياة في البرية حيث القسوة وشظف العيش تدفعه إلى ذلك، وكان طقس البرية المتنوع واتساع المدى فيها يشعل الأشواق في قلبه، فيجعله مشدوداً إلى الرغبات الجسدية".

منان المذكور أولاً في الرواية هو مختار العشيرة لأنه أهم شخوصها وبطلها الأساسي، فهل اختار الكاتب هذا الاسم لما يتضمنه من دلالات الإنعام والتفضل والقطع كذلك؟ حيث تسلم المخترة في ظل ظروف صعبة  تزامن فيها دخول المحتل البريطاني مع تدهور الحالة الصحية لوالده الشيخ محمد، وفيما بعد اضطر لاتخاذ قرار الرحيل من البرية إلى مشارف القدس، ثم كان عليه متابعة أحوال العشيرة، فهو قطع قومه عن البرية، وهو منّ عليهم وتفضل بتقريبهم من القدس المدينة والمدنية؟.

البداية في (مديح لنساء العائلة)

"كان عليّ أن ألغي الرحلة، تذمرت سناء ثم لاذت بالصمت كعادتها كلما دهمها أمر مفاجئ".

لئن ابتدأت (فرس العائلة) بقرار (رحيل) العشيرة من البرية إلى مشارف المدينة، اتخذه شيخها منان، فإن (مديح لنساء العائلة) هي الأخرى تبدأ بمشروع (رحلة) لكنه للزوجين سناء ومحمد الأصغر، ابن الشيخ منان، من مشارف المدينة إلى بيروت من أجل السياحة والاستجمام، لكن هذه الرحلة تلغى بسبب الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني.

 كذلك فإن قرار الرحلة الأولى يتخذه الشيخ ويتعلق بالعشيرة جميعها، والرحلة الثانية يتخذ قرارها ابن الشيخ وزوجته على مسؤوليتهم الشخصية ما يعكس التغيرات التي طرأت على العائلة.

وإذا كانت فرس العائلة قد تصدّرت باسم المختار منان، فإن مديح نساء العائلة تبتدئ باسم سناء، زوجة ابنه محمد الأصغر البطل الرئيس والسارد الأهم للرواية، وهي ملهمته وملهبة فكره وخياله، فالبداية بامرأة إذ البطولة في الرواية للنساء.. ويمكن القول إن الاسم الأول في كلتا الروايتين يمثل الفاعل الأول فيهما، وإن كان دور سناء غير مباشر، أو هي المرأة التي تقف من خلف الرجل العظيم بحسب الرواية، بل إن لها قدرة كبيرة على التأثير عليه، إذ صار يأكل المنسف بالملعقة بعد اعتراضها على الأكل بيده كما يفعل أهل البادية، وقبِل أن يبقى معها وحدها على أن تتركه ليتزوج ثانية تنجب له، وأهم من ذلك: دلالة الضمير في الجملة الأولى: (كان عليّ أن ألغي الرحلة)، ولم تقل: (علينا أن نلغي) فهي صاحبة قرار هنا، وربما كانت في أحيان أخرى صاحبة القرار.

وإذا ما تلاعبنا مع الحروف فإن حروف سناء هي ذاتها حروف نساء، والموضوع موضوع مديح وثناء، فهناك جناس ناقص بين الكلمتين– سناء وثناء-، فضلاً عما ذكرته وضحا أم محمد الأصغر بأن سناء جديرة بالثناء!.

وكذلك فإن السناء شعاع وضياء ونور، وقد احتفى محمد الأصغر زوج سناء بالكهرباء التي جاءت بالحضارة والنور، وقال في عبارة مكثفة ذات دلالة، إن أمه: "صارت تقلل من حديثها عن الجن ربما لأن الكهرباء هزمت العتمة"، وكان يظن، كما يبدو، أن التطور العلمي سيأتي على كل المعتقدات والغيبيات.

خاتمة فرس العائلة:

"نظرت صبحاء نحو وضحاء وقالت بصوت واهن: هالحين أجا دورك إنت في الحكي".

"بكت وضحاء وبكت مثيلة وبقية النساء، وقالت صبحاء بصوت خافت: هاتوا لي فرس العيلة. بدي فر...س... العي...، ولم تستطع مواصلة الكلام، دخلت في غيبوبة، بللت وضحاء شفتيها وسكبت في حلقها قليلاً من الماء، وظل المختار يحدق في وجه أمه إلى أن انطفأت قبل الفجر بقليل، تاركة خلفها حكايات ظل يتناقلها أبناء عشيرة العبد اللات وبناتها، جيلاً بعد جيل".

تضمنت هذه الخاتمة أولاً حادثة وفاة مهمة إذ المتوفاة هي صبحاء والدة المختار منان، وامرأة والده الشيخ محمد من قبله، وهي راوية تاريخ العائلة، والتي ظل هاجسها حتى آخر لحظة من حياتها فرس العائلة، الممثلة لزعامة العائلة وعزها ومجدها ولم شملها وجمع شتاتها، ثم إنها وقبل وفاتها أسندت أمانة رواية تاريخ العائلة لكنتها وضحاء، فحيث لم يستطيعوا إعادة مجد العائلة فلا بد من الحفاظ على تاريخها وجذورها وحكايتها.

وكذلك فإن خاتمة "مديح لنساء العائلة" كانت وفاة الشيخ منان، فهل قصد الكاتب أن تبدأ كل من الروايتين بمشروع رحيل أو رحلة؟ ويختمهما بوفاة ورحيل إلى الدار الآخرة، أكان يقصد أن جيلاً كاملاً قد انقضى فيما ظلت فرس العائلة هاجسه وحلمه؟ ثم كانت الوفاة الثانية لتشير إلى انقضاء جيل آخر وقد تشظت العائلة وتشتتت، وأصبح قصارى ما يفكر فيه محمد الأصغر هو توثيق تاريخ العائلة.

 أم ترى أن الكاتب قد استسهل النهاية التقليدية بوفاة البطل، خاصة في الجزء الثاني، وكأن دار النشر أو جهة غيرها قد استعجلوه فسارع إلى دفن الشيخ منان باكراً، قائلاً على لسان محمد الأصغر: "مات أبي منان مساء الخميس، ودفناه صباح الجمعة"، وقد نسي في غمرة استعجاله أنه قد جرت العادة أن من يموت في المساء يدفن وقت الظهيرة وليس الصباح، وحيث اليوم التالي هو يوم جمعة فالمتوقع أن يصلى عليه بعد الجمعة ثم يتم دفنه؟.

وفي سياق الوفاة أيضاً، فمن اللافت أن فرس العائلة ابتدأ مشهدها الأول بالمختار منان، فيما انتهت مديح نسائها بوفاته وغيابه عن المشهد.

