فن الرواية الاجتماعية عند فاضل السباعي

بيان

باسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على أشرف خلق الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.. ثم أمّا بعدُ

فلا شك أن فن الرواية لعب دورا مهمّا وحيويّا في تناول مشكلات المجتمع والتعبير عن هموم وآلام الناس يستوى في ذلك الفن الروائي في الشرق والغرب، إذ لا تخلو الحياة من المنغصات والمتاعب التي ألقت بظلالها على كُتاب الرواية الذين هم من أفراد المجتمع يتأثرون به ويؤثّرون فيه .

وتُعد الروايةُ وسيلةَ التواصلِ الحقيقيةِ بين " الراوي " والمجتمع ، إذ يوظّفُ إمكانياتِه السرديةِ في تناولِ الوقائعِ والأحداثِ والصراعاتِ والمفارقاتِ المعيشيةِ والحياتيةِ والدينيةِ التي تخصُّ الإنسانَ في حياتِه، لذلك تنوّعتْ موضوعاتُ الروايةِ – منذ نشوءِ فنِّ الروايةِ – بدايةً من قصصِ الحُبِّ الملتهبةِ ومعاناةِ المحبين مرورا بالقصصِ التاريخيةِ والواقعيةِ والسياسيةِ والخياليةِ والتعليميةِ وحتى الفانتازيةِ.

وقد اختلفَ الروائيونَ في تناولِهم للروايةِ الاجتماعيةِ - التي تستهدفُ في المقامِ الأولِ ما يمورُ به المجتمعُ – من حيثُ الطرحِ والصياغةِ وطبيعةِ المشكلةِ والحلِّ. ومع ذلك تبدو طبيعةُ المجتمعاتِ العربيةِ واحدةً داخلَ الإطارِ الروائيِّ والنسقِ الفكريِّ المهيمنِ على نفسيّةِ الكاتبِ .

وبالنظرِ إلى الروايةِ السوريةِ نجدُ أنها تناولت العديدَ من القضايا التي يعجُّ بها المجتمعُ، بدايةً من محاولاتِ شكيبِ الجابريِّ ومعروفِ الأرناؤوط، وحتى الثلاثة الذين يُعدون الجيلَ الذهبيَّ للروايةِ السورية وهم: عبدُ السلامِ العجيليّ وحنا مينه وفاضلٌ السباعيّ .

وبالتوقف عند أعمالِ الروائيِّ فاضلٍ السباعيِّ وجدتُه من القلائل الذين أجادُوا في فنِّ الروايةِ الاجتماعيةِ التي تتخذُ طابعًا تراجيديًّا في معظمِ الأحيان .

وهذا ما دعاني لأجعلَهُ موضوعَ هذا البحثِ، بالإضافةِ لعدة عوامل أخرى، منها:

1- أن الموضوعَ جديدٌ، وفي حدودِ علمي هو الأول باللغة العربية.

2- إلقاءُ الضوءِ على رواياتِ فاضلٍ السباعيِّ التي تناولت موضوعاتٍ اجتماعيةً ثريةً.

3- فاضلُ السباعيُّ أحدُ العلاماتِ البارزةِ بين كُتابِ الروايةِ في سوريا والوطنِ العربيّ.

4- أسلوبُ فاضلٍ السباعيِّ المميزُ ولغتُه السلسةُ ونقلُ الواقعِ بطريقةٍ احترافيةٍ في ثنايا سطورِ رواياتِه.

5- تفرُّدُ فاضلٍ السباعيِّ في فنِّ الروايةِ الاجتماعيةِ، حيث انحازَ للمجتمعِ وهمومِه بعيدًا عن التنظيرِ والعباراتِ الإنشائيةِ.

وقد اعتمدتُ على المنهج الاجتماعي في دراسةِ روايات فاضل السباعي، لأهميةِ هذا المنهجِ في تناولِ هذا النمطِ من الرواياتِ كونه يربطُ بينها وبين بيئتِها ومحيطِها الاجتماعيِّ.

