نظرة في رواية (الحائط ) لشهيرة أبو الكرم

محمد موسى العويسات

clip_image002_852e7.jpg

clip_image004_84b53.jpg

صدرت الرّواية عن دار إلياحور في القدس ـ أبو ديس، طبعة أولى عام 2018، وتقع في مائة وثلاث وخمسين صفحة من القطع المتوسّط، وصمّم الغلاف صالح أكرم. الغلاف صمّم بعناية وكان لافتا، رجل لا يظهر وجهه وإلى جانبه امرأة لا يظهر وجهها أيضا، توحي الصّورة بأنّهما في ظلمة، وأنّ الإضاءة الخافتة لم تبدّد الظلام الذي لفّ رأسيهما، وغيّب ملامح وجهيهما، ويبدو الرجل ذا إعاقة في يده الشّمال أمّ اليمين فقد وضعها في جيبة، أمّا المرأة فقد أُخفيت كلتا يديها، وأمامهما كرسيّ وفي ظلّه يشكّل عربة مقعد، يبدو أنّهما في غرفة، بدت منها الزّاوية، وخلف كلّ واحد منهما حائط من الحائطين المشكّلين الزاوية، وكلّ شيء في هذه الصّورة له دلالة، والكرسيّ نستطلع دلالته بعد قراءة الرّواية، فقد يدلّ على المكانة التي يسعى لها أحدهما أو كليهما، أو دلالة على بلوغ المعاق مرتبة ما، يوحي بذلك الظلّ الذي شكّل عربة معاق، وقد يكون باجتماع المرأة في هذه الصورة وشغوره من جالس، دالا على أنّ هذا المعاق لم تتمكّن امرأة من الوصول إلى قلبه. في الوجه الخلفي وفي ضوء خافت في زاوية حادة تجد رجلا  يضمّه حائطان يجلس القرفصاء، يثني يده اليمنى نحو ذراعه الأيسر، ويضع يده اليسرى على رأسه، ينظر من فوق ذراعه، توحي الصّورة بأنّه كئيب حزين مهموم منعزل أو مرتعبا، كلّ هذه الإيحات تتناسب وموضوع القصّة، أمّا عنوانها اللافت (الحائط) فقد وفّقت الكاتبة في اختياره، في الرّواية حمل الحائط دلالات كثيرة، أهمّها أنّه المكان الفسيح الذي كان يسبح فيه بطل القصّة الذي كانت تضيق به نفسه ويضيق هو في أغلب الأحيان بالناس. الحائط كان نجيّه ودفتر ذكرياته يكتب عليه أو يوقّع عليه ما يدور في خاطره أو يرسم ما يتخيله. ففي الخلوة أو العزلة وفي غرفة نومه، وعندما يعود مهموما أو مجروحا ويداهمه الأرق، ويغيب الكرى عن عينية لا يجد هذا الرّجل إلا الحائط، يتّخذه صدرا حنونا يبثّ له أحزانه، فهل الهروب من الهموم والأحزان تدفع الإنسان إلى مناجاة ما حوله من الكائنات الحيّة أو الكائنات الجامدة؟ أظنّ الجواب (نعم)، فهذه حالة نفسيّة واقعة وليست متخيّلة، عبّر عنها الأدب بنثره ونظمه، وشواهدها في الشّعر العربيّ لا تعدّ ولا تحصى. ولكنّنا في الرّواية لم نجد الكاتبة أعطت دورا ما متخيّلا  للحائط، أي أبقت على الحائط جامدا بلا حراك، وبلا ردّة فعل، فالحائط نفسه لم يتفاعل مع صاحبه بطل القصّة، ولا نجد هناك توصيفا مادّيّا موحيا.