وإذا كانت فرس العائلة قد ابتدأت بقرار رحيل من البرية فإن نهاياتها كانت ترهص بنكبة 1948 وترحيل الفلسطينيين، وتحدثت في أواخرها عن الطيور المهاجرة الباحثة عن الدفء.

وأيضاً ابتدأت مديح نساء العائلة بمشروع رحلة سياحية إلى لبنان، ولكن ويا للمفارقة، تحدثت نهايات الرواية عن ارتحال الفدائيين الفلسطينيين الذين في لبنان عنها!.

وبسبب العدوان الإسرائيلي على لبنان واجتياح أراضيه تنتهي القصة بإلغاء الرحلة والاستعاضة عنها برحلة إلى إسبانيا، والطريف أن تُذكر إسبانيا بوصفها "الأندلس" والتهجير منها، والذي جاء بمناسبة الترحيل الجديد من بيروت، يقول محمد الأصغر لسناء وهو يقترح عليها بدائل للسفر إلى بيروت: "نسافر إلى الأندلس ولا تقولي إنك لا تريدين تذكر هزيمتنا فيها".

وقد تردد ذكر بني هلال وتغريبتهم غير مرة في الرواية، وجرى الربط بحكايتهم خاصة مع رحيل قسم كبير من الفدائيين الذين كانوا في لبنان إلى تونس، وبذلك يكون جو الرحيل والترحيل قد خيم على الروايتين وبالأخص في البدايات والخواتيم، ولا ننسى أن موضوع الرحيل والترحيل قد أصبح صفة ملازمة للفلسطينيين.

v    مقارنة مع مائة عام من العزلة

حاول عدد من الروائيين العرب وغيرهم أن ينسجوا على غرار رواية ماركيز، رجاء أن يكون لكل واحد منهم نسخة محلية من "مائة عام من العزلة"، وكذلك فعل شقير فحاول أن ينسج على المنوال ذاته، حيث يلاحظ قارئ روايتيه مقدار التماهي مع ماركيز، ما جعله أحياناً يصور العائلة في غاية البدائية، وبالإمكان ملاحظة عدد من أوجه التشابه على وجه السرعة، تمثيلاً لا حصراً:

يقوم هيكل مائة عام من العزلة على تاريخ سلالة، يمتد على مدى مائة عام تتعاقب فيها ستة أجيال. وقد عرضت روايتا شقير حتى الآن لأربعة أجيال ابتداء بجيل الشيخ عبد الله ثم ابنه محمد فولده الشيخ منان، ثم أولاده.  تضمنت الروايتان الكثير من مشاهد فقدان البراءة تدريجياً مع الاستمرار في الاحتكاك بالعالم الخارجي. انبهار الجد المؤسس في رواية مائة عام من العزلة بالبضائع الجديدة التي يجلبها الغجر وغيرهم كالثلج الصناعي والتلسكوبات، وكذلك انبهار بدو عشيرة العبداللات بالبريموس والفانوس اللذين يعملان بالكيروسين، والمذياع، وفيما بعد الانبهار بالآلات الكهربائية كالغسالة والتلفزيون وغيرهما. تحدثت مائة عام من العزلة عن ولادة طفل له ذيل خنزير نتج عن علاقة سفاح قربى بين والديه حيث تبين أن الأم لم تكن سوى عمة الأب، وقد ولد أدهم بأذنين طويلتين كأنهما أذنا حصان، وكانت له القدرة على الصهيل أيضاً. في الروايتين الكثير من أحداث الزواج والوفاة، والعلاقات العاطفية، والممارسات الجنسية الجامحة لدى عدد من الأفراد، بما فيها العلاقات غير الشرعية والتردد على بيوت الدعارة، حتى أضحى لدى العائلتين مخاوف من ولادات أخرى مشوهة. الروائيان تطرقا لبعض سلوكيات المجتمعات المنغلقة من الثرثرة والغيبة والإشاعات والأساطير والخرافات، وكان هذا الموضوع أحد المحاور الرئيسة في فرس العائلة، وكذلك مديح نساء العائلة حتى إن الناشر قد نوّه إليه على الغلاف الأخير للرواية. العقيد في مائة عام من العزلة يحرق جميع قصائده، ومحمد الأصغر كذلك يحرق ملفاته.  أسماء الأشخاص في رواية ماركيز محدودة جداً، وتتكرر بشكل لافت ومربك، وقد تكررت بعض الأسماء بذاتها عند شقير، أو تكررت الأسماء ذات الجذر الواحد، وتكرر اسم محمد مع صفات الكبير والصغير والأصغر، ومن حيث المبدأ فإن محدودية الأسماء تشي بمحدودية اللغة ومفرداتها، لمحدودية الموجودات المادية المحيطة الطبيعية والصناعية من جهة، ومحدودية الفكر والثقافة من جهة أخرى، لكن الأسماء في فرس العائلة لم تكن قليلة ومكررة إلى حد الإرباك، وقد ازدادت الأسماء وتنوعت خصوصاً في مديح نساء العائلة، مع مزيد الاحتكاك بالخارج.

v    الأيديولوجيا

أذكر قبل مدة أن واحداً من النقاد عقب قراءته لأحد أعمال محمود شقير، كتب محتفيا وسعيداً أن شقير قد شفي في هذا العمل من تأثيرات الأيديولوجيا، ولعله كان يتحدث هنا عن التأثير السلبي لأيديولوجيا الكاتب على إبداعه الأدبي، ما يؤدي بالأديب إلى المباشرة في الطرح والتقريرية في العرض، ويكون على حساب الإبداع.

 والسؤال هو إلى أي حد حافظ الكاتب في الروايتين على أن تظل الكلمة الأولى للإبداع، وهل صمد أمام الأيديولوجيا، أم إنه قد عاودته نوباتها وانصاع لإرغاماتها؟.

 يمكن هنا أن نتحدث عن عنوانين كبيرين على وجه الخصوص: أولهما الأيديولوجية الماركسية، وثانيهما موضوع النسوية الذي قرر أن يبثه في ثنايا مديح نساء العائلة، وقد كان التطرق للأيديولوجيا الماركسية، أقل بكثير من الموضوع الثاني، وهذا أمر يتعلق أساساً بواقع كل منهما وهيمنته في حياة المجتمعات المعاصرة، سياسياً وفكرياً واجتماعيا.