والمنهجُ النقديُّ في الأدبِ كما يقول عمادُ الخطيبِ، هو:" تلك الطريقةُ التي يتبعُها الناقدُ في قراءةِ العملِ الإبداعيِّ والفنيِّ قصدَ استكناهِ دلالاتِه وبنياتِه الجماليةِ الشكلية".

أما عن المنهج الاجتماعي، فيقولُ الناقدُ الفرنسيُّ الشهيرُ ﺑﻴﻴﺮ ﺑﺎرﺑﻴﺮﻳﺲ Pierre Barberis أحدُ روّادُ النقدِ الاجتماعيِّ: "الأدبُ ظاهرةٌ اجتماعيةٌ، والأديبُ لا يُنتجُ أدباً لنفسه وإنما ينتجُه لمجتمعِه منذُ اللحظةِ التي يُفكّرُ فيها بالكتابةِ وإلى أن يُمارسَها وينتهيَ منها".

ويرى الفيلسوفُ الفرنسيُّ دي بونالد أن: "الأدبَ تعبيرٌ عن المجتمع".

وذهبت الروائيةُ والناقدةُ الفرنسية مدام دي ستايل إلى: " أننا لا نستطيعُ فهمَ الأثرِ الأدبيِّ وتذوّقِه تذوقاً حقيقياً في معزلٍ عن المعرفةِ والظروفِ الاجتماعيةِ التي أدّتْ إلى الإبداع" .

وهو ما أكده الناقدُ والفيلسوفُ الأمريكيُّ جيروم ستولنيتز بقوله: " العبءُ المُلقى على عاتقِ النقادِ هو وضعُ جسورِ بين المجتمعِ والفنون".

و "الكتابةُ الأدبيةُ ليست في حقيقتها إلا امتداداً للمجتمعِ الذي تكتبُ عنه وتكتبُ فيه معاً، كما أنها ليستْ نتيجةً لذلك إلا عكساً أميناً لكل الآمالِ والآلامِ التي تصطرعُ لدى الناسِ في ذلك المجتمعِ".

ويتحدثُ إبراهيمُ عوضٌ عن استخدامِ المنهجِ الاجتماعيِّ في الأدبِ العربيِّ قائلاً: " وكان طه حسين من أوائلِ النقادِ العربِ المحدثين الذين ساروا في نقدِهم على أساسٍ من المنهجِ الاجتماعي. وقد ظهر ذلك في دراستِه الأولى عن أبي العلاء المعري، التي حصلَ بها على درجة الدكتوراه من الجامعةِ المصريةِ القديمةِ قبل سفرِه إلى فرنسا وحصولِه على الدكتوريه في التاريخِ الإغريقيِّ والرومانيِّ.. فأبو العلاء عند طه حسين، صورةٌ مرتبطةٌ بواقعٍ هو ثمرةٌ لتأثيرِ الزمانِ والمكانِ والبيئةِ والعنصرِ والجنسِ وما يرتبطُ بذلك من ظروفٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ وثقافيةٍ. ولهذا نراه يُعَنونُ فصول هذه الدراسة على النحو التالي:" زمنُ أبي العلاء ومكانُه"، " شعرُ أبي العلاء"، " الحياةُ السياسيةُ في عصرِ أبي العلاء"، "الحياةُ الاقتصادية"، " الحياةُ الدينية"، " الحياةُ الاجتماعية"، "الحياةُ الخلقية"، " الحياةُ العقلية"، " قبيلتُه"، "أسرتُه"، وغيرُ ذلك من تفاصيلِ حياتِه وأخلاقِه وعلمِه وعلاقاتِه بالناس".

ويتكونُ البحثُ من مقدمةٍ وتمهيدٍ وثلاثةِ فصولٍ وخاتمةٍ والمصادرِ والمراجعِ.

المقدمة: تشملُ الدراساتِ السابقةِ في الموضوعِ، وسببَ اختيارِ البحثِ، ومنهجَه، ومكوناتِه .