الرّواية تناولت قضيّة مهمّة في مجتمعنا، هي قضيّة الإنسان صاحب الحاجة الخاصّة أو يسمّونه المعاق، موقعه الاجتماعيّ، نظرته للناس، ونظرة الناس له، دوره في المجتمع، وقد استطاعت الكاتب أن تنقل بعض هذا بدقّة، واستطاعت أن تغوص في ثنايا نفسه، فاتّخذت منه بطلا للقصّة، وهذا جانب من الأهمّيّة بمكان، أن يكون صاحب الحاجة الخاصّة بطلا في قصّة أو رواية أو أيّ عمل أدبّي آخر، وهذا التفات وتطوّرلافت ونجاح في معالجة قضايا مجتمعيّة مهمّة. فهذه الرّواية تدخل تحت عنوان عريض هو (صاحب الحاجة الخاصّة في أدبنا العربيّ). وإن كانت كثرت الشّخصيات في الرّواية، والشّخصيات الفاعلة النّامية، إلا أنّها كانت تدور في محور واحد هو زياد، هل يتقبّل المجتمع الفلسطينيّ صاحب الحاجة الخاصّة (المعاق)؟ في الأسرة قد تجد من يتقبّله وأكثر الناس تقبلا له أمّه، التي تحرص عليه وتصرّ على علاجه، وقد نجد الأب في مثل حالة زياد لا يتقبّله أو لا يوليه الاهتمام اللازم، من معاملة وتعليم، يقول: " تحسرت كثيرا على نفسي وأشفقت عليها، أنا غير قادر على اللعب والرّكض أو حتى الزّحف، وفوق كلّ هذا يمنع أبي ذهابي للمدرسة، إلا أنّ الرائعة فاطمة كانت تلقّنني كلّ ما تستطيع وتفعل كلّ شيء لأجلي، وتتحمّل صراخ أبي عليها، كان يراني عارا"، أو الأخ الذي قد يتخلّى عنه، يقول: أمّا حارث فرفع حاجبيه وقال: ألهذا تصرخ؟! نظرت إليه أمّي وقالت: حارث تعال إلى هنا، قريبا ستمشي مع أخيك جنبا إلى جنب، هيّا تعال. فقال ببرود قاتل: وما شأني أنا، وانصرف بعدها إلى غرفة التلفاز... لاحظت ذلك أمّي فقالت:لا تأخذ على خاطرك من أخيك". وفي موضع آخر: " يهين إعاقتي، يهين نفسي/ لا أفهم هذه العدائيّة وما سببها، ولكنني متأكّد أنّ حارثا مريض نفسيّا"، أمّا في الوسط التعلّمي فتجد من تقبله من الجنسين وكوّن معه الصّداقات والودّ والحبّ: " انتقلت إلى مدرسة جديدة كانت مختلطة، أنشأت صداقات كثيرة مع أشخاص طيّبين أمثال عليّ وسندس الجميلة..."، وفي الوسط العمليّ كذلك، والمعاق جسديّ لا يعني ولا بحال من الأحوال أنّه ناقص عقل أو عاجز عن التّحصيل والتفوّق والإبداع، فقد أبدع زياد في دراسته فنال درجة التفوّق في الثّانويّة والتحق بالجامعة، وتخرّج فيها محاميا، ويبدو أنّه في تفوّقه هذا كان يحاول إثبات نفسه وحضوره وسدّ النّقص الذي يشعر به نتيجة موقف أبيه، لذا لمّا أعلنت النتائج كان أول ردّة فعل له التّوجّه إلى قبر أبيه ليقول له: "هأنا أمامك يا أبي يا أعزّ الأباء.... ولكن وددت لو أنّك حيّ، ولو أنّك سمحت لي بالدّراسة، انظر إليّ ماذا فعلت، سأعود إليك بعد تفوّقي الجامعيّ". وتفوّق أيضا في عمله فكان محاميا ناجحا استطاع أن ينقذ شركة شفاء من تهمة الاتجار بالمخدّرات، وكانت قد اتُخذت غطاء لهذا العمل القبيح، فقد حقّق شهرة كان يطمح فيها، وكان شعوره بالثّقة النّفسيّة عظيما. ولكن كانت علاقته بالنّساء غير سويّة، هو يحبّ وله مشاعر وعواطف ولكنّه يكبتها ويبخل بها، وهذه قد تكون من عقدة النّقص التي أصلها أومنشؤها إعاقته، " كيف ستحبّ من هو مثلي؟ كيف سأحتضنها بيد واحدة؟ كيف سأقدم لها الورود"، وربّما هي حالة نفسيّة وشعور بعدم الثّقة فيمن حوله، يقول بعدما بدأ تعلّقه بريم: " حسنا يجب أن أستيقظ لنفسي وأن لا أتعلّق بومضات كاذبة حتى لا تخذلني في منتصف الطريق وأبقى وحدي في الظّلام"، وهذه يستوي فيها المعاق وغير المعاق، وقد جعلت الكاتبة النّساء يطلبنه وهو لا يطلبهنّ إلا في سرّه. فقد أحبّ ريم ولكنّه فشل في حبّه، ويبدو أن حدّته وسرعة انفعالة هي ما ضيّعت تلك الفرصة، يقول: " وتتالت الأيّام وأصبحنا صديقين مقرّبين جدا، وكنت أحافظ على إطار الصّداقة بعيدا عن رجفات قلبي المتكرّرة عند رؤيتها..". ويقول لها في أثناء حفلة تخرّجه وكان مغضبا من أخيه: أنت، أنت من تزعجينني وتسبّبين لي جميع الآلام ... لو أخبرتك هل ستساعدينني؟ّ مؤكد لا، لذا اذهبي لمن هم مثلك وتمايلي مع الموسيقى"، وهو يغار عليها ويطرد عليّا من بيته لأجل التباس أمر الرّسائل بينهما عليه، وهو يندم فيما بعد؛ لأنّه أضاع فرصة الحبّ أو الزّواج من شفاء، المهم أنّه لا يعرف التلطّف الذي يقتضيه التّعامل مع النّساء، وربّما يكون لأمّه التي اختضنته ورعته وكانت السرّ في تعليمه وتعلّقه بها الدّور الكبير في إخفاقه أو إعراضه عن الزّواج، يقول: " أنا ممزّق ووحيد ما دامت أمّي ليست هنا". فربّما يكون اكتفى من حيث المشاعر بمشاعر أمّه. وربّما يكون اكتفى من هذه الدّنيا بنجاحاته التي أثبت فيها للمجتمع أنّه فاعل فاستغنى بها عن النّساء.

