النشر مسك والوجوه دنانير

حديث في الأدب :

وأحدثكم عن رقة الأعراب ، ورفاهة مشاعرهم ، وأناقة ألفاظهم ، وبلاغة تراكيبهم ، وبديع صورهم ..ونقول من بدا جفا ، ولكنه جفاء غير جفاء اللفظ والمعنى والتفكير والتقدير وما أحب أن أكثر وإنما نحب أن نَطعم فنُطعم ..

وكثير منا يحفظ ويردد ..

ليس من مات  فاستراح بميْت .. إنمـا الميْت ميّت الأحيـاء

إنما الميْت مـن يعيش ذليـلا ..سـيّئا باله قليـل الرجـاء

يعجبنا في البيتين أنس الألفاظ ، وجمال المعنى ، ودقته ورقته ، وفلسفته ، ومقاربته لحقيقة الحياة والموت في آفاق الحقيقة والمجاز . ونظن حين نحفظه ونردده أنه سقي من لبن الحضارة ، وغذي على لباب الآداب ، وطُعّم بقطوف الحكمة ، وأن قائله وفاتق معناه قد عايش حضارة الإسلام ، وسمع من " كتاب الله ( أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاء ) أو ( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ) ثم تنظر فتجد أن البيتين لشاعر عربي قديم قديم .. حفظ شعره صاحب الأصمعيات فخلده ، وقدمه ..ولا تدري عندما ترويه ، أنك تروي كلاما مرت عليه القرون ، وانطوت دونه الآباد ، وأن هذين البيتين عمرهما في دوران السنين قريبا من ألفي عام ، وما تزال لغتهما غضة ، وحلتهما قشيبة ، وما زالا حبيبين إلى القلوب ، يدوران على الألسن ، مجسدين لواقع حال ..

ولكن الميْت ميت الأحياء ..

إنما الميت من يعيش ذليلا .. سيئا باله قليل الرجاء

والبيتان من مقطوعة رواها الأصمعي في الأصمعيات . والأصمعيات لعبد الملك بن قريب الأصمعي ، من أوائل المختارات من الشعر العربي . لم يسبق إلى هذه الطريقة في تخليد أجمل الشعر غير المفضل الضبي في مجموعته التي تدعى المفضليات . ثم نهج الأصمعي على نهجه . ثم تبعهما أبو تمام في مختاراته المشهورة تحت عنوان : ديوان الحماسة .

ومطلع المقطوعة كما في الأصمعيات :

ربما ضربة بسيف صقيل .. دون بصرى وطعنة نجلاء

والشاعر : عدي بن رعلاء الغساني - جاهلي قديم ..والرعلاء أمه . وغلبت على اسمه ونسي اسم أبيه . ولا تستغرب ذكر الشاعر بصرى فهو غساني . وكان يتردد على دمشق فيقيم فيها ..

ثم تحفظ من شعرهم وتظل تردد فما تمل الترديد..

ولقد مررت على اللئيـم يسبني .. فمضيت ثُمّت قلت لا يعنيني

غضبانَ ممتلئـا  علـيّ إهابـه ..إني وربـك سـخطه يرضيني

فتظن نفسك أمام شاعر إسلامي أموي أو عباسي ، كالذي يحكى عن حلماء العرب في الإسلام مثل الأحنف ابن قيس ونحوه . وتستأنس بالألفاظ حين لا تجد فيها غريبا ولا حوشيا ولا جافيا ولا بعيدا ، وترتاح إلى التركيب فلا معاظلة ، ولا تكلف ولا تربيع ولا تدوير ..

وربما تستوقفني وتستوقفك القيمة الأخلاقية الجميلة الكامنة في الأبيات أكثر . في الإعراض عن السفيه أو اللئيم - وما أكثر - ومع علم الشاعر أن هذا اللئيم يسبه إلا أنه يخرّج موقفه منه على طريقتين ؛ أن يتجاهله فيقول : سبابه هذا أقل من أن أفكر فيه ، وان أشغل نفسي بالجواب عليه ، أو أنه يقول لنفسه إن هذا السباب لا يعنيني بل إن هذا " الطعان " يريد رجلا غيري ..!!

ثم يزيدك : سأترك هذا الذي امتلأ - إهابه - جلده سخطا وغضبا عليّ ليموت بغيظه ، لأنني لو رددت عليه لفرجت عنه بأنني نزلت إليه .. ونتذكر أن ( قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ ) قرآنية . ونتذكر أمام النهج الذي انتهجه الشاعر الكريم لنفسه ، قول الرسول الكريم : "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" .. وما أكثر ما قرأنا في الكتاب العزيز الأمر بالإعراض . وبمرور الكرام . و النهي ألا تقعدوا معهم ..

ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام شاعر جاهلي قديم قبل البعثة النبوية بنحو قرن من الزمان. شاعر سيد من بني حنيفة سادة الصحراء . وكان الملك المنذر قد شرى من الشاعر الأمان فأبى أن يبيعه ، ثم عدا الشاعر على المنذر ملك الحيرة فقتله ، في حكاية تطول..

ومرة ثانية أسائلكم عن أنس الألفاظ ، وسمو المعاني ، وجمال التركيب ، ورقة الأسلوب ..

وكوننا نتواصل مع شاعر قضى قبل ألفي عام ..وتذكروا أن غير طالب الآداب الانكليزي لا يسمو إلى لغة شكسبير ، وغير طالب الأداب الفرنسي لا يقرأ حكايات لافونتين من 400 سنة فقط ..!! هي هي لغة القرآن ..

ثم أختم لكم المقام - وقد اشتهيت أن أقارف اختصاصي - بهذا البيت الجميل ، وكأنه قطيفة من مخمل ، أو طاقة ورد من حديقة وليس من بستان ..للمرقش الأكبر يصف نساء قومه وجمالهن وكمالهن في متتالية من الصور والتشبيهات الأنيقة البليغة :

النشر مسك . والوجوه دنانير . وأطراف الأكف عنم

ففي أي بادية نشأن هؤلاء الرعابيب ؟!

 والنشر الغمامة تنتشر من الإنسان حين يقبل عليك . يمر فيمر في غمامة من مسك. وليس في مفهوم حديث رسول الله " إن المرأة إذا استعطرت لتمر بمجالس الرجال فهي ..." ما يفهم منه بعض الناس . فالغاية من الاستعطار قيد عليه . فالنشر مسك يضوع ، والوجوه في صفائها ونعومتها ونضارتها مثل الدنانير وتذكروا يومها كانت الدنانير تضرب من فضة أو ذهب . ثم أطراف الأنامل عنم : نبت أحمر لطيف تشبه به أنامل وأظافر اللطيفات . ويبدو أن صنعة المنكير عمرها ألفا عام في بادية العرب يا قوم .. في بادية العرب حيث المها والظباء

والتأمل في هذه المعاني ، والعيش معها أجدى وأقرب وأمتع مما تدعونني إليه ..

فقط أحببتُ أن أحبب إليكم صنعة الأدب ..

وسامحوني إذا أسأت ..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 884