من أمثلة ذلك حديثه عن الدكتور بندلي الجوزي، وكتابه الذي يتوافق وأيديولوجية الكاتب حيث إن التاجر عثمان قد: "سمع عن مفكر مقدسي اسمه بندلي الجوزي، قيل له إن لديه أفكاراً تدل على بعد نظر وعلى فهم عميق للإسلام، قيل إنه ألف كتابًا يبحث في تاريخ الحركات الاجتماعية في الإسلام، الحركات التي تعمل من أجل العدالة الاجتماعية والدفاع عن فقراء الناس، راقت لعثمان هذه الأفكار حينما شرحها له معلم مدرسة.. حفظ اسم بندلي جوزي وصار يأتي على ذكره كلما جاء رجال القرية إلى حانوته.. ولم يكن يبوح بكل ما يعرف لمن يستمعون إليه، كان يصمت فجأة ولا يعود إلى الكلام إلا بعد أيام، حينما يكون مزاجه قابلاً لاستئناف الكلام" (فرس العائلة: ص159).

 فمن الواضح أن السارد ينسى أنه يقوم بعمل أدبي ثم إذا به يصعد إلى المنصة ويقف خطيباً ويروج بطريقة مباشرة وتقريرية لأيديولوجيته، وبندلي جوزي الذي حاول أن يروج له هو مستشرق روسي من أصول مسيحية فلسطينية، وقد كتب عن الإسلام وفق التفسير المادي الماركسي للتاريخ، وقد لاحظنا كيف أن كاتب الرواية يصف أحد أبطاله بأنه ( لم يكن يبوح بكل ما يعرف لمن يستمعون إليه) لإنه باختصار يروج للماركسية ويتحدث عن الإسلام بغير ما يعرف المسلمون.

وفي السياق ذاته فإن شقير يجعل من فليحان مفكراً ومنظرا يستوقفه أمر السراويل الطويلة التي ترتديها الريفيات دون غيرهن، سيما وقد كانت له معها حكاية: "أكيد هذا السروال مرتبط بالبيئة الزراعية حيث تعمل المرأة في الحقول مثلها مثل الرجل وهي لذلك تضطر وقت العمل إلى أن ترفع ثوبها الطويل عن ساقيها وتثبت طرفيه تحت حزامها، مثلما يرفع الرجل قنبازه عن ساقيه، ويثبت طرفيه تحت حزامه، ويصبح السروال الطويل للمرأة مثلما السروال الطويل للرجل هو الحل الشافي لهذه المسألة، ثم إن تسلقها الأشجار لقطف الثمار يريحها من تلصص الفضوليين (ص124)".

الطريف أن فليحان البرجوازي الرجعي، يكتشف أن سبب الاختلاف في ملابس النساء الفلاحات عن نساء البادية وغيرهن، مرتبط بعلاقات الإنتاج حسب التفسير المادي التاريخي، حيث أنطقه الكاتب بالأيديولوجيا الماركسية، وإن لم يستخدم مفرداتها.

كان لافتاً أن الكاتب يحشد لكل قضية من قضايا المرأة  حيث يعرضها من أكثر من زاوية، ويؤيدها بأكثر من شاهد على اختلاف أفكار شخصياته وتعدد مشاربهم؛ فإذا عالج قضية عدم الإنجاب وارتباطها بالتعدد نجده يورد رفض سناء أن يتزوج عليها محمد الأصغر امرأة ثانية تنجب له، كما يعرض قصة مما رآه في المحكمة عن امرأة تزوج عليها زوجها لأنها لا تنجب ومقدار الظلم والأذى اللذين أصاباها جراء ذلك.

وإذا عالج قضية اللباس وأراد أن يقول بأنه لا عبرة بطول الثياب أو قصرها في موضوع الإثارة أو الشرف، فإنه يأتي بفليحان ليقول بأن سراويل رسمية مع كونها طويلة سابغة كانت تثيره، ثم يذكر السارد واقعة أوردها ابن فضلان حول رحلته في بلاد الترك والروس والصقالبة، عن امرأة رفعت ثيابها كاشفة جسمها، وانبرى زوجها يدافع عن فعلتها أن المهم ليس ما تكشفه بل في محافظتها عليه، لكن إذا أراد شقير العودة إلى الواقعية السحرية فإنه ينسى التنظير السابق ويعرض مشاهد التلصص على الأجساد المكشوفة ليصبح الأمر في غاية الإثارة.

وإذا أراد الكاتب الترويج لفكرة ارتباط رجل بامرأة دون اعتبار للمحيط الاجتماعي ودون الحاجة إلى التوثيق لدى المحكمة الشرعية أو المؤسسة الكنسية، عرض لنا الكثير من العلاقات خارج إطار الزواج، وأورد تمني فليحان العودة إلى زمان: (أنا على حجر.. وأنتِ على حجر)، حيث مراسم الزواج البدائية عندما يتفق راعيان ذكر وأنثى على الارتباط. ثم نجد فليحان نفسه ومن قبله أخته فلحة يتزوجان بطريقة الخطف رغماً عن إرادة أهاليهما.

 وعندما يتساءل الناس عن كيفية زواج الشيوعييْن محمد الأكبر ومريم الذي لم يجر في المحكمة الشرعية، هل تم في كنيسة البشارة بالناصرة؟ أم بكنيسة يونانية؟ أم إن أحد قادة الحزب الشيوعي هو الذي تولى إبرام عقد زواجهما بحضور شاهدين؟! كان محمد الأكبر يقول باختصار: "المهم أنني أنا ومريم توافقنا على الزواج".

ثم فجأة يطالعنا محمد الأصغر بقرار الاستقالة من عمله في المحكمة الشرعية، حيث يصف دوره كاتباً لعقود الزواج بأنه تافه ولا معنى له.

والسبب الخطير الجليل من وراء هذا القرار المصيري طرفة سمجة تذكرها، وفحواها أن الزواج ليس سوى الممارسة الجنسية، فتثور ثائرته ويقرر أنه لا ينبغي أن يظل في عمله بعد الآن، يقول: "وابتسمت على مضض، ولا أدري لماذا خطرت ببالي تلك الطرفة الآن، ربما للتأكيد على تفاهة دوري في المجتمع" (ص154)، ثم إن السارد يشعر بأن هذا الانفعال وما تلاه مفتعلان وغير مقنعين، فيضيف سببا آخر لقراره وهو قيامه بإبرام عقود زواج لفتيات صغيرات في السن.

وكما هو واضح فإن السياق الذي جاء فيه قرار الاستقالة باعتباره ذروة العقدة باهت، وهو في غاية الضعف والافتعال.

لا جدال في حق الكاتب أن يتبنى الموقف الفكري الذي يختار، وله أن يرفض المحكمة الشرعية مؤسسة وقوانين، مما قد نوافقه عليه أو نخالفه فيه، ولكننا هنا نتحدث عن الرواية كفن، لا عن المضامين الفكرية والاجتماعية التي حشيت بها أو حشرت فيها.