أمّا بالنّسبة للنّساء فربّما يكون نجاحه وشخصّيته هي سبب انجذابهنّ له، فريم ربّما كانت مجرد صديقة جامعيّة تتقرب منه لتفيد من نجاحاته في تخصصه، "وكانت تقول: اكتسبت ذلك منك"، ويقول زياد في نفسه: "فهي لم تحبّني يوما، ولكنّني أصبحت أرتطم بأصغر شيء، أسقط كثيرا، أرى الأبواب فتفتح لي أحضانها وأرتطم بها بعنف..." فشفاء ينكسر كبرياؤها أمامه لنجاحه وقوة شخصيته وتطمع أن يكون زوجها بعد أن انهارت علاقتها بأخيها، وريم تعود له بعد أن فشل زواجها وطلّقت، ولكنّه يضرب بمشاعرهما أو محاولاتهما عُرض الحائط.

وهكذا أرى أنّه إنْ سُجّل نجاح لهذه الرواية فهو نجاحها في رسم شخصية ونفسيّة الشّخص ذي الحاجة الخاصّة (المعاق جسديّا)، ونجاحها في الدّعوة التربويّة لتغييرالنّظرة السّلبيّة له لدى بعض النّاس، وإن كانوا قلّة في مجتمعنا.

أمّا القضيّة الثّانية التي وددت الإشارة إليها فهي اللّغة، التي جاءت مهلهلة بكثرة أخطائها الإملائيّة والنحويّة والصرفيّة والتركيبيّة. وأراها قد غضّت كثيرا من قيمة الرّواية، على اعتبار العمل الرّوائي إبداعا لغويّا أولا. ولا يُتعذّر لذلك بأنّها التّجربة الأولى أو باكورة العمل الروائيّ لدى الكاتبة، فهذا عذر مقبول لو كان  تقصيرا في عناصر فنّيّة أخرى غير اللّغة.

وسوم: العدد 850