من بين الصخور وشخصية كاتبه جميل السلحوت

clip_image002_6ad95.jpg

عن مكتبة كل شيء في حيفا صدر قبل أيام كتاب"من بين الصخور- مرحلة عشتها"للكاتب جميل السلحوت، ويقع في 260 صفحة من الحجم المتوسط.

بين صخور بريّة القدس، نشأ الكاتب جميل السلحوت في أرض وعرة، وفي زمان وعر، ومجتمع أشدّ وعورة. حكى عن نشأته، ومثالب مجتمعه، والصعوبات التي رافقت طفولته في الجزء الأول من سيرته (أشواك البراري)، ثمّ عاد هنا ليخرج بعمل جديد يلقي الضوء على تجربة غنيّة وحياة حافلة، يحكي من خلالها حكاية الأرض والإنسان، ويسرد سيرة جمعية لمجتمع وقع تحت نير الاحتلال،  لكنّه لم يستسلم، واستمرّ في عطائه عبر السّنين. فكان هذا الكتاب شمعة أخرى تضيء جوانب مختلفة من الحياة في مدينة القدس وفي فلسطين، من خلال تجربة الكاتب الشخصيّة. وإن كان الكاتب هو محور الكتاب، إلّا أنه لم يتحدث عن نفسه بقدر ما تحدّث عمّن صاحبوه في مسيرته فأثّروا به وتأثّر بهم.

لم يتّخذ الكاتب أسلوب السّرد الزمنيّ المتتابع لسيرته، وإنّما قسّمها إلى موضوعات متعدّدة، تداخلت فيها الأحداث عبر السنوات، ثمّ عاد إلى أحداث سابقة. فالكاتب آثر أن يرسم لوحات متنوّعة، يسلّط الضوء فيها على بقعة واحدة، تتمازج فيها الألوان والظلال، يكون هو في أقصاها، شاهدا عليها، لكنّ شخصيته لا تبرز إلا لمن أمعن النظر والتّأمّل. وهذا يعكس شخصيّة الكاتب الحقيقيّة، فهو الإنسان البسيط المتواضع الذي لا يعتني بتنميق الكلام أو تنسيق الهندام، لكنّه عندما يتكلم، يجذب إليه مستمعيه، ويثري معرفتهم بخبراته وتجارب حياته الشيّقة الممتعة. فمن يقرأ سيرة الشيخ جميل السلحوت، يشعر أنّه يعايش الرّجل ويحيا معه، ولا يجد فرقا بين ما خطّ على الصفحات وما يرى في واقعه، فيعكس هذا صدقا، هو عنصر هامّ في كتابة السيرة الذاتيّة، بيعدا عن التنميق والمبالغة وإبراز الذات.

لم يصنّف الكاتب أو النّاشر الكتاب كسيرة ذاتيّة، وإنما يستشفّ القارئ لونه الأدبيّ من العنوان (من بين الصخور "مرحلة عشتها"). وقد قسّم الكاتب الكتاب إلى عناوين فرعيّة كثيرة: تحدّث عن حرب عام 1967، والتّغيّر الكبير الذي حدث في الأراضي المحتلّة، وتأثير الحرب على القدس وأهلها والكاتب أحدهم. وأخذ الكاتب القارئ في رحلة مؤلمة داخل السجون والمعتقلات "الصهيونيّة" من خلال تجربته الشخصيّة في الاعتقال، ونقل صورة صادقة عنها دون مبالغة، ودون أن يظهر نفسه بمظهر المناضل الثائر، أو الضّحيّة، فكانت صورة صادقة مؤثّرة معبّرة. ثمّ تحدّث عن رحلته الشّاقة للحصول على الشّهادة الجامعيّة، وتحدّث عن رحلاته في بلدان مختلفة، فأبدع في وصفها ووصف الحياة الاجتماعيّة فيها. 

لكنّ البارز في هذا الكتاب هو تناوله لموضوع الأدب من جانبين: أولهما نتاجه الأدبيّ الغزير، فقد أشار الكاتب إلى كتبه ومقالاته التي نشرها والتي تندرج تحت صنوف أدبيّة عديدة، وأعطى لمحة عن بعضها، قد تشدّ من لم يقرأها إلى المسارعة لاقتنائها، ومن المعلوم أنّ الأديب جميل السلحوت غزير الإنتاج، ومتنوّع المواهب. وثانيها، أنّه عرّف بعدد غير قليل من الأدباء والشّعراء الذين التقاهم خلال حياته المديدة، وأشار إلى أعمالهم ونتاجهم الأدبيّ. وهذا ممّا يحسب للكاتب والكتاب، فالشيخ جميل السلحوت ردّ لكلّ ذي فضل فضله، ولم يغمط أحدا، وأظهر نفسه وكأنّه تلميذ يقف بين يدي هؤلاء الكبّار، مع أنّه بحقّ أحدهم. فاستطاع الكاتب أن يحوّل كتاب سيرته إلى سيرة للأدب والثقافة في القدس وفلسطين وبعض أجزاء العالم العربيّ.

يستخدم الكاتب في هذا الكتاب، كما في بقيّة كتبه، لغة بسيطة معبّرة بلا تعقيد أو صنعة، يفهمها كلّ من وضع يده على الكتاب، وينساق معها في رحلة مشوّقة إلى نهاية الكتاب دون كلل أو ملل. ولا يخلو الكتاب من الاستطراد المنبثق من العفويّة التي يتسم بها السّرد، وكذلك من الإثارة والتّشويق.

هذا الكتاب، ورغم البساطة وهالة التواضع التي يغلّف بها الكاتب نفسه، يبرز قامة أدبيّة شامخة، ورمزا للنضال الفلسطينيّ في القدس، وصفحة مشرقة في تاريخ الشّعب الفلسطينيّ، ودليلا دامغا على تمسكه بأرضه، ونضاله من أجل حرّيته وكرامته، رغم كلّ النقائص التي في هذا المجتمع والتي لا يخفيها الكاتب، بل يظهرها ويبرزها؛ من أجل أن يرى المجتمع بعض أسباب هزيمته ويطهّر نفسه منها، وينطلق من جديد نحو الحريّة والخلاص من الاحتلال، ثمّ الرقيّ والتّقدم الذي تستحقّه أمّة ضاربة جذورها في أعماق التاريخ، شجرة وارفة الظلال، ستؤتي أكلها حين تنفض عنها مع اعتراها من غبار التخلف والجهل والظلم.

وسوم: العدد 852