وإذا كان بطل الرواية لا يرى في الزواج إلا العلاقة الجنسية؛ فإن علاقته بزوجته سناء كانت تقوم على الاحترام وكان عمودها الجانب الفكري والسلوكي، وكذلك فإن الزوجين الشيوعييْن "محمد الكبير" ومريم لم يعرض لهما السارد سوى السلوك النضالي، وقد أحاطهما بهالة من الهيبة والاحترام والإجلال كما لو كانا قديسين لا "يتعاطيان" الجنس، بالرغم من أن رائحة الجنس كانت تنبعث من كثير من زوايا الروايتين وجنباتهما.

وربما أزعم بناء على ما سبق، أن فكرة تضمين قضايا النسوية للجزء الثاني من الرواية قد جاءت متأخرة بالنسبة للكاتب، وأنه قرر تضمينها بعد اكتمال معمار الرواية وخلق أبرز شخوصها وأحداثها، ولذلك فإن عملية إقحام مفردات النسوية الكثيرة في جسد الرواية، لم تكن في جميع الحالات موفقة.

 وأظن أن بعضاً من قضايا المرأة التي أوردها في مديح لنساء العائلة لم تكن تثار في الفترة التي غطتها الرواية، وإنما طرحت في العقدين الأخيرين أو قبلهما بقليل خصوصاً في مؤتمرات السكان.

v    الشخصيات وأسماؤها

يمثل الاسم في العمل الأدبي إحدى العلامات اللغوية المقصودة غالباً وعدم الاعتباطية، وتنتمي الأسماء عادة إلى بيئة ذلك العمل، وقد يقصد الكاتب من وراء الأسماء إظهار التماثل بين الاسم والمسمى أو التضاد معه، كما أن الأديب قد يترك الشخصيات بدون اسم معرفاً إياها من خلال صفة معينة كالمهنة أو القرابة أو العاهة، أو يعرفهم من خلال انتمائهم إلى بلد أو عائلة.. وهذه وقفة عند بعض أسماء الشخصيات والأماكن في الروايتين:

·        الشيخ عبد الله .. والعبداللات: الشيخ عبد الله هو جد المختار منان ووالد أبيه الشيخ محمد من قبله، وقد يكون هو "الأب المؤسس" للعائلة، أو أن اسمه مطابق لاسمه، وكأن الكاتب يريد القول إن هذا الشيخ بالنسبة لعشيرته، هو رمزها وعنوان مجدها وعزها.

والعبداللات هم أبناء عشيرة الشيخ عبد الله، وقد يكون الجمع الأصوب: العبادلة، لكن جرت العادة في تسمية أبناء العشائر ونسبتهم أن يزاد في آخرها الألف والتاء على غرار جمع المؤنث السالم، وذلك مثل: الجرادات والحويطات والذنيبات والعبيدات وغيرها، وعند التلفظ بها تفخم اللام لأنها في الأصل لام لفظ الجلالة، وتمييزا لها عن صنم اللات.

وقد شكل هذا الاسم ما يشبه العقدة لأبناء العشيرة من قبل العشائر الأخرى وبعض "الخطباء" وغيرهم، بل ربما اتهم بعض أبناء العشيرة أنفسهم بالانتساب إلى أبي لهب واللات، مرددين ما يقوله الآخرون فيهم، مستشهدين بهذه المشاكلة اللفظية، من باب جلد الذات وتأنيب الضمير في بعض المواقف، كما حصل عندما لم يقوموا بالمشاركة في الدفاع عن القدس لما طلب الضابط التركي منهم ذلك، أو تعليقا على سلوكات منحرفة يقع فيها أشخاص من العائلة.

·        الزوجة مهيوبة: مهيوبة اسم على مسمى، تجلت هيبتها في قلة كلامها والحزم في مواقفها، وعدم قبولها أياً من الخُطّاب إلا من رجل فارس مقدام، وإصرارها على ذلك حتى التقت بالشيخ عبد الله.

 

الدكتور، والرمز الكبير، والشيخ التقي:

أما الدكتور فهو الطبيب يعقوب زيادين[6] الشيوعي الكركي الذي فاز في الانتخابات النيابية عن المقعد المسيحي لمدينة القدس في العام 1956، ومن دواعي عدم ذكر اسمه في الرواية والتركيز على صفة الدكتور، الرغبة في إضفاء هالة من التقدير وإعطائه الأفضلية والأحقية بكسب ثقة الجماهير، والفوز بالمقعد النيابي على سائر المرشحين وبالأخص مرشح النظام.

وأما وصف الرمز الكبير، فقد أطلقه في الرواية فليحان الرجعي على رئيس الوزراء سليمان النابلسي[7]، فهذا الوصف من المنافس أو المخالف فليحان شهادة للنابلسي، من غير متهم بالتحيز، كالشيوعي محمد الكبير، والفضل ما شهدت به الأعداء.

أما الشيخ التقي

فهو وصف للشيخ تقي الدين النبهاني[8]، مؤسس حزب التحرير، والوصف يتضمن مقطعاً من اسمه، وقد ورد في الرواية على لسان أحد أبناء الحزب.

·        المحمدون الثلاثة:

بداية فإن التسمية بمحمد مما يكثر في أوساط المجتمعات الإسلامية، وعندما يسمي الشيخ عبد الله ابنه محمداَ فهو أمر طبيعي، ويصبح اسم الصبي محمد بن عبد الله على غرار اسم الرسول عليه الصلاة والسلام.

ثم يسمي المختار منان ابنه محمداً تيمنا بوالده، لكن يخيب أمله فيسمي محمداً آخر يلقب بالصغير، ويلقب الأول بالكبير، وحيث يخيب أمله مرة ثانية فإنه يسمي أحد أبنائه الجدد بمحمد الأصغر، فهل أراد الكاتب أن يظهر لنا حالة التشظي الفكري والسلوكي لدى إخوة ثلاثة لهم الاسم ذاته لكن تعددت مشاربهم وتفرقت أهواؤهم، وأن الزمن قد تغير فلم يعد الأبناء نسخاً عن آبائهم؟

وأرى من المناسب متابعة بناء شخصيتي محمد الكبير ومحمد الصغير منذ نعومة أظفارهما في فرس العائلة لإبراز كيفية تخليق ورسم شخصيتين، أحدهما سيصبح مناضلاً شيوعيا وفقاً لأيديولوجية الكاتب، بينما سيصبح الآخر– محمد الصغير- وبالذات في الجزء الثاني من الرواية شيخاً وخطيب مسجد على خلاف أيديولوجيته.

