بلاغة الاستهلال في المجموعة القصصية " المرايا المتكسرة"[1] للأديب محمد نور بنحساين

clip_image002_294c4.jpg

 

 تأتي مجموعة القصص القصيرة جدا" المرايا المتكسرة"، للأديب محمد نور بنحساين، في رتبة باكورة أعماله، وهو الشاب المعروف بنشاطه داخل شبكة القراءة بالمغرب، ويبدو أن هذا الاختيار في الكتابة، جاء متواشجا مع نسق حديث من التأليف القصصي، ولد مع تشعب الكتابة السردية في عصرنا اليوم، وما أفرز هذا التشعب وهذا التوالد من إمكانات متعددة للكتابة الأدبية في الحقل السردي.

 والقصة القصيرة جدا، أو السرد الوامض، كما سماه الناقد والباحث العراقي صالح هويدي، هو تفريخ لعائلة السرديات من رواية وقصة وقصة قصيرة، وقصة قصيرة جدا. ومازالت النظرية النقدية - حول هذا الجنس السردي - تتوسع بتوسع تفريخاته منذ ظهوره كجنس أدبي/سردي حداثي؛ بمعنى أن الحداثة في العمل الأدبي، تتمظهر بصورة أوضح في الشكل الأدبي، نتيجة التحولات الفكرية والثقافية داخل المجتمع، مع تغير الأزمنة وتطورها. إلا أن القصة لقصيرة جدا، لايمكن الجزم أنها جنس متحول أو متطور من الأجناس السردية الأخرى، أي نعم أنه يحمل جيناتها، ذلك لأنه من نسلها، إلا أن الرواية مازلت موجودة وبكل قوتها، وكذلك الأمر بالنسبة للقصة والقصة القصيرة. إذ أن هذا اللّون لم يأتِ لكي يمحو لوناً آخر أو يأخذ دوره"[2]

شيدت القصة القصيرة جدا موقعها الأدبي بين ثوابت الهوية السردية الموروثة، وعناصرها البنائية الخاصة كجنس سردي، ينمو ويتمدد، ويبني وجوده على أسس فنية خاصة به، فلا غرو إذن إذا تعددت أصنافها، ودائما على مستوى الشكل بالأخص، وهو ما يمنحها شرعية انتسابها إلى مشتل الأدب الحداثي، فنجد منها القصة الشذرية، والقصة الشاعرية، والقصة المسرحية ذات البناء الحواري، بالإضافة إلى تعالقها مع الأجناس الشعرية كالشعر المقطعي، والشذرة.

 ولعل من الإضافات التقنية التي جاءت بها القصة القصيرة جدا، هو ذلك التفجير الذي تفعله باللغة، من أجل تقديم الحدث في فضاء سردي متكامل الأطراف بأقل كمية من الجمل، وبطاقة تعبيرية تدهش القارئ.

 يعمد محمد نور بنحساين مؤلف المجموعة القصصية القصيرة جدا؛ " المرايا المتكسرة"، إلى توظيف تقنية الادهاش من خلال نص التقديم، الذي يمثل مطلع نصوص مؤلَّفه، باسطا بذلك إلى جسرا تواصليا مع المتلقي. ويأتي هذا النص الموازي، بعد عتبة العنوان ذي الإيحاء التناصي، إذ يستفز ذهن القارئ كي يستحضر عنوان أحد الأعمال الشهيرة للأديب اللبناني جبران خليل جبران " الأجنحة المتكسرة". وهو تناص له دوره الايحائي على مستوى مضامين الأقاصيص، حيث يلتقي معه في المحور الذي يمثل القيمة المهيمنة في العملين وهو النقد الاجتماعي. غير أن قراءتي هذه ستنحصر في نص الاستهلال للمجموعة.