التمهيد: سيرةٌ موجزةٌ لفاضلٍ السباعي تتناولُ النشأة والتكوينَ والمواقفَ الاجتماعيةَ؛ ثم الإنتاجَ الأدبيَّ والفكريَّ الذي نشرَه الكاتبُ.

الفصل الأول: الفكرةُ الأدبيةُ.

الفصل الثاني: تجلياتُ الواقعيةِ الاجتماعيةِ في رواياتِ فاضلٍ السباعيِّ

الفصل الثالث: البناءُ الفنيُّ.

ثم خاتمة:

دراساتٌ سابقةٌ :

وتجدرُ الإشارةُ إلى أن هذا البحثَ هو أولُ بحثٍ يتناولُ بالتحليلِ رواياتِ فاضلٍ السباعيِّ .

إنّ فاضلاً السباعيَّ نمطٌ فريدٌ من بينِ الروائيين، أخلصَ لحرفةِ الأدبِ، والتحمَ مع قضايا مجتمعِه وأمتِه، حيثُ شكلتْ العلاقاتُ الإنسانيةُ محورَ أدبِه، سواءً في الروايةِ أو القصةِ القصيرةِ..

أرادَ السباعيُّ – دائماً- أن ينتصرَ لقيمِ الخيرِ والحقِ، في نفسِ الوقتِ الذي يحملُ فيه على الشرِّ وأنصارِه، مستخدما براعتَهُ اللغويّةَ وملكَتَهُ الأدبيةَ، ولعل هذه الحقيقةَ التي رصدَها الباحثُ، تتماهى مع ما قالَه القاصُّ الأعظمُ أنطون تشيخوف في رسالة إلى صديقه:

"دعني أذكرك بأن الكتابَ الخالدينَ أو الموهوبينَ الذين يؤثِّرونَ في وجدانِنا، يملكون فيما بينهم صفةً عامةً ومشتركةً قد تكون الهدفَ الأساسيَّ مِن أدبِهم، وهي أنهم يهدفون إلى شيءٍ ويدعونَ إليه أيضاً، ولذلك تشعرُ – لا بعقلِك- ولكن بوجدانِك كلِّه، أن لديهم هدفًا.

بعضهم لديه أهدافٌ مباشرةٌ تخرج عن نطاقِ الدعوةِ إلى الدعايةِ، كمحاربةِ الإقطاعِ والقضاءِ على الاستعمارِ، أو كالسياسةِ، أو حبِّ الجمالِ، أو مجرّدِ الفودْكا، وآخرون لديهم أهدافٌ بعيدةٌ ميتافيزيقيةٌ: كاللهِ والقدرِ، والحياةِ بعد الموتِ، والسعادةِ الإنسانيةِ.. وإن أحسنَهم كتابٌ واقعيون يُصوِّرون الحياةَ كما هي.

ولكن على الرغم من أن كلا منهم يستغرقُهُ هدفٌ واحدٌ، فإنك تشعرُ في أعماقِهم لا مجردَ الحياةِ كما هي، بل الحياةُ كما يجبُ أن تكون، وأن هذا ليستحوذُ عليك. أما نحن فنصوِّرُ الحياةَ كما هي، أما فيما وراء ذلك فلا شيءَ على الإطلاق".

عمد فاضلٌ السباعي، إلى تقديم صورةٍ نابضةٍ وحيةٍ عن مجتمعِه الذي عاش فيه ، وعايشَ آلامَه وهمومَه متخذاً مِن الأسرةِ التي هي عمادُ المجتمعِ والأمةِ مُنطلقًا.

عالج السباعي العديد مِن قضايا المجتمع.

توصّلت الدراسة إلى عدد مِن النتائج على النحو التالي:

تفوّقُ فاضلٍ السباعيِّ في مجالِ الرّوايةِ الاجتماعيةِ التي تقومُ حولَ رصدِ مشكلاتِ المجتمعِ وهمومِه المتنوعةِ المُعقّدة، التي تتناولُ شتى الطبقاتِ.. بسلاسةٍ وعفويةٍ، ودونَ افتعالٍ.