وسيظهر من خلال ذلك إن كانت صفتا الكبر والصغر بسبب العمر فقط، ولماذا جعل السارد محمد الكبير كبيراً، ولماذا وصف أخاه الآخر بالصغير؟

محمد الكبير:

فأما محمد الكبير الذي أعده ليكون مناضلاً شيوعياً؛ فأخبرنا أنه ومنذ صغره كان فتى صاحب نخوة ونجدة، وعندما كان الأولاد يتكاثرون على أخيه أدهم فإنه كان يهب لنجدته، وهو لم يكن يقبل أن يسيء إليه أحد بشتم أمه المتوفاة ووصفها بالجنون.

وأما تصرفات الصعلكة، كسرقة الدجاج أو غيرها، التي كانت تصدر عنه، فإنها نوع من التمرد على الأوضاع الخاطئة، ودليل على شخصية ثورية حرة تنتظر من يؤطرها، وقد شهد له خطيب المسجد في حفل ختمه المصحف أنه سيكون له شأن عظيم، حتى لو كان في ذلك بعض مجاملة لوالده المختار.

ومنذ صغره كان يجلس مجالس الرجال في مضافة جده الحاج محمد ولم يكن يجرؤ على دخول المضافة أحد من أطفال العشيرة غيره، وكان يجيب على أسئلة الرجال في المضافة مرة بشكل جاد ومرة بشكل عابث، ما يدل على أن عمره العقلي كان أكبر من عمره الزمني، بل أكبر من رجال العشيرة الذين يجيب على جميع أسئلتهم، وأما أسئلته فهي أكبر من العشيرة والبرية ولا جواب لها عندهم، حيث يعرض لنا السارد هذا الفتى وهو يتفكر وتنتابه أسئلة وجودية كبيرة لا يتوقع أن يجد لها إجابات في البرية الصغيرة الساذجة، وقد انتبه إلى أن عوالم عجيبة تتجلى خلف المدى الواسع الذي تبحر به عيناه، صار يلح على أبيه في طرح الأسئلة وأبوه في شغل شاغل عنه، لم يعد يطيق البقاء في العشيرة التي تحدها مقبرة من الجنوب، ومقام لحامد وقبر لحميد من الغرب، الأمر الذي لا يشبع رغباته، فقرر أن يضرب في المدى الفسيح وذهب بعيداً خلف مضارب العشيرة، باحثاً في المنعرجات الوعرة عن أسرار ما زال يجهلها، وظل يعتقد أنه سيلتقي فرس العائلة من جديد على شكل كرة من غزل أو على هيئة صبية دعجاء العينين، صار يكثر استحضار الصبية التي ظلت ترافقه وتحيا في خياله كلما ابتعد من مضارب العشيرة (125).

وصار يغيب طويلاً عن العشيرة وتثار حوله شائعات أنه يعمل في مواخير يافا، أو أنه تزوج يهودية، وعندما يغادر العشيرة تأتي الأخبار أنه يعمل حارساً في المواخير، ولا يلبث أن تلتقيه تلك الصبية مريم المسيحية فتنقذه، وتعرفه إلى أخيها إلياس الذي ينظمه في الحزب الشيوعي.

ويبدو أن حديث السارد أن محمد الكبير ظل يعتقد أنه سيلتقي فرس العائلة على شكل كرة من غزل أو صبية دعجاء العينين قد يساعد في حل شيفرة العنوان، فأما كرة الغزل فقد سبق لمحمد الكبير أن أحضر إلى العشيرة كرة غزل من صوف وقال: هذه فرس العائلة، فهل كان يريد أن يلفتهم إلى العمل المنتج بدلاً من انتظار الغائب الذي لن يعود؟ فالصوف موجود لدى أهل البادية وما عليهم إلا أن يقوموا بتصنيعه واستثماره، وأما الصبية دعجاء العينين فترمز كما أظن إلى بعد النظر وعمق الفكر والقدرة على تمييز الصواب من الخطأ، والعين الدعجاء التي اشتد سوادها وبياضها واتسعت، ولذلك فقد كانت مريم التي شكل الكاتب منها ومت محمد الكبير زوجين أصيلين من الخيل الآدمية عوضاً عن انتظار فرس العائلة، وربما كان يفكر بناء على هذا في إعطائهما الدور الأهم والبطولة المطلقة لولا عدة اعتبارات قضت بتقديم سناء ومحمد الأصغر.

 وعند ذلك وبخاصة في الجزء الثاني لا نكاد نسمع صوت محمد الأكبر إلا بشكل مختصر، وقلما يتحدث بل الآخرون يتحدثون عنه، ربما رغبة في إضفاء هالة من التقدير والنجومية للرجل وفكره وحزبه، حيث يبعث عدداً من أبناء العشيرة لروسيا، ويسافر هو ومريم إليها كذلك، ويقود حملة تأييد الدكتور في الانتخابات النيابية، ثم يتعرض للسجن سنوات بسبب نضاله السياسي.

محمد الصغير:

أما كيف نحت السارد شخصية محمد الصغير فقد "شب وهو يحمل طباعاً تختلف عن طباع أخيه محمد الكبير، اعتقدت بعض نساء العشيرة أن الولد أبله، فهو لا يتكلم إلا لمامًا وأحيانًا كثيرة يبول في سرواله... رأته نساء العشيرة ذات مرة يحمل أفعى رقطاء، فسارعن إلى تخليصها من بين يديه، وأهوين على رأسها ضرباً بالعصا حتى قتلنها، ازدادت قناعة المختار بأنه خلّف ولداً أبلهاً[9]! فقرر الزواج من جديد..، إحدى عجائز العشائر اعتقدت أن محمد الصغير موهوب من الله وقد تنكشف له كرامات كثيرة، ولم يطل الوقت حتى شاع اعتقاد بأنه سيكون وليا من أولياء الله الصالحين (138).

بعد الرحيل من البرية وما أصاب عدداً من النساء من التطير بسببه "اعتقدت أمه صفية أن الوقت قد حان لرفع أسهمها في أوساط العائلة، حدثت ابنها محمد الصغير عما تردده النساء، ثم أغرق في ترديد التعاويذ والأدعية، ونقلت أمه ما جرى منه إلى النساء فازداد خوفهن، وسارعن إليه يطلبن منه الطمأنينة وراحة النفوس، فاهتدى إلى طريقة سمع عنها من جدته صبحاء، بأن يضع يده على رأس المستغيث أو المستغيثة به ويقرأ  آيات من القرآن، فلم يبخل عليهن، قرأ القرآن من دون مقابل ولوجه الله كما قال.... ارتفعت مكانته في العائلة، إذ أعلنت بعض النسوة أنهن لم يعدن إلى سماع صهيل الفرس ودعواتها الملحة، ومال أبوه إلى تصديق ما أشبع عن ابنه بأنه موهوب من الله فأبدى ارتياحاً له ولأمه، ولم يدم ارتياحه طويلاً، كانت ثقته تتلاشى لدى ارتكابه لأي غلطة.. وتزداد قناعته بأن ابنه أبله أو ممسوس" (150).

