إِلْغَازٌ

من آثار ظاهرة النص القصيرِ الإِلْغازُ، أي أن يجدَه متلقّوه قد استغلق عليهم استغلاق الأحاجيِّ التي يُعايِي بها بعضُهم بعضا، يتخادعون ببعض ما يعرفون، ثم يتفاجعون ببعض ما لا يعرفون، فيطمئنون لمعرفة ما اجتمع لهم، ثم يقلقون لإنكار ما افترق عنهم، "كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا"، فلا يستطيعون أن يُثبتوا على صاحبه قصدا يؤاخذونه به، ولا أن يَنفوه عنه فيرتاحوا منه!

هذا نص قصير يعبر عن سيرة أداة الاحتيال، بثلاث وعشرين كلمة، في سبع جمل، على ثلاثة أبيات:

أَنَا ابْنُ جَلَا وَأَيُّ جَلَا جَلَا عَنِّي جَلَا الْأَجَلَا

أَظَلُّ هُنَاكَ تَحْتَ الْأَرْضِ أَرْقُبُ مَنْفَذِي وَجَلَا

فَيَبْعَثُنِي فَأَنْفُذُ ثُمَّ أَعْجَبُ مَا الَّذِي حَصَلَا

أما أبيات هذا النص القصير الثلاثة، فوافريّة الأوزان المجزوءة الصحيحة الأعاريض والأضرب، لاميّة القوافي المفتوحة المجردة الموصولة بالألف:

1 أَنَا ابْنُ جَلَا--ددن دددن، مفاعلتن، سالمة،

2 وَأَيُّ جَلَا--ددن دددن، مفاعلتن، سالمة،

3 جَلَا عَنِّي--ددن دن دن، مفاعلْتن، معصوبة،

4 جَلَا الْأَجَلَا--ددن دددن، مفاعلتن، سالمة، والقافية: دن دددن، ـلَا الْأَجَلَا.

5 أَظَلُّ هُنَا--ددن دددن، مفاعلتن، سالمة،

6 كَ تَحْتَ الْـ--ددن دن دن، مفاعلْتن، معصوبة،

7 ـأَرْضِ أَرْقُبُ مَنْ--ددن دددن، مفاعلتن، سالمة،

8 فَذِي وَجَلَا--ددن دددن، مفاعلتن، سالمة، والقافية: دن دددن، ـذِي وَجَلَا.

9 فَيَبْعَثُنِي--ددن دددن، مفاعلتن، سالمة،

10 فَأَنْفُذُ ثُمـ--ددن دددن، مفاعلتن، سالمة،

11 ـمَ أَعْجَبُ مَا الْـ--ددن دددن، مفاعلتن، سالمة،

12 ـلَذِي حَصَلَا--ددن دددن، مفاعلتن، سالمة، والقافية: دن دددن، ـذِي حَصَلَا.

إن وزن الوافر من أكثر أوزان الشعر العربي استعمالا، وإن مجزوءه المتجرد من تباطؤ أطراف تامِّهِ، أشبه بحركات سِحريَّة متصاعدة السرعة إلى غايتها، تتحرَّكُها يدان ممسكتان بأوعية متداخلة أو متقارعة، تُخيِّل لمن يراها أنها فارغة وهي ممتلئة، أو أنها ممتلئة وهي فارغة! ولقد ساعد النص على ذلك زيادة حركة البيت الثالث الوزنية بسلامة تفعيلاته كلها من الزحاف (ددن دددن)، على حركة البيتين الأولين بعَصْب إحدى تفعيلاتهما (ددن دن دن)، والقافية الكثيرة الحركات المجهورة الروي المفتوحته فتحا مشبعا.

وأما جمل هذا النص القصير السبع -ومتوسط كلمات الواحدة منها "3.28"- فقد تَنَمَّطَتْ كلٌّ منها بمنزلة أركانها من التعريف والتنكير، على النحو الآتي:

1 أَنَا ابْنُ جَلَا-- ضمير متكلم ومضاف إلى علم،

2 وَأَيُّ جَلَا-- (و) مضاف إلى علم ومحذوف،

3 جَلَا عَنِّي جَلَا الْأَجَلَا-- علم وجملة فعلية ماضوية،

4 أَظَلُّ هُنَاكَ تَحْتَ الْأَرْضِ أَرْقُبُ مَنْفَذِي وَجَلَا-- (أظل) ضمير متكلم وجملة فعلية مضارعية،

5 فَيَبْعَثُنِي-- (ف) مضارع وضمير غائب،

6 فَأَنْفُذُ-- (ف) مضارع وضمير متكلم،

7 ثُمَّ أَعْجَبُ مَا الَّذِي حَصَلَا-- (ثم) مضارع وضمير متكلم.

أنماطٌ ظهر عليها المسند إليه ضمير المتكلم الذي نسب نفسه إلى عَلَمٍ مظنون لم يدعه حتى أفسد عليه عَلَميَّته، والمسند الفعل المضارع الذي تكرر أخيرا فعَفَّى أثر المسندين السابقين (الاسم، والفعل الماضي)! لقد أعاشنا النص في مثل مشهد الشيخ والغلام من مقامات الهمذاني أو الحريري أو اليازجي، يخدعان المحتشدين عليهما من الناس، فيشكو الشيخ إليهم غلامَه أو يشكوه غلامُه، ولا يتركهم أحدهما حتى يرأفوا به وينصروه على صاحبه ويُعوِّضوه ما سلبه إياه، ثم لا نلبث أن نجدهما قد التقيا من آخر المقامة بعيدا عن أعين الناس، يتشاركان فيما غنماه!

وسوم: العدد 874