تميزت أعمالُ السباعي بالواقعيةِ، كونها نتاجَ تجاربٍ عاشها الروائيُّ، أو اقتربَ مِنها.

جاء موقفُ السباعي مِن المرأةِ متوازنًا، فمثلما رصدَ المرأةَ اللعوبَ ( كما في روايات ثريا ورياح كانون والظمأ والينبوع) رصدَ المرأةَ المكافحةَ المثابرةَ الشريفةَ التي تكافحُ الفقرَ والحرمانَ وتُربي وتُعلم أولادَها ( كما في رواية الظمأ والينبوع).

أما دورُ الدينِ فقد كان خافتًا في رواياتِ فاضلٍ السباعي، فجاءتْ مجرّدَ ومضاتٍ عابرٍ للحديثِ عن الدينِ، مع بعض عبارات التجديف التي كانت تًعبّرُ عن قلقٍ إيماني لدى بعضِ الشخصياتِ.

استطاع فاضلٌ السباعي أن ينقلَ همومَ المجتمعِ في فترة الخمسينياتِ والستينياتِ في مصر وسوريا عبرَ رواياتِه.

كما انتصر لقضيةِ الحريةِ، مِن خلالِ روايةِ "الطبل" التي شكلتْ قناعًا أعلنَ فيه السباعيُّ رفضَه للديكتاتوريّةِ.

ومِن الناحية الفنية، فقد تميزت لغة فاضل السباعي، بإتقانٍ وتميزٍ شديدين، عباراتُه سليمةٌ لغويًّا وتخلو مِن الغموضِ والإبهامِ، كما أثبتَ قدرتَه في التعاملِ مع تقنياتِ السردِ، سواءً الوصف أو الحوار، أو الرسائل، أو الصور البلاغية، أو التأثر بالقرآن الكريم عبر الاقتباسِ – التضمين.

ومثلما قدَّم الشخصيات في إطارٍ مِن الواقعيةِ، جاء المكانُ كذلك وقد اختصّ (حلب) المدينةَ التي وُلدَ فيها بحيزٍ كبيرٍ في رواياتِه، لتأتي القاهرةُ التي عاش فيها في المرتبةِ الثانيةِ.

رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه.

إنه من هدي رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم " من لا يشكرُ الناسَ لا يشكرُ الله" ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أتوجه بالشكر والتقدير لأستاذي ومُعلمي العالم الموسوعي الكبير الدكتور إبراهيم محمود عوض، فلسيادته كل الشكر وعظيم الاحترام.

وأتقدم بالشكر والعرفان مِن أستاذي الجليل العَلَم الدكتور محمد إبراهيم الطاووس، على ما بذلَهُ مِن رعايةٍ واهتمامٍ وتوجيهاتٍ قيِّمةٍ أضاءتْ وأضافتْ من خلالِ البحثِ، فلسيادته عظيم الشكر والتقدير.

وإلى أستاذتي القديرةِ الدكتورة هدى عطية عبدالغفَّار التي أولتْني طوالَ رحلةِ البحث توجيهاتِها البناءةَ وتعليقاتِها التي أفدتُ مِنها، وسعيَها الدؤوب لأن يرى هذا البحثُ النورَ، فلسيادتها عظيم الشكر والتقدير.

كما أتقدمُ بالشكر الجزيلِ للناقد الكبير أستاذي الدكتور أسامة محمد البحيري، لقبوله مناقشة هذا العملِ المتواضعِ.. فلسيادته خالص التحية والتقدير.

اسأل الله تعالى أن يجزيهم كل خير وبركة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

ويطيبُ لي أن أعترف بالامتنان لأبي وأمي الكريمين وإخوتي وأن أهدي إليهم هذا العمل المتواضع.

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب والحمد لله رب العالمين.

وسوم: العدد 890