من اللحظة الأولى تظهر بلاهة محمد الصغير الذي سيصنع منه السارد شيخاً وخطيب مسجد، فإذا به يحمل حية رقطاء دون تقدير لخطورة ما يفعل وإذ تعُدّ إحدى العجائز ذلك دليل كرامة لولي من أولياء الله، فإن قناعة والده المختار تزداد بأنه خلّف ولداً أبله! ومعنى أنها ازدادت أنها كانت قائمة تدل عليها ممارساته السابقة ولم تكن وليدة اللحظة، واعتبر أنه لم ينجب ذاك الأبله فقرر الزواج من جديد.

والملاحظ أن السارد المتمكن من العربية والذي عمل مدققاً لغوياً، فإذا به ومن فرط ما استفزه حمق محمد الصغير، يصرف ما لا ينصرف فينوّن كلمة أبله، مع أنه ينوّه من البداية بأن عدم إجرائه الحركات الإعرابية للأعلام المنصوبة كان مقصوداً ولم يكن غفلة منه.

ومع كل محاولات النفخ والدعم من أمه وجدّته فقد بقي على حاله، حتى اعتبر المختار أن محمد الصغير قد مات.

ولم يكن يخفى حال محمد الصغير حتى على فتيات العشيرة؛ فعندما قرر والده تزويجه شاع خبر أن أهله يبحثون له عن عروس فَـ"تقبلته بنات وأحجمت عنه أخريات، فأما اللواتي أحجمن فقد رأين أنه لا يليق بأي منهن زوجاً"، وأما اللواتي تقبلنه فلم يفسرن قبولهن ذاك، ما يعني أنهن يردن أي زواج والسلام، وليس اقتناعاً منهن به، ثم تأتي التجربة العملية فإذا به يخفق ليلة زفافه في الامتحان لتعود عروسه إلى بيت أهلها كما خرجت منها بكراً!، ويلوذ محمد الصغير بالتكية.

والكاتب بهذا يريد أن يؤكد أن عدم القدرة على الفعل الجنسي هنا، يشير إلى العجز التام وعدم الفاعلية عن كل نشاط سواه[10]، وهو لا يقصد الشخص فحسب بل ما يمثله من فكر كذلك.

وبذلك يتضح لماذا جعل الكاتب من محمد الصغير صغيراً، بل حكم عليه بالصغار، كما اتضح من قبل لماذا صنع من محمد الكبير كبيراً، وأن الأمر في كلتا الحالتين لم يكن يتعلق بالعمر.

أما محمد الأصغر: فقد أنجبه منان بعد يأسه من أخويه، وكان الكاتب قد أخبرنا بولادته في أواخر فرس العائلة، وأبقاه في حالة كمون حتى يسلمه راية السرد والبطولة في مديح نساء العائلة، لتكون صفة الأصغر في الواقع على غير حقيقتها بالنسبة لما أسنده الكاتب إليه، وإن كان آخر المحمدين الثلاثة قدوماً إلى الدنيا، فهو وإن كان الأخير زمانه لكن الكاتب سيجعله يأتي بما لم يستطعه الأوائلُ!.

وقد وظفه الكاتب في المحكمة الشرعية كي يزوجه سناء ويحمّله راية الانتصار لقضايا المرأة وفقا للأيديولوجيا النسوية، ومن ثم يستقيل من عمله معلنا رفض المحكمة وتشريعاتها، وأن توثيق عقود الزواج عمل تافه، ثم ليجد نفسه وراحته في العمل مع فرقة مسرحية.

ومع أنه كان يصف نفسه بأنه متدين بالفطرة، فإنه كان يناكف والدته ويغمز من زواج الرسول عليه السلام من عائشة بسبب فارق السن، ولا تجد المسكينة أمام هذا المتعالم المتفاصح إلا أن تُرجع الأمر إلى حكمة الله تعالى.

وكان فيه شيء من النزق والخفة والرعونة، بحيث أن محمد الكبير ومريم ، مثلاً، كانا يطلبان منه التريث في بعض القرارات حتى وهما يوافقانه من حيث المبدأ، فإنهما كانا يفضلان أن تتم بإخراج أحسن، كما تبدت مثلاً في قرار استقالته.

فبالرغم من كونهما شيوعيين لهما من الأديان موقف معروف، إلا أنهما لم يكونا يظهران مواقف عدائية، فمريم كانت تزور القيامة والأقصى كلما رجعت من الأردن، وقد عملت هي ومحمد الكبير مدة من الزمن في حديقة القبر المقدس المسيحية دون أن تستفزهما الطقوس الدينية ولا أحكام الأسرة ولا رجال الدين، وقد أسميا ولدهما عمر والذي يشكل رمزاً مهماً للتسامح الديني وحسن التعامل بين أتباع الدينين، على العكس من سلوك محمد الأصغر.

·        أدهم

الدهم: الاسوداد، ودَهَم الشيء فجَأَهُ وغشيهُ، وجواد أدهم: أسود، فكان لأدهم من الجواد اسمه ولونه وطول أذنيه، وكان يدهم الصبيان ويغشاهم، وكانت له قدرته على الصهيل والحمحمة، وهو الذي راق لبعض الأجنبيات حيث كان كثير الغشيان، وأخيراً وبعد مدة من الانحراف رجع إلى أصله فالتحق بالفدائيين، وكذلك الخيل الأصيلة.

 

·        رأس النبع، ومخيم العودة، والوسمية

هذه أمكنة ثلاثة أولها، مقام العائلة في رأس النبع عند مشارف المدينة، حيث يفيد من جهة شدة القرب من القدس إذا أخذنا المعنى المجازي والروحي سيما وهي مهد النبوات، ومن جهة أخرى توحي هذه العبارة بأنفة أهل البادية ورغبتهم في الصدارة وحلمهم في السبق إلى رأس النبع، وإنما قلت حلمهم لأنهم لم يكونوا أقوياء بحيث يفرضون ذلك. وحاديهم في ذلك قول الشاعر:

ونشرب إن وردنا الماء صفوا         ويشرب غيرنا كدراً وطينا

ولا ننسى أن رحيلهم من البرية كان مرتبطاً بقلة الأمطار وشح المياه، كما أن العداء كان مستحكماً بينهم  وبين العشائر الأخرى على المراعي وموارد المياه، وكانت الفاجعة الكبيرة في مقتل الشيخ عبد الله عند بئر الماء، وبالتالي فالموقع الجديد ينبغي أن يتميز بوجود الماء، وبأن هذا الماء ليس محل مشاركة ولا نزاع مع الآخرين. وقد أوردنا سابقا العلاقة بين قرية الهادية ورأس النبع.