 " العمل الوحيد الذي يعد طويلا؛ هو ذلك الذي لا يجرؤ المرء على البدء به"[3]، وتفسير هذه المقولة، يكمن في الوظيفة التواصلية للنصوص الاستهلالية، وشروطها الفنية والدلالية. حيث من المعلوم أن الاستهلال مصطلح له تاريخه الأصيل عند البلاغيين العرب كالجاحظ والجرجاني وغيرهم، الذين تكلموا عن حسن الاستهلال، وبلاغة الاستهلال، وكذلك صاحب كتاب " بغية الأيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة"، الذي عرَّف شرط حسن الاستهلال " أن يكون مطلع الكلام دالا على غرض المتكلم من غير تصريح بل بإشارة لطيفة"[4]

 ومع تطور الدرس النقدي، وإبدالاته الاصطلاحية، صار المصطلح يحمل اسم " البداية"، كما نستشفه من نص الشاعر بودلير، وكما اشتغل عليه أدوار سعيد، حين ألف كتاب البدايات، معرفا إياها بكونها " الخطوة الأولى في الإنتاج القصدي للمعنى"[5]، ليضيف مفسرا معنى القصد في هذا السياق أنه " شهية البدء بإنتاج المعنى على نحو فكري"[6]

 انطلاقا من هذا السياق المفاهيمي لوحدة الاستهلال أو ما يسمى كذلك بالبداية أو المطلع، نستطيع أن نقول إن الكاتب أولى نص البداية عناية خاصة، حيث شيده بلغة فنية، وبنية تخييلة؛ تخدم قصديته التواصلية، بالإضافة إلى اعتماده على التكثيف والصدمة، وتدمير انتظارات القارئ، وهو ما يمنح النص الهوية التي تؤسس لهوية النصوص السردية للمجموعة، أي أن نص البداية أو نص الاستهلال، يحمل في الأساس جينات باقي نصوص العمل.

 يستهل الكاتب نص المطلع بجملة: " عزيزي القارئ، لقد مت للتو "، جملة لا يوحي سياقها أنها إخبارية، بقدر ما تفتح أمام القارئ مسلكين فنيين أدبين:

- فتح باب التواصل مع القارئ من خلال حوار افتراضي { عزيزي القارئ}، وهو

 مسلك إبداعي يثبت حضور ذات الكاتب،

- تقديم إيماءة بنيوية، تطلق فكر القارئ في النصوص بالتركيز على مضامينها، أي القراءة داخل النصوص، باختراع الحدث التخييلي الذي هو الموت، كفعل صادم يرج فكر القارئ، ويوقظ وعيه.

 تمتلك البداية في النص الاستهلالي وجودا فعليا ملموسا[7]، وذلك من حيث إمكانياتها كآلية فنية تساعد القارئ على استشراف ما تحتمله الأقصوصات من مضامين، مستعينا بمعرفته وخبرته ورؤاه[8]. ثم القوة الشعرية للغته، المحملة بطاقة إشارية، تحفز فكر المتلقي. و هذا ما يدعوه النقاد الذين يهتمون بالقصة القصيرة جدا ب " الإيحاء "، ووظيفته المبنية على الإيجاز والتكثيف.وهي الوظيفة التي تمكن القارئ من فرصة المساهمة في إنتاج الدلالة كذلك.

 يختم المؤلف نص مطلعه هذا بهذه الجملة " ولك أن تتركها دون أن تؤذيك حوافها الحادة المتناثرة". وهي أيضا جملة بمثابة وصية في ظاهرها تحرر المتلقي من أي إلزام بالاستمرار في قراءة حكايات نصوصه، وفي عمقها تحفز لديه فضول المعرفة.

 تكسر بلاغة نص المطلع، الجدار الرابع بين المؤلف والقارئ. ففي حين يتوجه إليه بالكلام مباشرة، يكتنف الرسالة كما من الغموض، يكفي لحثه على كشف شيفرات ألمجموعة. فمن أبسط ما يمكن أن تثيره في ذهنية القارئ جملة" ولك أن تؤذيك حوافها الحادة المتاثرة سؤال: " ترى ما نوع الإذاية التي يمكن أن تحملها أقصوصة"؟؟!!

 تظل موضوعة الموت المموه للكاتب، بنص الاستهلال، خادمة لتجليات لذات كلية الحضور توجه المتلقي/القارئ، تمنحه هوية العالَم؛ موضوع أقصوصاته، وتحذره من شظاياها؛ حيث الأحداث والشخصيات مأزومة ومتشظية، وهي موزعة على اثني عشرة نصا، تحمل حكايا ملغمة بالالتباس، تجري وقائعها داخل فضاءات سردية مضغمة الدلالة، مستقطرة من أرواح قلقة وحائرة.