وأما مخيم العودة

فلأن الفلسطينيين لم يقيموا في المخيمات بنية الاستقرار، بل كان حلم العودة يراودهم في صحوهم ومنامهم ويستولي على تفكيرهم، وكثيرا ما سموها بالمعسكرات على أساس أنهم يستعدون فيها لينطلقوا منها في معركة التحرير والعودة.

الوسمية .. رسمية

لا يعلم كاتب هذه السطور عن قرية فلسطينية باسم الوسمية، لكن هناك قرية المسمية، والوسم فيه معنى السمة والعلامة الخاصة، وكذلك السمو والرفعة والحسن أيضاً، ومنه: الوسام والوسامة، وربما يكون مقصود شقير أن هذه القرية الفلسطينية التي هُجّر أهلها منها تحمل في ذاتها عدداً من السمات العالية والعلامات الفارقة المؤكدة لفلسطينيتها، وليس أقل هذه السمات أشجار الزيتون الصبار، ولن تفلح محاولات الاحتلال في تهويدها وطمس معالمها وتغييرها، وقد أخبرنا محمد الأصغر أنهم حينما ذهبوا إلى قرية الوسمية برفقة ابني القرية: رسمية زوجة فليحان، ونعمان زوج فلحة، أنهم عثروا "على أشجار صبر باقية هناك، أما بيوت القرية فقد محيت من الوجود".

كذلك فإن هذه القرية وأخواتها قد خطّت في نفوس أبنائها وعقولهم وشخصياتهم من العلامات والسمات والأوسمة ما يميزهم بها ويميزها بهم.

 ومن اللافت أن بين رسمية وقريتها: الوسمية جناساً ناقصًا، فهل هذا الجناس الناقص دالٌّ على المشترك بين القرية وفتاتها، أو ما تركته القرية في فتاتها، فضلاً عما  بين الوسم والرسم من اشتراك في المعنى.

·        فليحان وفلحة

سمى منان أحد أبنائه بفليحان على اسم أحد أعمامه الذي قتل في معارك السلطنة، ولفليحان أخت اسمها فلحة. هل ثمة علاقة للشخصيتين بمعنى الفلاح؟ وما المشترك بينهما الذي استدعى من الكاتب إعطاءهما اسمين من الجذر اللغوي عينه؟

 من الناحية المادية أصبح فليحان من كبار وجهاء البلد وأغنيائها، جراء اشتغاله بالتهريب، حتى إنه ليستضيف القائد غلوب باشا وكبار رجال الدولة في الأردن، لكنه مع ذلك، وربما بسببه، قد أخفق في الانتخابات النيابية، فضلاً عن الرصاصة التي أطلقها عليه ابن عم رسمية وخطيبها السابق لأن فليحان خطفها ثم تزوجها، فأين الفلاح إذن؟ لقد قررت واحدة من ضرائر أمه منذ زمن بعيد بأن فليحان لن يفلح[11].

 أخته فلحة هربت مع بائع الحلاوة نعمان بعدما رفض أبوها الموافقة على زواجهما، وتزوجا "خطيفة"، فهل الإفلاح في الخطف والهرب، والزواج رغماً عن الأهل هو المشترك المقصود؟

وإمعاناً في الربط بين الشخصيتين فإن الكاتب قد جعل نعمان الذي خطف فلحة، ورسمية التي اختطفها فليحان، ينتميان إلى القرية ذاتها وهي الوسمية.

وكذلك تعرض كلاهما، فلحة وفليحان، لمحاولتي قتل، لكن عم فلحة قد تراجع عن التنفيذ في آخر لحظة، ورجع يؤكد لأهل العشيرة أنه قد غسل العار بقتلها، أما فليحان فقد أطلق عليه النار الفدائي ابن عم رسمية وخطيبها السابق فأصابه بالشلل وأفقده رجولته، وأجلسه على كرسي متحرك، فهل هذا هو الذي استدعى الفرق في الاشتقاق فكان فلاحها كاملاً، وكان فلاحه منقوصاً ومصغراً دلّ عليه التصغير، بحيث كان اسمه فليحان لا فلحان، أما اسمها ففلحة لا فليحة؟.

·        نعمان

نعمان هو الذي تزوج فلحة خطفاً، وقد لاحظنا أنه أيضاً من قرية الوسمية المهجرة التي أصبح أهلها لاجئين، واسم نعمان قصد به الكاتب، كما يبدو، أن يشير إلى معنى النعمة ليقول: إنه وإخوانه اللاجئين كانوا أبناء عز ونعمة في بلادهم قبل أن يُهجّروا منها، وكأن هدف الكاتب أن يرد الاعتبار للاجئين الذين أسيء إليهم فوجدوا من يتهمهم في وطنيتهم وينظر إليهم نظرته إلى المتسولين، وكانت كلمة لاجئ بمثابة الشتيمة، ولذلك فقد كان من خطة شقير أن تتم عملية خطف فلحة قبل نكبة 1948، حيث إن نعمان فضلاً عن كونه آنذاك فلاحاً صاحب أراض ومزارع، فقد كان أيضاً تاجراً وبائعاً متجولاً، وقد كرر الكاتب هذا المعنى الإنساني الوطني أكثر من مرة في الرواية.

·        حامد وحميد

وبالمنطق نفسه الذي تمعنا فيه باسمي فليحان وفلحة، يمكن النظر إلى اسمي حامد وحميد انطلاقاً من تقارب الاسمين ابتداءً وانتمائهما إلى الجذر ذاته، ثم من تجاور القبرين، وقد لفتنا السارد إلى أن "صورة التاجر-حميد- مبجلة في أذهان عدد من الرجال والنساء رغم ما أثير حولها من شكوك وتقولات، ويزيدها تبجيلاً اقتراب قبره من قبر سيدنا حامد، وتجاورهما على نحو حميم"، حيث إن التاجر حميد الذي كان يبيع الأدوية ومواد العطارة والزينة للنساء على حمار له، عندما طلبت منه مثيلة دواء للحبل خدعها عن نفسها وحبلت منه، ولعل اختيار اسم حميد بالتصغير ناشئ من كونه محل شك، ولأنه تابع وليس أصيلاً.

وبالإمكان توقع أن التاجر المستفيد من وجود مقامات "الأولياء" هو من اخترع الاسم مقارباً لاسم الولي السابق، ولا ننسى أن قصة الولي حميد تقارب الحكاية الشعبية: "(دافنينُه سوا)، وبالتالي تعدية الكاتب الحكم لكل "الأولياء" فيما يتعلق بوجود المتاجرين المرتزقين من وراء هذه الطقوس، مع وجود احتمال أن يكون الراقد في المقام الأول كذلك ليس ولياً ولا صالحاً. ولا ندري إلى أين سيأخذنا التمادي والتفكر في الجذر اللغوي للاسمين، وحكايتي صاحبيهما!.

وفي الختام

فيبدو أن شقير قد قسم شخصيته الحقيقية بين محمد الكبير ومحمد الأصغر، ذلك أن الشيوعي محمد الكبير سيسجن ويبعد، وبالتالي فلا بد من شاهد سارد لفترة الغياب، وحيث سيصبح محمد الكبير نجما تحيط به هالة من التبجيل والجلال فلا بد أن يسلم دور الصعلكة لغيره، ولا بد من معادل موضوعي يتميز بشيء من الخفة والنزق يقابل رزانة محمد الكبير لكنه ينسجم معه في الرؤية إلى حد ما، وقد جرت عادة الكثير من الروائيين أن يوزع شخصيته الحقيقية على مجموعة من شخصيات روايته ولا يحشرها في واحدة منها فقط.

ومن الإنصاف القول بأن الكاتب قد وظف خبراته وإبداعه وتجربته الطويلة في الأدب والسياسة، وامتلاكه لناصية الكتابة الإبداعية لتدعيم المضامين الفكرية والاجتماعية التي نثرها في الرواية.

فقد أظهر شقير براعة كبيرة في معمار الروايتين تخطيطاً وتنفيذا، وكان هناك تناغم كبير بين البدايات والنهايات في كلتا الروايتين، وكذا في غلافيهما، وعدد الساردين، في كل واحدة، وكان عنوان فرس العائلة ألصق بموضوعها من أختها أو لنقل إنه كان أظهر، ولم ينسجم الإهداء في مديح نساء العائلة مع المضمون الفكري الاجتماعي الذي نظّر له الكاتب، بينما أظهر تألقاً في اختيار عدد من الأسماء الأشخاص والأماكن التي تأملنا فيها، وكذا في بناء ونحت مجموعة من الشخصيات.

لكنه قد عكر هذا التألق وتلك البراعة بالتماهي مع ماركيز في مائة عام من العزلة، بحيث أننا لا نكاد أن نجد لهذه الجماعة البدوية أية مأثرة، وفي السياق فقد بدا كما لو أن شقير يلغي إرادة أبناء العائلة وإنسانيتهم أحياناً من خلال بعض إكراهات البرية ومقتضيات تغير الزمان، حتى كأن الكاتب يريد أن يذكرنا مجدداً بحتميات المادية التاريخية، فضلاً عما لاحظناه من إرغامات الأيديولوجيا التي تحكمت أحيانا في مسار الرواية وشخصياتها، الأمر الذي انعكس بالسلب مراراً على ما كتب دافعاً إياه إلى المباشرة في الطرح والتقريرية في العرض، وشيء من التسرع في مفاصل هامة كانت تستدعي إنضاجاً أكبر.

ومع أن لغة الروايتين بسيطة مباشرة إلا أنها كانت في أحيان كثيرة تتضمن عبارات مكثفة، وقد اشتملتا على العديد من الرموز والعبارات المشفرة، وكذلك عدداً من المفاتيح لتلك الرموز والشيفرات.

الهوامش:

[*]

[1]هذا بحسب بحثنا السريع، كما ورد أيضاً كلام عن مدح النسوة لوضحا والدة محمد الأصغر، وقد شاركت في السرد وورثت دور راوية تاريخ العائلة عن صبحاء.

[2]وقد استمر في الجزء الثاني أيضاً، لكن قضايا "المرأة" كان لها عناية أكبر.

[3]مع أن هناك من رأى بأن هذا ليس زياً فلسطينياً.

[4] مع احتمال أن لا تكون الصورة خاصة بالرواية، وأنها انتزعت من سياق آخر.

إذا لم تخني الذاكرة بالنسبة لاسم أخته، بناء على قراءة لي قديمة.[5]

[6]الدكتور يعقوب زيادين (1922-2015): الأمين عام الأسبق للحزب الشيوعي الأردني، شكل مع الخلايا الماركسية الأردنية، وعصبة التحرر الوطني الفلسطيني الحزب الشيوعي الأردني، بقيادة فؤاد نصار الذي التقاه في القدس، واعتُقل بعد الانقلاب على حكومة النابلسي عام 1957، وبقي في السجن 8 سنوات. وفي عام 1970 اختير عضواً في المكتب السياسي للحزب، وفي عام 1987 انتخب زيادين أميناً عاماً للحزب وحتى العام 1996، حيث قاد انشقاقاً عن الحزب الشيوعي إثر خلافات سياسية عرفت بقضية تمويل جمعية النساء العربيات، التي تلقت من وكالة التنمية الأمريكية مبلغ 60 ألف دينار لتنفيذ برنامج تحديد النسل. ليصبح رئيساً ومؤسساً لحزب الشغيلة الشيوعي الأردني وهو آخر منصب سياسي شغله قبل أن يتفرغ للكتابة بسبب ظروفه الصحية.

[7]رئيس الوزراء سليمان النابلسي (1908-1976م)، شكل الوزارة بعد حصول الحزب الوطني الاشتراكي الذي يرأسه على أربعة عشر مقعدًا في البرلمان بانتخابات المجلس النيابي الخامس عام 1956، كان من المناهضين لحلف بغداد وتعتبر حكومته أول حكومة برلمانية في الأردن.

[8]تقي الدين النبهاني من مواليد عام 1914 في قرية إجزم في فلسطين، أسس حزب التحرير مطلع 1953، نال الشهادة العالمية في الشريعة من جامعة الأزهر عام 1932 وعمل قاضياً في محكمة الاستئناف في القدس، توفيّ الشيخ عام 1977.

[9]هكذا وردت في الأصل، ولعلها من اجتهاد الذي قام بصف الحروف.

[10]وكذلك فقد اشيع أن أحد الخطباء الذين جاؤوا إلى مضارب العشيرة عنين.

[11]هي وضحا أم محمد الأصغر، والطريف أنها هي أيضاً التي ذكرت بأن سناء جديرة بالثناء، فهل أراد الكاتب أن يجعل من كلامها حقائق وقوانين، ويلفتنا إلى كيفية فك وتوضيح شيفرات الرواية ورموزهاـ حيث اسمها وضحا؟

وسوم: العدد 843