وجميعها طبعا تكسر أفق انتظارات هذا المتلقي الذي أوهمه الكاتب في النصوص الاستهلالية، منذ نص البداية، إلى عتبات عناوين الوحدات كما سنرى، أنه سلمه مفاتيح شيفرتها. لهذا أتت هذه العتبة تتويجا للمجموعة وحاملة لهويتها الإبداعية، بملامحها التجنيسية كقصص قصيرة جدا، وقضاياها الإنسانية التي يصادفها المتلقي في حياته اليومية، وقد يحيا بعضا منها، ويسمع عن بعضها الآخر. قضايا فيها من المتناقضات، حيث النبل حتى المثالية الدونكيخوطية، . والضعف البشري حتى الوقوع في الخطيئة. تناقضات حادة، هي حواف لانكسارات ذوات شخوص الأقصوصات، وهي كذلك شظايا "المرايا المكسرة" العاكسة لصورها في عمق بعدها الروحي المنكسر.

 تستمر تقنية الاهتمام بعتبة الاستهلال مع الكاتب، في عتبات الوحدات السردية التي أعطاها صفة المرايا، حيث ألحق ب بكل مرآة عتبة خاصة بها، هي أقرب إلى مطلع استدلالي منها إلى العنوان، ناهيك أن كل أقصوصات الوحدة تمتلك عنوانها الخاص.

المؤلف الذي أعلن موته بالمطلع الاستهلالي، نفاجأ به عند منعطفات النصوص، يضيء للقارئ مسالك المرور، مصرا أن ينصهرا معا في بناء النص/الرؤيا. وذلك من خلال عناوين تلك المرايا، كما سماها، وهي الوحدات السبع، المكونة للمجموعة، والتي جاءت كالتالي:

- مع وقف التنفيذ: وتعكس إحدى عشرة ق.ق.ج

- حقائق صادمة : وتعكس تسع ق.ق.ج.

- رياح التغيير : وتعكس عشرة ق.ق.ج

- من وحي الواقع : وتعكس ستة عشر ق.ق.ج.

- من وحي التراث: وتعكس خمس ق.ق.ج.

- الشريد : وتعكس ست ق.ق.ج

- أحلام مؤجلة : وتعكس سبع ق.ق.ج

 قسّم محمد نور بنحساين مجموعته السردية، إلى وحدات، مركزا على وحدة الدلالة في كل مجموعة، مُسنِدا إلى عناوينها وظيفة الإبقاء على البعد التواصلي مع القارئ؛ ينعش فكره، ويحرضه للبحث عما يكمن وراءها من أحداث وشخصيات وأسرار حياتية، وأنواع لتشكلات الذات الإنسانية. وهي كلها قضايا تصدم القارئ بعريها حد الاستفزاز. وقد تثير فيه مشاعر الرفض، وكأن الكاتب في نصوص عناوين هذه الوحدات قد رفع من إيقاع "اللاتوقع"، فعندما يجد القارئ نفسه أمام مضامين تعري خفايا النفس البشرية، من ضعف أمام الخيانة، وشهوانية مكبوتة. أو التوق إلى الانعتاق حد الجنون. فانه حتما يكتشف عن موزاييك التناقض المتحكم في النفس البشرية. ومدى المرارة الطافحة من التناقضات الاجتماعية؛ مرارة تدين التناقض المخل بإنسانية الانسان، حين يتوسع الشرخ بين المحامي والمثقف وسلوك أهل النخبة في المجال العمومي.  

[1] - محمد نور بنحساين :" المرايا المتكسرة " - " – منشورات أم سلمي – الطبعة 1 تطوان - 2017

[2] - صالح هويدي: كيف نتعرف على القصة القصيرة جدا -المقع الإلكتروني مديل إيست أونلاين - 2017

[3] الشاعر الفرنسي شارل بودلير: أوردها الناقد أدوار سعيد في كتابه : " البدايات : القصد والمنهج"

[4] - عبد العالي الصعيدي : كتاب " الإيضاح في تلخيص المفتاح في علوم البلاغة" - نشر دار الآداب المصرية – طبعة سنة 2000

[5]- صبحي حديدي : أدوار سعيد الناقد الأدبي – مجلة بدايات الفصلية – شتاء 2014

[6]- نفسه

[7] - صبري حافظ : مقال بعنوان " البدايات ووظيفتها في النص القصصي " مجلة الكرمل : العدد 21/22 – 1986

[8] - نفسه

وسوم: العدد 877